بعد كل ذلك السجال الذي أثاره الجزء الأول من مقال"هل هو فعلا صراع حضارات؟"، و بعد ردود الفعل العنيفة التي تعرضت لها على إثر نشره، فكرت في عدم نشر الجزء الثاني منه، لكني سرعان ما تراجعت و صممت على مواصلة المسار باتجاه الدفاع عن وجهة نظر أراها صائبة، و مستعد للذهاب من أجل تأكيد صوابها حتى آخر العالم، و مستعد للذود عنها ضدا على جحافل المتعصبين المتحجرين من العرب و المسلمين الذين لا يتقنون فن الإنصات لغير الغرب الأمريكي، ويفضلون استهلاك و ترويج نظريات هذا الغرب (الكافر) بعد لعنه وشتمه وإحراق أعلامه و صور زعمائه...
إن المقال الأول الذي أفردته للمقولات الغربية الأمريكية حول مفهوم صراع الحضارت، لم يكن القصد منه التشويش على حملات الرد التي ينظمها و يتزعمها بعض المدونين هنا بمكتوب أو خارجه، و هم كثيرون، بل كان المغزى من العنوان الثانوي (إلى زعماء حملات الرد على البابا) توجيه دعوة صريحة للانخراط في مقاربة أعمق و ملامسة أشمل للتجاذبات الحاصلة الآن بين الشرق و الغرب، تحت كل المسميات و العناوين الجديدة و المستحدثة، و لأن المدافعين المنافحين عن مقولة "صراع الحضارات" لا زالوا لم يقتنعوا بعد بزيف و بطلان نظرية الغرب الأمريكي حول صراع الحضارات، و يستميتوا في الدفاع عنها نيابة عن هذا الغرب، بل يتجاوزون ذلك إلى حدود استحداث مقولة (الحرب الصليبية)...
و لأن خط هؤلاء المناوئين للغرب المدافعين عن أطروحاته يتميز بكثير من المغالطات التاريخية والمآزق المفاهيمية، لأن الوضع المؤسف كذلك أطرح الأسئلة التالية: ما مفهوم الحضارة؟ هل يمكن – على ضوء تحديد المفهوم و ضبطه - تسمية ما يجري الآن "صراع حضارات"؟ ما مفهوم "الحرب الصليبية"؟ هل بإمكاننا وسم الحرب الدائرة رحاها بالعراق و قبله أفغانستان بالحرب الصيلبية؟ إذا لم يكن بالإمكان البرهنة على وجود "صراع حضارات" و حرب صليبية، فكيف نبرهن على أنها شيء آخر مختلف تماما؟ لماذا يقع الخلط بين مقولتي "صراع الحضارات" و "الحرب الصليبية"؟...
إن الحضارة هي خلاصة الإبداعُ البشريُّ في جميع مجالات النشاط الإنساني الذي ينتج عنه التقدمُ في مسيرة الإنسان على هذه الأرض من النواحي كافة. فالحضارة هي نتاج عقل الإنسان وجهدُه في زمان معلوم ومكان محدَّد. والحضارة الإنسانية، إنما هي حضارات تداخلت وتكاملت وتلاقحت عبر الأزمنة والدهور، ساهمت فيها الأمم والشعوب، ومفهوم الحضارة عند المفكر الإسلامي مالك بن نبي، الذي يعتبر ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، فعل تركيبي قوامُه : (الإنسان + التراب + الزمن) : الإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا، والتراب بخضوعه لضرورات فنية معينة، والزمن بإدماجه ضمن العمليات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية. ومن هذه العناصر الثلاثة تتحقّق الحضارةُ عند مالك بن نبي . ويرى ابن خلدون في فصل بمقدمته تحت عنوان " الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره" أن الحضارة غاية البداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة ومُلك وسوقة له عمر محسوس. ويقول أيضاً في موضع آخر من هذا الفصل : "والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكَلَف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أوالملابس أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل". ويقول في موضع آخر : "الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل"؛ أما يوسف القرضاوي فيرى، و هو يحاول الإجابة عن سؤال:هل للحضارة في الإسلام مفهوم خاص تتميز به عن غيرها من الحضارات السابقة واللاحقة، التي عرفها الناس في الشرق والغرب ؟ أم أن جوهر الحضارات واحد، وإن اختلفت أقطارها، وتباعدت أعصارها، وتباينت أجناس صناع الحضارة وعقائدهم وفلسفاتهم في الحياة ؟، أن هناك معنىً عامّاً للحضارة يُفهم من مدلول الكلمة نفسها، وهو جملة مظاهر الرقي المادي والعلمي والفني والأدبي والاجتماعي، في مجتمع من المجتمعات، أو في مجتمعات متشابهة. و لفظ "الحضارة" هو الترجمة الشائعة للفظة الإنجليزية "Civilization"، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ "Civilties" بمعنى مدنية، و"Civis" أي ساكن المدينة، و"Cities" وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يُتداول الاشتقاق "Civilization" حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه "مقال في الحضارة" باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة، أما المعتقد فيندرج ضمن المركب الكلي لمفهوم الثقافة الذي يشتمل بالإضافة للمعتقد على المعرفة والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
و بالعودة إلى الحديث عن مقولة "صراع الحضارات"، فإن كثيرا من المفكرين يذهبون إلى القول بأن الحضارات لا تتصارع، ولا تتصادم، وإنما تتفاعل و تتلاقَح ويكمل بعضها بعضا، وتتعاقَب وتتواصل، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني وحركة التاريخ والإنسان الذي يؤثر في مسار التاريخ ويصوغه ويبدع فيه؛ و بذلك يكون الهدف الرئيس والغاية الأساسية لترويج مقولة "صراع الحضارات" أو صدامها التي وضعها قادة ومفكرو الغرب الأمريكي هو خدمة أغراض الولايات المتحدة الأمريكية و أهدافها الإستراتيجية التي تسعى من خلال تحقيقها إلى إحكام سيطرتها على مقاليد الأمور في العالم أجمع، وهي أغراض ليست بريئة، وليست لها صلة بالأهداف الإنسانية النبيلة التي تنبع من المبادئ والقيم الحضارية البانية للإنسان وللعمران وللحضارة؛ ففكرة الصراع بين الحضارات، التي تم تحضيرها في المطبخ الفكري/السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، يؤكد تأكيداً قوياً، ضلوع القطب الأوحد المتربع على قمة هرم السياسة الدولية، في ما يمكن أن نصفه بأنه خطة محكمة ومدبرة للزجّ بالعالم كلّه في معارك فكرية مفتعلة، ونزاعات دينية وأزمات سياسية وصراعات ثقافية وحضارية، لتتعزز قواعد النظام الدولي الجديد الذي صاغته القوة الأكثر نفوذاً في العالم، ولتتمهد السبل أمام نظام العولمة الذي تتحكم فيه لبسط نفوذه على العالم أجمع.
فهل الصراع، بهذا المعنى الدقيق لمفهوم الحضارة، صراع حضارات؟
إن كثيرين ممن يخجلون من تبني مقولة "صراع الحضارات" كونها منتج غربي/أمريكي، و ممن يتحمسون دوما إلى حشر الإسلام في جميع الصراعات الداخلية منها و الخارجية، و ممن نال منهم التطرف و تمكنت منهم الأصولية، يذهبون إلى تسمية الصراع بـ"الحرب الصليبية"، لإذكاء جذوة العداء للغرب الأمريكي و تأجيجها، و للتوظيف السياسي للصراع على المستوى الداخلي، و جني المكاسب السياسية الآنية (الأحزاب و الجماعات الإسلامية)، أو لتمرير أجندات خارجية باسم الإسلام (تنظيم القاعدة).
إن المرددين لمقولة "الحرب الصليبية"، يعتقدون أن الحرب الدائرة الآن في أفغانستان و العراق هي امتداد للحروب الصليبية القديمة، أي أنها حرب بين الإسلام و المسيحية، و الغرض من هذه الحرب القضاء على الإسلام، و هي بهذا المعنى حرب أديان بامتياز. و يذهب المغالون في ترديد هذه المقولة المستحدثة، من أجل البرهنة على صحتها، إلى اعتماد توظيفها من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش في أحد خطاباته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة، و ورودها على لسان بيرلسكوني وتاتشر أيضا، جاءت هذه الاستعمالات من لدن هؤلاء لمقولة "الحرب الصليبية" لتتوافق و تتناغم مع استعمال نفس المقولة من طرف أسامة بن لادن و أيمن الظواهري في خطاباتهما؛ لكن السؤال المحوري هو: هل يكفي توظيف عبارة "الحرب الصليبية" من قبل هؤلاء للتدليل على أن الحرب الراهنة حرب صليبية؟ ثم، لماذا لم يلتقط أصحاب هذه المقولة، من العرب و المسلمين، من خطابات بوش إشارات أخرى غير هذه الإشارة، و ركزوا عليها هي تحديدا؟ كيف السبيل لنقنع أنفسنا بأن هذه الحرب هي حرب صليبية بالمعنى الحقيقي الذي سيقت فيه هذه المقولة؟
إن العودة إلى التاريخ بهدف إقامة مقارنة بين الحرب الدائرة الآن و الحروب الصليبية التاريخية، توضح أن دعوة الباباوية للحروب الصليبية انطلقت يوم وقف البابا "أوربان الثاني" (نوفمبر1095) في جمع حاشد من الناس بفرنسا يدعو أمراء أوروبا إلى شنّ حرب مقدسة من أجل المسيح، وخاطب الحاضرين بلغة مؤثرة تكوسها الحماسة ودعاهم إلى تخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، ونجدة إخوانهم في الشرق، ودعا المسيحيين في غرب أوروبا إلى ترك الحروب والمشاحنات، وتوحيد جهودهم إلى قتال المسلمين في الشرق، وكي يُقبل الناس على الاشتراك في هذه الحروب وعدهم البابا بمنح الغفران لكل من يشترك في هذه الحرب، وتعهد بأن الكنيسة ستبسط حمايتها على أسر المحاربين وأمتعتهم؛ فلا تتعرض زوجاتهم أو أطفالهم أو أملاكهم لأية أخطار؛ وكانت الكثير من الحملات التي تلت ذلك قد بررت بتطبيق "إرادة الرب" عن طريق الحج إلى الأرض المقدسة للتكفير عن الخطايا، وكانت الدعوات تروي عن اضطهاد الحكم الإسلامي للمسيحيين في الأرض المقدسة وتدعو إلى تحريرهم.
فما أوجه التقاطع بين الحرب الحالية و الحروب الصليبية؟ هل ينفذ بوش "إرادة الرب" بحج جنوده إلى أرض العراق و أفغانستان؟ هل يحاول بوش التكفير عن الخطايا التي ارتكبتها أمريكا بحق ناكازاكي وهيروشيما؟ هل ذهب بوش إلى العراق من أجل صد الاضطهاد الذي يمارسه المسلمون في حق "المسيحيين" الأكراد و "المسيحيين" السنة و "المسيحيين" الشيعة و "المسيحيين" التركمان؟ هل الحرب في العراق و أفغانستان هي حرب أديان إذن؟ هل تشكل صداما حقيقيا بين المسيحية و الإسلام؟ ثم، أين هي أوربا قائدة الحروب الصليبية القديمة من هذا الصراع و الصدام؟ ماذا يعني رفض فرنسا و دول أوربية أخرى للحرب على العراق؟ هل أصبحت أمريكا و بوش الناطق الرسمي باسم العالم المسيحي؟
إن المرحلة الراهنة في نظر مدرس التاريخ الأمريكي السابق والكاتب مارك جلين سيطلق عليها في التاريخ "حقبة التاريخ المزيف" حيث إنها حقبة شهدت أعلى درجات انعدام التفكير بسبب آلة إعلام الغرب الأمريكي المضللة التي تخدم أغراض السياسات الأمريكية. لقد أصبح العرب و المسلمون تحت تأثير الضربات الإعلامية الخاطفة و المستمرة لصقور البيت الأبيض و رجلي تنظيم القاعدة إلى درجة بلغت حد الاستسلام الكامل لهم و لمقولاتهم الزائفة.
و لكي ندير الصراع باتجاه النصر، لابد من فهم صحيح لهذا الصراع، و من تم حصره في بعديه الاقتصادي و السياسي، لأن تعويم ماهية الصراع ستفقدنا قدرة السيطرة عليه، و تدبيره، و من تحقيق النصر.
فهل مازلتم تؤمنون بأن الصراع صراع حضارات؟ و هل مازلتم تعتقدون بأن الحرب حرب صليبية؟
التعليقات (0)