العلمانية, ذلك المجهول عند الغالبية, تثير جدلا تتراوح وتائره بين القبول, والقبول ولكن, والقبول إن تعدلت بعض خصائصها أو سُمّيت "مدنية". و بين اللامبالاة الناتجة على عدم معرفة ماهيتها, والصد لها إلى حين توافر الشروط المجتمعية والتغيرات الذهنية. وبين الرفض المعلل, والرفض المطلق دون تعليل, والرفض مع التكفير وتهديد المبشرين بها بسوء المصير.
لم يُسلّم عشية الربيع العربي, وفي إطلالته, بقبول العلمانية على أنها وردة لا يكون للربيع رائحة دونها, ولا ألوان تقنع الآخرين بأنهم فعلا في الربيع. ( الربيع الذي إن لم يكن إلى اليوم قد اختُطف كله فقد اختطف جُله).
ومع ذلك لا بد من كلمة في العلمانية تبين بعضا من تاريخها, وجانبا من ضرورات استدعائها لواقعنا الذي لا تستقيم أموره بعيدا عن حضورها.
كانت العلمانية منذ العصور الإغريقية الضاربة في القدم و قبل, أن تأخذ اسمها
" العلمانية laïcité " تعمل, والى اليوم, على تحرير الإنسان وعتقه من تصورات وغيبيات تقيد عقله وترهبه, وتعيقه عن القيام بوظيفة التفكير. وترهن حريته. وكان تاريخ الفكر ينتظم حول حركتين أساسيتين متناقضتين: حركة تقوم على الاعتقاد المطلق, بما وراء الطبيعة, بتفرعاته وتسمياته. وأخرى ترتكز على استقلالية وفاعلية الفكر الفردي وعدم الارتهان للغيب.
ولعل أول من دفع حياته ثمنا لعودة العقل إلى وظيفته الأساسية في التفكير, هو الفيلسوف سقراط ( 470 ـ 399 قبل الميلاد). الذي يعتبر احد آباء الفلسفة الغربية وفلسفة الأخلاق, فقد سخر بأسلوبه الناقد من الاعتقادات الغيبية السائدة, التي كانت تأخذ , عند معتنقيها, صفة الحقائق المطلقة غير القابلة للجدل فيها, وكان يعبر عن شكه بذلك بقوله المشهور :"كل ما اعلمه إني لا أعلم شيئا". واتهم بإفساد عقول الناشئة لتشكيكه بالآلهة التي تسند إليها أصول هذه المعتقدات ـ الحقائق ( Platon, le procès de Socrate, Librio ). و أسس قضاته اتهاماتهم له على مرسوم ديوبتس Diopeithes الصادر عام 432 قبل الميلاد, الذي ينص على ملاحقة من لا يؤمنون بالآلهة المعترف بها من قبل الدولة. لم ينته سقراط , كفكر وفلسفة, بإجباره على شرب السم. فقد مهد طريقا سار عليه بعده, وعمقه فلاسفة آخرون كبار أشهرهم أفلاطون (428 ـ 348 قبل الميلاد). و أرسطو (384 ـ 322 قبل الميلاد) الذي ألقى نظرة جديدة على عمل العقل كأداة إدراك للظواهر والأحداث وتطورها.
في اليونان القديمة كان بين الحاضرة Cité والدين صلات وثيقة. وفي روما, كان القنصل هو القاضي المدني, وهو أيضا كبير الكهنة Grand pontife, إداري وديني. وعند العبرانيين كانت أعمال الملك ورجال الدين منفصلة. وفي المسيحية التي أصبحت دين الإمبراطورية الرومانية عام 380 جرى التمييز بين مدينة الله, والمدنية الأرضية, أي بين سلطة دينية تتولاها الكنيسة وعلى رأسها البابا, وأخرى زمنية يتولاها الإمبراطور. واحتذت هذا التمييز لاحقا, بقدر أو بآخر, الملكيات الغربية.
وفي فرنسا, العصور الوسطى, وان كان التمييز بين الملكية والمؤسسات الدينية واضحا, فان العلاقة بينهما لم تكن مفصولة أو ضعيفة. فالملك يتوج بمراسم دينية تضيف إليه صفة القداسة. ويصبح ممثل الله على الأرض. ويأخذ منها الشرعية الدينية, وبالمقابل فان المؤسسات الكنسية تعتمد على مساندة الملك لفرض احترام القواعد وممارسة العبادات الدينية. وللتصدي لغير المؤمنين ومحاربتهم. وهكذا بقيت علاقات عضوية بين الملكية والكنيسة مبنية على اللاهوت والسياسة. (Alain Bondeele, Analyse critique des discours sur la laïcité ).
دخل الميراث الفلسفي الذي تركه اليونان مرحلة النسيان بعد ان سادت المسيحية الإمبراطورية الرومانية, ليعود في القرن الحادي عشر والثاني عشر إلى الحياة, بفضل مساهمات المفكرين والفلاسفة العرب وترجماتهم, وبشكل خاص ابن سينا (980 ـ 1037 ) و ابن رشد ( 1126 ـ 1198 ).
في القرنين, الخامس عشر والسادس عشر, تحولت الحضارة الأوربية بعد سقوط القسطنطينية عام 1453 تحولا عميقا, فأصبح التراث الفكري للعصور القديمة في المجال الثقافي مرجعا هاما, وخاصة في مجال فقه اللغة والفلسفة. ومع اختراع المطبعة انتشرت بسرعة النصوص المكتوبة التي تنقل المعرفة . كما بدأت القراءات التفسيرية والناقدة تميز بين القواعد الدينية في النصوص المختلطة بالنصوص الأخلاقية والسياسية.
وفي القرن الثامن عشر انصب تفكير وأعمال مفكري العصر, مثل منتسكيو, وفولتير, جلن جاك روسو, وكوندورست وغيرهم, على صياغة النظريات والمفاهيم السياسية والقانونية . وظهرت أعمال في غاية الأهمية تتعلق بدور العقل, ومفهوم القانون وحقوق الأفراد, والتمييز بين الشعب والأمة, وفصل السلطات, ومفهوم التقدم. مفاهيم انتشرت في أوروبا, وفي فرنسا بشكل خاص. فمؤلف كوندورسه Condorcet 1743 - 1794 الفيلسوف ورجل السياسة الفرنسي كان يعتبر مرجعا سياسيا هاما ومن روائع القرن, فبروحية عصر التنوير, وعلى ضوء العقد الاجتماعي لروسو, أضاف بعدا عقلانيا لطروحاته. بفضل العقل, كما يرى, يمكن فهم الظواهر الإنسانية كظواهر فيزيائية physique . واقامة المؤسسات على قواعد صلبة. فالمؤسسات العادلة تعزز التلاحم الاجتماعي بالانتساب لقيم صيغت وقامت على التوافق المشترك. واعتبر العديد من مفكري العصر ومنهم ,بشكل خاص, شارل رينوفييه Charles Renouvier بان المثالي idéal و الأساسي في القرن التاسع عشر هو تعميق التفكير الفلسفي بالتأكيد على دور العقل النقدي كأساس لفكرة بناء الدولة. وكان اثر ذلك جليا في أسس التحولات التي كانت تنال الرضا والإجماع, ابتداء من عام 1770 .
و مع ذلك أخفقت العديد من محاولات التغيير المادي بهذا الصدد. إلى أن جاءت الثورة الفرنسية عام 1789. لم تكن ثورة ضد الدين . ولدت معها مفاهيم جديدة أخذت طريقها للتطبيق, مستندة على مبادئ تأسيسية , منها : علمنة أسس السلطة. فقد أعلنت المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن بان أساس كل سيادة يكمن في الأمة Nation . منهية بذلك تحالف التاج والهيكل الذي ساد في النظام القديم. ولم تعد الكاثوليكية دين الدولة. وتم الاعتراف بحرية الاعتقاد للناس جميعا فهم " أحرار ومتساوون إمام القانون". المساواة في الحقوق بين أتباع جميع الديانات. و فقدت الكاثوليكية الامتيازات التي كانت تتمتع بها في النظام القديم واضطرت للتعايش مع الأديان الأخرى.
و تمت علمنة الحالة المدنية, بعد أن كانت الكنيسة الكاثوليكية في النظام القديم مسؤولة عن كل العقود التي تخص الحياة المدنية للإفراد منذ الولادة إلى الوفاة. ومنذ دستور عام 1791 أصبح الزواج عقد مدني, و فقد بذلك خاصية عدم قابليته للفسخ. واعترف بالطلاق عام 1792.
لم تقبل الكنيسة الكاثوليكية إلغاء الثورة لامتيازاتها بسهولة. فقد رفض البابا اتفاقية التنظيم المدني لشؤون رجال الدين clergé. وقامت حروب فاندي Guerre de Vendée عام 1793 ـ 1801. مطلقة شعا ر: "في سبيل الله في سبيل الملك pour le Dieu pour le Roi ".
ولكن حركة ناشطة لإعادة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية, أعقبت انقلاب نابليون بونابرت في 18 نوفمبر 1799, واستغلها هو ليجعل من هذا النفوذ أداة لخدمة نظامه. ومع ذلك لم يعط الكنيسة الكاثوليكية الامتيازات التي كانت لها في النظام القديم, قبل الثورة. متحاشيا في اتفاقية le Concordat مع البابا, عام 1801 , الذهاب بعيدا في هذا الاتجاه. ــ في لجوئه لاستخدام النفوذ الديني لتثبيت سلطته, أصبح بونابرت الانقلابي نموذجا احتذاه السياسيون الانتهازيون من بعده, بعيدا عن كل المبادئ التي كانوا يعلنون التمسك بها , ومنها العلمانية, والتاريخ غني بالأمثلة على ذلك , ويرد منها في زمن غير بعيد, لجوء السادات لتشجيع الحركات الدينية في مصر, في مرحلة معينة من حكمه لدعم سلطته وضرب معارضيه السياسيين جسديا وفكريا, وما فعله الأسد الأب ويفعله الابن اليوم من ينسب نفسه للعلمانية ويدخل في تحالفات حماية مع إيران الدولة الدينية ــ ومع ذلك فان الكنيسة أعادت بناء نفسها في ظل انحسار التجربة الثورية. رغم اعترافها بأولوية الدولة ودعم القانون المدني الذي أكد الصفة المدنية للزواج, و القبول بالطلاق. ولم تعد تعترف بالنظام القديم, وإنما اعترفت ببعض المنجزات الرئيسة التي حققتها الثورة. وما زالت الاتفاقية المذكورة مطبقة إلى اليوم في مقاطعات الالزاس Alsace و موسال Moselle ودوقية لكسمبورغ.
لا يمكن للكنيسة إقامة مجتمع مثل المجتمعات الأخرى, بخضوعها لقوانينها الخاصة, وعقائدها التي لا تحترم القانون العام إلا إذا لم يتعارض مع قوانينها الخاصة. تدخل رجالها يفسد الدولة ويهدد وحدتها واستقلالها. كما أنها تنشر ثقافة الخضوع والخنوع. تدخلها وبسط نفوذها في الحياة الخاصة يهدد وحدة الأسرة ومستقبل الناشئة. هذه الانتقادات إلى جانب أخرى, بدأت تظهر بشكل واسع منذ بداية القرن التاسع عشر. مما قوى وعزز المطالبات بالفصل النهائي والكامل للكنيسة عن الدولة. وبدأ التنظيم الفعلي لنضال من اجل العلمانية. رافق ذلك ظهور صحافة القرن التاسع عشر التي نشرت أفكار كبار مفكري العصر وأدبائه ومنهم ,على سبيل المثال, فيكتور هيجو, المعروف جيدا عند القارئ العربي لترجمة العديدة من مؤلفاته إلى اللغة العربية.
جاء قانون 1905 في فرنسا المتعلق بفصل الكنائس عن الدولة ليكون الإطار الذي تنظم فيه العلمانية. وقد أشار مجلس الدولة في تقريره النهائي إلى الصعوبات التي واجهاتها العلمانية في تطبيقاتها خلال مسيرتها. واعتبر أن الأساس القانوني الذي أقيمت عليه العلمانية الفرنسية يجب اعتماده. ولكن لا يعني ذلك منع اي تعديل لاحق عليه. وكان جان جوراس Jean Jaurès (1859 - 1941 ) من اشد المدافعين عن فصل الكنائس عن الدولة ومفندي حجج خصوم الفصل. والمدافع عن علمنة التعليم.
وقد ألغى القانون المذكور المرفق العام service public للديانات. وألغى من الميزانية الاعتمادات المخصصة لها. ودون أن يشير إلى العلمانية بشكل صريح فقد بناها على مبدأين أساسيين: حرية المعتقد. ومبدأ الفصل بين الدولة والكنائس. فالجمهورية " لا تعترف ولا تمول ولا تساعد أية ديانة".
وأشار التقرير إلى محتوى العلمانية محددا إياه في 3 نقاط:
ـ يفرض مبدأ العلمانية على المرافق العامة الحياد تجاه كل الاختيارات والمعتقدات الدينية. فالحياد هو القانون المشترك لكل عمال القطاع العام.
ـ لا يختصر مفهوم العلمانية بحيادية الدولة و لا بالتسامح . فهو لا يجهل الواقع الديني وتطبيق المساواة بين مختلف الأديان. وقد عملت أحكام المحاكم الإدارية على التوفيق بين الحرية الدينية والنظام العام.
ـ التعددية. من مكتسبات العلمانية ضرورة الاعتراف بحرية التعبير لكل الأديان. وبالمقابل فان على هذه الأديان ان لا ترفض المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة.
علمنة التعليم العام
فرض قانون 1850 في فرنسا علمنة البرامج في المداس الحكومية. وقانون 1905 فصل التعليم العام عن الخاص, باعتبار أن المدرسة تعد المواطنين وتكونهم, وتؤمن وحدة الأمة. والتعليم يحمل المصلحة العامة ويحميها. ولعل خطاب جورج دانتون G. Danton أمام الجمعية التأسيسية الفرنسية في 12 ديسمبر/ كانون أول 1793 في قيم الجمهورية ودور المدرسة في تدعيمها, مازال من الحجج القوية التي يقدمها أنصار علمنة التعليم في هذا المجال " في المدارس الوطنية يجب أن يرضع الطالب حليب الجمهورية. الجمهورية وحدة غير قابلة للتجزئة, وعلى التعليم العام أن يصب في مركز هذه الوحدة".ومنذ ذلك التاريخ والصراع محتدم بين أنصار التعليم العام والتعليم الخاص. إلى ان نظم قانون ديبريه عام 1959 المدارس الخاصة وأخضعها للقواعد التي يخضع لها التعليم العام. كوحدة البرامج واحترام حرية المعتقد. وأكد على علمنة التعليم ومجانيته وجعله إجباريا.
يعتبر المفهوم الفرنسي للعلمانية أكثر جذرية من المفاهيم المعروفة في دول أخرى. اذ يفرض على الدولة واجب احترام كل المؤمنين في معتقداتهم , مهما اختلفت, وتطبيق مبدأ المساواة على الجميع. واحترام أراء غير المؤمنين. وينظر المبدأ المذكور للإيمان الديني على انه من الخصوصيات الفردية. فمبدأ العلمانية مرتبط بشكل وثيق بمبدأ حرية التعبير. لكل إنسان حرية اعتناق الدين الذي يريد, وممارسة تعاليمه. طالما أن هذا الممارسة لا تضر بحقوق الآخرين. ومع ذلك فهناك بعض التقييد على هذه الحرية كان لا يرتدي الموظفون العامون خلال عملهم إي إشارات دينية. ومنع ذلك في المدارس العمومية. ولعل هذا يوضح الأساس المبني عليه في مسألة الحجاب الإسلامي المثارة حاليا في فرنسا.
يعتبر مفهوم العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية, في أصوله, من ارث عصر التنوير في أوروبا. فقد كتب توماس جفرسن (1743 ـ 1826) الذي صاغ إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 " كنت اعتبر دائما بان المسألة الدينية متعلقة بين الإنسان وخالقه, لا يحق فيها لآي شخص آخر وخاصة للشخص العام التدخل فيها". وتحدث عن ضرورة إقامة " جدار فاصل" بين الدولة والكنائس. كما كتب جورج واشنطن (1732 ـ 1799) " يتمتع الجميع بحرية متساوية في المعتقد وحماية المواطنية. حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا تقدم أي دعم للطوائف, تأمر فقط كل الذين يعيشون في حمايتها أن يتصرفوا كمواطنين صالحين. المعتقدات الدينية لأي شخص لا تحرمه من الحماية القانونية, ولا من ممارسة أعلى المناصب العامة الموجودة في الولايات المتحدة. ". واعتبر توماس بين أن" من أبشع أنواع الطغيان التي ضربت الإنسانية , الطغيان ذو الطبيعة الدينية".
في بلجيكا ضمنت المدة 3 من دستورها لعام 1831 حرية المعتقد وكان ذلك حصيلة اتفاق بين الليبراليين والكاثوليك عام 1827 والذي وصل إلى أن الدولة تأخذ على عاتقها رواتب ونفقات الوزارات الدينية ويشمل ذلك كل الديانات المعترف بها, بما فيها الإسلام.
وفي البرتغال ضمن دستور 1982 حرية المعتقد . ونص على فصل الكنيسة عن الدولة. ومنع على الأحزاب السياسية استعمال تسميات أو شعارات مرتبطة بدين معين. كما يجب أن تكون النقابات مستقلة عن الأديان.
في الدول ذات التقاليد البروتستانتية مثل بريطانيا والدنمرك تحتفظ الكنيسة دائما بوضعية رسمية. وهذا لا يتعارض, كما تعلن, مع حرية المعتقد التي تم التأكيد عليها في كل الديمقراطيات الحديثة.
في تركيا. أعلنت المادة الثانية من الدستور التركي لعام 1921 على أن تركيا دولة علمانية. وبذا تكون الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تعلن عن ذلك . معتبرا العلمانية في تركيا من مستلزمات exigence النظام العام. كما اردوغان وحزبه الإسلامي قبل بالعلمانية وسماها باسمها ــ وكفره المتطرفون المصريون لأجلها ــ وبخلاف ما هو الحال عليه في فرنسا, حيث رجل الدين لا يستلم رواتب ومخصصات من الدولة, يتلقى الأئمة السنة تكوينهم في مدارس الدولة التركية. ولا تعامل الأديان المختلفة في تركيا على قدم المساواة. فالأقلية الشيعية, والأقليات المسيحية, لا تتلقى نفس المساعدات من الدولة التي تحصل عليها الغالبية السنية.
يمكن القول إن العلمانية, وعبر التاريخ, عرفت مدا وجزرا, من حيث الانتشار, وعمقا وتسطيحا في المضمون. وليس الهدف هنا متابعة تطورها, والأسس الفلسفية والسياسية والقانونية التي قامت و تقوم عليها. وإنما نكتفي منها بما يتلاءم مع موضوعنا الحالي.
لا شك أن تاريخ العلمانية في أوروبا, ونضالها لفصل الكنائس عن الدولة, وطبيعة الأديان الموجدة فيها, من حيث وجود تنظيم كهنوتي لا وجود له في الدين الإسلامي, لا يتشابه مع ما هو قائم في منطقتنا, من القديم والى الآن, ولكن هذا لا يعني إننا غير معنيين بما أحدثته و رسخته من مفاهيم وقيم ومبادئ, ساهمت في بناء الدولة الحديثة على أسس الديمقراطية والقانون, والمساواة, وحقوق الإنسان, وضمان الحريات الأساسية, بما فيها حرية المعتقد, فأصبحت كالعلوم والمبتكرات العلمية, من حق الإنسانية كلها, ولها أن تأخذ منها ما يفيدها.
العلمانية مفهوم سياسي. وهي, بالمفهوم الواسع, النظام الذي يحترم حرية المعتقد للجميع. بمعنى ان الدولة العلمانية ليست في تبعية لأية فئة من سكانها. ولكنها دولة للشعب بأكمله. مع عدم التمييز بين الأفراد بمقتضى توجهاتهم في الحياة. والدولة العلمانية ليست بحاجة لمشروعية تستمدها من خارجها لإضافة قداسة خاصة لتبرير وجودها. فهي تستمد قوتها الوحيدة من انتساب وانتماء جميع المواطنين لها. فهم أساس السيادة فيها. و ليسوا مجرد رعايا للخضوع والتوجيه والاقتياد.الشعور الجمعي والفردي الحر والإرادي بالانتماء لنفس المجتمع ضروري بكل تأكيد لتماسك هذا المجتمع. فالعلمانية توفر للفكر النقدي ولإرادة الحرة وسائل العمل المتواصل لبناء الدولة الحديثة.
ومنه, تعمل العلمانية من اجل دولة لجميع سكان إقليمها. وترفع مبدأ المواطنية ليقوم على الاستقلالية الذاتية العقلانية والمساواة في الحقوق والوجبات. فتجعل من المواطنين أسياد أنفسهم قادرون على العيش بانتماءاتهم المتعددة, و بتوظيف هذه التعددية لاغناء معنى العيش المشترك, وإقامة الحوار البناء المتسامح بعيدا عن التقوقع ضمن انتماءات ومرجعيات مغلقة على نفسها, ترفض الآخر ولا تقبله إلا على انه آخر يمكن التعايش معه في حدود معينة, وفي مراحل ضرورية. ففي بلدان متعددة الأديان والمذاهب والطوائف والثقافات, توفر العلمانية "الحق في التباين " والعيش بتسامح وتآخ وتكافل, ضمن التباين الذي يغني المجتمع, و لا يفرقه ويضعف تماسكه, كما يروج أعداء العلمانية وأعداء الديمقراطية, الذين يرون في الوحدة الوطنية التشابه في كل شيء, والتماثل في العادات والتقاليد, والاتجاه الواحد في التفكير, ورفض كل ما يخرج عما هو مقرر ومرسوم من السلطة العامة, دينية كانت أو محسوبة على العلمانية.
العلمانية لا تتحقق بشكل طبيعي وصحيح الا في الدولة الديمقراطية ــ ولا قيمة لحجج أعدائها الذين ينسبون إليها مآسي نتجت وتنتج عن ممارسات أنظمة دكتاتورية شمولية. فهتلر بالنسبة إليهم علماني, وكذلك موسليني, وبينوشي, وحتى صدام حسين. مع العلم ان إسرائيل, بجرائمها وحروبها لا تدعي بأنها علمانية وإنما دولة دينية يهودية لكل اليهود, لا تحترم الأديان والطوائف الدينية التي تعيش فيها, وتعاملهم على قدم المساواة مع الدين الرسمي لها ــ التي تحترم الحرية الدينية, وبطبيعة الحال, كل الحريات الأساسية.
لا نريد العودة هنا إلى الحديث عن المواطنية ومفهومها وتعريفها فقد سبق أن خصصنا أكثر من مقال متواضع في محاولة للتعرف على بعض جوانبها, ومع ذلك من المفيد القول هنا مع انيسيه لو بورس Aniset Le Pors بان كل إنسان في النظام الديمقراطي يعتقد بأنه يعرف من هو المواطن. ولكن عدد قليل منا يعرف الحقوق والواجبات الملازمة للمواطنية كنظام أساسي statut.
إذا كان هذا هو الحال في فهم حقوق المواطنية في الدولة الديمقراطية العلمانية, فكيف يكون أذا الحال في دول استبدادية شمولية, لا دينية ولا علمانية؟
ـ كيف يمكن تصور مواطنية كاملة في ظل دولة تحابي فئة معينة من مواطنيها على أساس الانتماء الديني أو الطائفي أو المذهبي؟
ـ كيف يمكن أن لا يشعر المواطن بأنه مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة, حين لا يكون من أتباع الدين الذي حدده الدستور للدولة؟
ـ كيف يمكن أن تسود المواطنية في ظل الخلافات الطائفية والمذهبية المعلن منها والمستتر؟
ـ كيف يتعمق الانتماء للوطن, والإحساس به, في ظل التعصب الديني أ والطائفي أو المذهبي, وغياب قيم التسامح, وعدم والقبول بالآخر؟
ـ كيف يمكن الإحساس بالمواطنية عندما تكفّر طائفة طائفة أخرى, تشاركها العيش في نفس الوطن, وتنكر عليها حقها في التباين ؟
ـ كيف يمكن أن تتعمق المواطنية وتتجذّر في نفوس وعقول المواطنين, حين يتبع الولاء الامتداد الديني خارج الحدود, ليمنح للشريك في العقيدة ويحجب عن الشريك في الوطن الذي لا يحمل هذه العقيدة.
ـ كيف يمكن الحديث عن المساواة في المواطنية, في سيادة مفاهيم متخلقة تنسب باطلا للدين, للانتقاص من حقوق المواطنية للنصف الآخر المكون للمجتمع, المرأة, والنظر إليها بدونية وكأنها غير مؤهلة لممارسة كل المهام التي يمارسها الرجل, القضاء على سبيل المثال, علما بان قضاء مشهود له بالنزاهة والكفاءة والمهنية العالية من كل دول العالم, القضاء الفرنسي, تمثل فيه النساء نسبة 65 % , وكانت القاضية الأولى فيه, لمدة قريبة, امرأة , الرئيسة الأولى لمحكمة النقض Cour de cassation .
ـ وكيف يمكن للمسيسين للدين, دعاة إقامة الدولة الدينية, أن يبرروا دعواتهم بإقامة مثل هذه الدولة, في ظل الصراع الفكري, وغالبا الدموي, حتى داخل الطائفة الواحدة. وتكفير البعض للبعض الآخر الذي لا يشاركه حرفية التفسير والتفكير؟
وهل الأمثلة على ذلك في أيامنا هذه غير كافية؟: هل ظواهر التعصب والتطرف والشحن الطائفي تنقص منطقتنا, دون الحديث عن الانتحاريين, العابرين للأوطان, باسم الله والدين, لقتل من لا يشبههم حتى ولو كانوا من أبناء دينهم وطوائفهم؟.
أليست العلمانية في الدولة الديمقراطية, دولة القانون, وحقوق الإنسان والمواطن, والحريات الشخصية والعامة, والمساواة بين المواطنين, مهما كانت معتقداتهم الدينية والسياسية, هي الحل المناسب لمنطقتنا ؟
الم يحن الوقت بعد للتفكير المسؤول والبناء لإعادة بناء الدولة في هذه المنطقة من العالم على أسس العلمانية والديمقراطية, بعد أن فقدت دولنا كل مقوماتها وصفاتها بتحويلها لأداة للسلطات الحاكمة المتعالية عليها, المتاجرة بثروتها و بتاريخيها وجغرافيتها؟ وبعد أن أصبحت مجرد فكرة التداول على السلطة تتطلب إفناء نصف شعب وإسقاط الدولة قبل أن يسقط طاغيتها.
أليست العلمانية مدعوة الآن, وفي ظل رياح التغيير عندنا, لطرح نفسها, وبوعي وتصميم, لأن تكون الأساس السليم للدولة الجديدة, والضامنة القوية لمواطنية كاملة غير منقوصة؟.
أليست العلمانية مدعوة الآن وبإلحاح على تفويت تحويل هذا التغيير باتجاهات عكس سير التاريخ وعكس مفاهيم العصر وقيمه؟.
د. هايل نصر
التعليقات (0)