الحروب الإقتصادية المتعلقة بأسعار صرف العملات والمضاربة عليها هي أكثر أنواع الحروب التي يخشى من وقوعها لأن لها إنعكاسات خطيرة منها الكساد الإقتصادي. أزمة الجنيه الإسترليني سنة ١٩٩٢, البيزوز المكسيكي سنة ١٩٩٤, الروبل الروسي سنة ١٩٩٨ هي أمثلة على الحروب الإقتصادية ولكن العلامة الفارقة كانت الإعلان عن فك الإرتباط بين الدولار الأمريكي والذهب بشكل نهائي سنة ١٩٧١ في محاولة بدأت السنة التي تسبقها لخفض قيمة الدولار الأمريكي. وحتى نعرف التأثير المدمر لتخفيض قيمة عملة بلد ما أو زيادة قيمتها يكفي أن نعرف أن محاولات فك إرتباط الدولار الأمريكي بالذهب والتي بلغت ذروتها بإعلان الرئيس الأمريكي نيكسون سنة ١٩٧١, قد أدت إلى إرتفاع في أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف لأن مبيعات النفط كانت تتم بالدولار الأمريكي الذي كان يتمتع بثقة المستثمرين كونه مرتبط بالغطاء الذهبي وإثر قرار نيكسون فقد خسر تلك الثقة. الصين أيضا متهمة من قبل خصومها بالتلاعب بقيمة تصريف عملتها (اليوان) وخصوصا عن طريق شراء سندات الدين التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية لإبقاء الطلب على الدولار مرتفعا وبالتالي الإبقاء على قيمة منخفة لليوان مما يسهم في زيادة الصادرات الصينية وإنخفاض أثمانها. وحتى يكون فهمنا للموضوع أوسع وأشمل, علينا دراسة وتحليل الظروف التي تجد دولة معينة نفسها مجبرة على تخفيض قيمة عملتها أو حتى رفعها. إن تلك النوعية من الحروب الإقتصادية تجري على المستوى الدولي ولكنها مدفوعة بعوامل داخلية مثل تباطى النمو الإقتصادي داخليا مما يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة, قطاع بنكي ضعيف وقطاع تمويل متعثر. في ظل تلك الظروف يصعب توليد إنتعاش إقتصادي يكون مدفوعا بعوامل نمو داخلية ويكون الحل الوحيد هو تخفيض قيمة العملة وإنعاش سوق الصادرات مما يؤدي إلى زيادة السيولة المالية وخلق المزيد من فرص العمل. إن الناتج المحلي الإجمالي(GDP) لأي بلد يعتمد على خمسة عوامل (١) الإستهلاك C(٢) الإستثمارات I (٣) الإنفاق الحكومي G (٤) إجمالي الصادرات وثبات نسبتها X (٥) تناقص معدل الواردات M. GDP = C + I + G(X-M) خلال فترات التباطئ الإقتصادي تعاني الإقتصادات المحلية من محنة الكساد حيث يتباطئ الإستهلاك(C) وينخفض الإنفاق نتيجة زيادة نسبة البطالة أو زيادة الدين أو كليهما. الإستثمارات(I) في مجال الإسكان والمعدات وخطط إقتصادية جديدة حيث يمكن قياس ذالك نظريا بشكل مستقل ولكن يبقى مرتبطا نوعا ما بالعامل الأول حيث أن المستثمرين يترددون في وضع خطط إقتصادية لبناء المزيد من المصانع في حال كانت هناك مؤشرات على تباطئ معدل الإستهلاك للسوق المحلية. زيادة الإنفاق الحكومي(G) هو أحد الحلول التي يتم اللجوء إليها في حال تباطئ الإستهلاك المحلي وهبوط مستوى الإستثمارات في بناء المصانع الجديدة وتوفير فرص العمل. مثال بسيط هو إنفاق الحكومة الأمريكية مبلغ ٥٠ مليار دولار أمريكي أثناء الركود الإقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية ٢٠٠٧-٢٠٠٨ وذالك في محاولة لتحفيز السوق ورفع الناتج المحلي الإجمالي. المشكلة أن خيار زيادة الإنفاق الحكومي يكون إما باللجوء إلى زيادة الضرائب أو الإقتراض وكلاهما خياران غير مفضلان وخصوصا في أوقات الأزمات الإقتصادية بالنسبة للمواطنين الذي يتبعون سياسة شد الأحزمة. الخيار الأخير الذي يمكن اللجوء إليه في تلك الحالة هو (X-M) عن طريق إجراء تخفيض في قيمة العملة وفرض تعريفة جمركية عالية على الواردات بما قد يخالف أحيانا نص الإتفاقيات التجارية المعنية برفع القيود عن التبادل التجاري. تخفيض قيمة العملة ليست عملية إنسيابية بدون مشاكل فهي أشبه بسرقة النمو من دولة أخرى في سوق منكمش إقتصاديا بموارد محدودة تزداد فيها المنافسة على حصة من الكعكة أو حتى الفتات المتساقط منها. سوف أعطي مثال يعقبه شرح مبسط لنوعية المشاكل التي تعترض إنسيابية الحركة التجارية في حالة تخفيض بلد ما لقيمة عملتها. لنفترض أن سعر سيارة ألمانية هو ٣٠ ألف يورو وأن سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل اليورو هو ١.٤٠ دولار مما يعني أن سعر السيارة بالدولار الأمريكي هو ٤٢ ألف دولار. في حالة إنخفاض قيمة اليورو أمام الدولار ليصل إلى ١.١٠ دولار فإن سعر السيارة في تلك الحالة سوف يصل إلى ٣٣ ألف دولار مما يجعلها أكثر جاذبية للمستهلك الأمريكي بدون أن يتغير شيئ على المنتج الألماني فهو مازال يبيعها باليورو وما يؤدي إلى زيادة فرص العمل وإنخفاض البطالة وتشجيع الواردات الألمانية من السيارات لسوق الولايات المتحدة الأمريكية. التأثير سوف يكون سلبيا على سوق السيارات في الولايات المتحدة حيث سوف يكون الحل بخفض السعر والأرباح أو مثلا بتخفيض قيمة الدولار مقابل اليورو عن طريق طباعة الدولارات أو تخفيض سعر الفائدة لجعل الدولار كعملة أقل جذبا للمستثمرين الأجانب. سوف يكون الكلام السابق قابلا للتطبيق بدون مشاكل وبإنسيابية عندما يكون تصنيع السيارة شاملا كافة المواد الأولية المستخدمة في ذالك والعمالة المستخدمة والمصنع في ألمانيا وليس في بلد أخر وليس سيارة ذات تصميم ألماني, الهيكل صنع في الصين, المحرك أمريكي, المواد الأولية من نصف دزينة من البلدان المختلفة. في تلك الحالة فإن السيارة لمن يبتاعها من الخارج تبدو رخيصة السعر مقارنة بغيرها ولكن داخليا فإن الإقتصاد الألماني سوف يكون هو المتضرر وبالتحديد قطاع صناعة وتصدير السيارات. هناك مثال ممكن أن نستعين به عبارة عن سيناريو مصغر لحرب جوهرها إقتصادي بين دولتين هما الصين واليابان. سبب تلك الحرب أن الصين التي تسيطر على أغلب الإنتاج العالمي مما يعرف بالمعادن الأرضية النادرة(Rare Earth Elements) قد قررت في شهر يوليو ٢٠١٠ لسبب غير معروف تخفيض إنتاجها من تلك المعادن بمقدار ٧٢%. تلك المعادن ذات الإنتاج المحدود تستخدم في تصنيع السيارات والإلكترونيات وخصوصا في اليابان التي تعد المستورد الاكبر لتلك الخامات من الصين والتي تضررت وبشدة من ذالك القرار. بتاريخ ٧ سيبتمبر ٢٠١٠ حصل حادثة عبارة عن تصادم بين سفينة صيد صينية وقارب دورية لخفر السواحل في اليابان في منطقة قرب جزيرة معزولة في بحر الصين الشرقي حيث تزعم كلتا الدولتين أن الجزيرة والمياة الإقليمية حولها تتبع لطرف دون الأخر. البحرية اليابانية قبضت على كابتن سفينة الصيد الصينية وإحتجزته مما أدى غضب شديد من قبل الحكومة الصينية وطلبها إطلاق سراح كابتن سفينة الصيد وتقديم إعتذار فوري. الحكومة اليابانية قامت بإطلاق سراح كابتن سفينة الصيد الصينية ولكن عندما لم يعقب ذالك الإعتذار الياباني فقد قامت الحكومة الصينية بتعليق كافة عمليات تصدير تلك المعادن النادرة لليابان. الحكومة اليابانية قامت بالرد بتاريخ ١٤ سيبتمبر ٢٠١٠ حين فاجأت الصين بتخفيض قيمة العملة اليابانية (الين) بنسبة ٣% أمام العملة الصينية (اليوان) مما أضر بسوق التصدير الصيني للمنتجات المنخفضة الثمن لليابان مقارنة ببلدان أخرى كأندونيسيا وفيتنام. الوضع بين الدولتين تحسن في الشهور اللاحقة حيث تم إطلاق سراح كابتن سفينة الصيد الصينية وتم إصدار إعتذار رسمي للصين وإستئناف صادرات المعادن الأرضية النادرة ونتيجة لكل ذالك فقد عادت قيمة الين مرتفعة أمام اليوان. بخصوص تلك الأزمة فقد تم تجنب الأسوأ وتعلم دروس وحكم كثيرة من مشكلة بدأت بسبب جزيرة صخرية غير مأهولة وكابتن سفينة صيد وكادت تنتهي بكارثة مالية وإقتصادية, ولكن الطرفان تعلما الدرس ومن المؤكد أنهم يشحذون سكاكينهم إستعدادا للمعركة القادمة. القرن العشرين جرت خلاله أحداث حربين إقتصاديتين, الحرب الأولى والتي إمتدت من سنة ١٩٢١-١٩٣٦ وشملت الكساد الإقتصادي العظيم في الولايات المتحدة الأمريكية. الحرب الإقتصادية الثانية جرت أحداثها بين سنتي ١٩٦٧-١٩٨٧ وتم تسويتها بإتفاقين عالميين هما إتفاق بلازا ١٩٨٥ وإتفاق اللوفار ١٩٨٧ وذالك بدون دخول أي حرب أو حصول حتى مناوشات عسكرية. إن تلك النوعية من الحروب الإقتصادية تعد مدمرة لجميع الأطراف ومن الصعب ان تنتهي طالما إستمرت بفوز طرف على حساب طرف أخر فهل نحن نعيش عصر الحروب الإقتصادية أو كما إتفقت تصريحات بعص المسؤولين الماليين والإقتصاديين بأن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت من فترة ليست بقصيرة؟ رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة: http://science-culture-knowledge.blogspot.ca/2014/10/blog-post_62.html الرجاء التكرم بزيارة الرابط عند الإنتهاء من الموضوع مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية النهاية
التعليقات (0)