حينما سقطت فرنسا بيد الجيوش النازية، وقف هتلر على قبر نابليون وقال منبهرا: كان الأحرى بالفرنسيين أن يبنوا لنابليون قبرا في السماء! ورغم أن الكثيرين حاولوا تأويل كلام الزعيم النازي وتحميله على عدة محامل، فإن جملته في حقيقة أمرها لم تدل سوى على مضمون رئيسي واحد لا يزيد عن إعجاب وانبهار الفوهرر بشخصية ذلك القائد الفرنسي الطموح الذي لم تكف حدود فرنسا لإرضاء مطامحه وإنما وجد في قارة أوربا حلما قابلا للإنجاز.
وكان من الطبيعي جدا لرجل مثل هتلر أن يؤخذ بشخصية نابليون، ذلك أن كليهما حاولا تحقيق طموحات شخصية من خلال مجموعة شعارات ومبادئ براقة تثير من همم عامة الناس وتدفعهم للتراكض في سوح الوغى في سبيل بناء ما يعتقدونه مجدا لبلادهم، لكنه في الواقع لا يعدو عن كونه مجدا شخصيا لمستبد سنحت له الظروف في غفلة من الزمان بجعل أهوائه وما يمليه عليه مزاجه الخاص برنامج عمل سياسيا ـ اقتصاديا ـ اجتماعيا لبلاده. أما اليوم، فإن أوربا لم تعد أراضيها تطيق وقع أقدام نماذج تبني أمجادها الخاصة بدماء وجهود عامة الشعب وصارت مثل تلك النماذج لا تجد من أماكن لها سوى في المخيلات المريضة بجنون العظمة.
وإذا كان الأوربيون والغرب بصورة عامة قد دفعوا ثمنا باهظا لطي ماضيهم المشرئب بالحقد والكراهية والحروب الطاحنة، فإنهم اليوم يدفعون ثمنا ليس بالإمكان الاستهانة به إطلاقا، ثمنا لا يكمن في أزيز الرصاص ولا في هدير الطائرات ووقع قصف المدافع وانتظار نهاية حروب تطول بعضها لما يقارب القرن، إنما هو ثمن ينتزع من إنسانيتهم ومن قيمهم الاجتماعية الآيلة للانزواء في ركن محاصر بحضارة تمضي قدما للأمام من دون الاكتراث بعدم مواكبة التقدم العلمي والتقني لنظيره على الصعيد الاجتماعي ـ الأخلاقي.
إن التقارير الخبرية وما ترافقها من تحليلات وبحوث مكثفة حول آفاق المستقبل الإنساني مع هذا التقدم العلمي والتقني الذي يضرب بأطنابه كل الأركان والزوايا المتعلقة بالوجود الإنساني على الكوكب الأرضي، تنظر بتشاؤم وقلق إلى هذا السعي الإنساني الذي يكاد في العديد من مفاصله يفقد سمته الإنسانية ويغدو شيئا من دون تلك الأحاسيس والعواطف التي طالما تعامل وعاش المجتمع الإنساني في ظلالها.
إن اكتشاف أسرار الهندسة الجينية للإنسان والخوض في غمار مسألة استنساخ الإنسان والتدخل لا في تركيبته البايولوجية وإنما حتى العقلية والنفسية، يؤكد أن الإنسان قد وصل إلى حد قد خلف وراءه تلك المحاذير والخطوط التي كان رجال الدين وعلماء الاجتماع يحذرون من تجاوزها. وقبل عدة أعوام حين تحدث العالم الأمريكي المشهور "هاوكينك" الذي يعاني من مرض جعله في حالة شلل تام، قال عبارات وإن كانت مبعثا لقلق المحافظين لكنها لم تكن تحظى بتلك المصداقية القوية التي تدفع إلى الأخذ بكل ماجاء فيها، هاوكينك الذي كان يتحدث في مؤتمر صحفي قلما يجود به وقته الثمين وكان "محدد الزمان والمكان" ، قال: "إن النظرية النسبية قد صارت إلى المتحف وإن الذي كان يتحدث به آينشتاين قد تجاوزه العلماء حاليا". وحين سأله الصحفيون عن آفاق المستقبل أردف العالم الأمريكي: "لن تمضي فترة لا تزيد على الخمسين عاما حتى يكون الإنسان خلالها قد علم كل أسرار الكون ولن يحتاج بعدها للدعاء والتضرع كي يعلم ما يخبئه الزمان له من أسرار" وحين ألح عليه الصحفيون بالأسئلة ليثيروا حفيظته ويدفعوه للبوح بالذي يتحفظ على الإجهار به قال هاوكينك: "سوف نكون في عقل الله!" وهذه الإشارة القوية جدا وذات المعاني والأبعاد المتباينة، تجعل من الممكن قراءة كلمات هذا العالم بصورة أكثر جدية من قراءة كلمات فيلسوف أو مفكر معين بخصوص توقعات أو تنبؤات محددة.
إن العالم كله يدرك بوضوح أن العلم ماض في دروبه ولا يوقفه شيء. وأن الذي حل بغاليلو غاليلي صفحة قد انطوت وإلى الأبد وأن هناك اليوم صيحات واستغاثات من قبل رجال الدين وعلماء الاجتماع المحافظين يحثون فيها الساسة "وخصوصا الرئيس بوش"، على وضع قيود وضوابط أخلاقية لبحوث وتجارب العلماء. غير أن الوضع الاستثنائي للتنافس الاقتصادي الشديد الذي نجم عن نظام العولمة، يجعل من الصعوبة - إذا لم نقل المستحيل - دفع الساسة الليبراليين إلى تحجيم العلم وتحرك العلماء في أطر وسياقات محددة ناهيك عن الطبيعة الإنسانية ذاتها الميالة لمعرفة كنه الأشياء وكشف طلاسم وألغاز الإنسان والعالم الذي يحيط به. وقد يكون كتاب "مستقبلنا ما بعد البشري" للمفكر الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" صاحب نظرية نهاية التأريخ، أشهر وأوضح قلق إنساني من مستقبل الحضارة الإنسانية مع الاضطراد في التقدم العلمي. فوكوياما الذي طمأن المجتمع البشري بتراجعه عن نظريته حول نهاية التأريخ، يعود اليوم ليثير نظرية قد تبدو أشد قتامة وقساوة من "نهاية التأريخ"، نظرية مفادها أن الانسان الذي بنى حضارة امتدت من فجر الوجود البشري على الكوكب الأرضي إلى بدايات الألفية الثالثة ما بعد الميلاد، يواجه واقعا مقلقا للغاية إذ يبدو أن هذا الكائن الذي ألفناه من شخصيتي آدم وحواء وإلى يومنا هذا، بات مهددا بالفناء والاندثار في معمعة بحوثه العلمية. فوكوياما يعبر عن قلقه من آخر التطورات التي توصلت إليها العلوم البايولوجية وبخاصة علم الأعصاب والدماغ، حيث ذكر أن الصورة البايولوجية ـ التكنلوجية الحالية قد تطبق على الإنسان وتؤدي إلى تغيير طبيعته مما سيكون له بالنتيجة انعكاسات بالغة الخطورة على النظام السياسي نفسه.
ويستطرد المفكر الأمريكي المثير للجدل في جانب آخر من كتابه المؤلف من ثلاثة أجزاء فيشدد على وتر التشاؤمية المفرطة عندما يقول: "الإنسان كما نعرفه حاليا سوف يختفي من الوجود بعد عشرين أو ثلاثين سنة، إذا استمرت الأمور على حالها. فعلم الوراثة أصبح يتدخل في طبيعته أو تركيبته الداخلية. وبدلا منه سوف يظهر إنسان جديد أكثر سعادة بفضل العقاقير الطبية التي يبتلعها يوميا وتزيد من ثقته بنفسه أو من قدرته على التركيز، وسوف يكون أكثر ذكاء وأقل مرضا وسوف يعيش عمرا أطول، لكن - يستدرك فوكوياما بحذر شديد - المشكلة هي أنه سيكون إنسانا آخر اصطناعيا لا طبيعيا". هذا الكلام الذي بناه فوكوياما على خلاصة آخر الاستكشافات والنظريات العلمية، سوف يكون له صداه المؤثر في مختلف الأوساط لكن الذي لاشك فيه هو أنه ليس في وسع أحد مهما أوتي من وقف المسار العلمي عند ناصية محددة وكل ما يمكن إنجازه على صعيد وضع حد للاستكشافات العلمية هو مجموعة بيانات أدبية ـ أخلاقية لا تملك أي رصيد على أرضية التطبيق "حالها حال قرارات مؤتمرات القمة العربية". ولكن هل الإنسان الذي كان بمثابة طلسم ولغز الوجود قد بات مكشوفا من كل النواحي؟ وهل ذلك الإنسان الذي تحدث عنه ألكسيس كاريل في كتابه الشيق "الإنسان ذلك المجهول" لم يعد مجهولا بحق؟ هل كل تلك الجوانب الخفية التي تحدث عنها كاريل في كتابه المذكور قد أميط عنها اللثام تماما؟ وهل الإنسان الذي تحدث عنه الدكتور "جوزيف مورفي" في كتابه "سطوة الفكر"، قد بات عاجزا لا حول له ولا قوة أمام الواقع الموضوعي الذي بات يتهيأ لابتلاعه بكل ما يملك من مقومات وتأريخ وحضارة؟!
مورفي الذي وقف طويلا أمام القدرات الخفية للإنسان وأكد أن التركيز والتلقين قادران بحد ذاتهما على بسط سيطرة الإنسان على واقعه، ترى ماذا سيقول أمام ادعاءات هاوكينك وفوكوياما؟ إنها أسئلة سوف تدور بقوة في دائرة الذهن الإنساني بحثا عن إجابات تقف بالمرصاد لهذه التصورات المخيفة لمستقبل الإنسان، وإلا فلا مناص من أن يغدو البشر جميعهم متشائمين مثل شوبنهاور!
التعليقات (0)