إن السجال الذي درات رحاه في أعقاب نشر الرسوم المسيئة للرسول العام الماضي، هو نفسه الذي يدور الآن على إثر تصريحات بابا الفاتيكان (بنديكت السادس عشر)، و إن ردود الفعل العربية و الإسلامية (الرسمية و الدينية و الشعبية) الآن، هي نفسها التي صدرت على خلفية تلك الرسوم. و السؤال الذي يفرض ذاته هو: لماذا لم تتوقف حملات الإساءة للإسلام على الرغم من كل ذلك الغضب و الاحتجاج و التنديد؟ ففي أعقاب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، دعونا الشعب الأمريكي عبر إعلامنا العربي إلى طرح سؤال: لماذا استهدفت أمريكا في أمنها و سلامها؟ لماذا كل هذا الكره و المقت لأمريكا؟ و مثلما دعوناهم ينبغي أن ندعو أنفسنا إلى طرح سؤال: لماذا يستهدف الإسلام الآن؟ بل لماذا نُستهدف نحن؟ و ما هي الدوافع الخفية التي تقف خلف هذه الهجمة الشرسة؟
إن فهم ما يجري الآن و استيعابه لا يمكن أن يتم عبر حملات الرد الفجة و الشعبوية، كما لا يمكن أن يتم بعيدا عن فهم ما ترتب عن انهيار الاتحاد السوفييتي و نهاية الحر ب الباردة، وهو ما سماه فوكوياما بنهاية التاريخ الذي اعتبر انتصار الرأسمالية نهاية التاريخ، وأن الإنسان الأمريكي هو من وصل إلى أقصى مستوى حضاري ممكن وبالتالي فهي نظرية نهاية الإنسان والتاريخ، هذه النظرية التي تلاشت أمام ارتفاع صوت صامويل هنتنجتون (1993)، الذي أطلق نظرية صدام أو صراع الحضارات، ضدا على نظرية روجي جارودي القائلة بحوار الحضارات، إن هنتنجتون قد تنبأ عبر هذه النظرية بأن الصراع الذي سوف يدور خلال هذا القرن هو صراع حضارات وليس صراعا اقتصاديا أو أيديولوجيا، وقد حدد في نظريته تلك سبع حضارات أساسية يتوقع أن يلتهب بينها الصراع ولا بد في هذا الصراع من زوال البعض وخضوع البعض الآخر لهيمنة الأقوى وقرر في النهاية أن الحضارات المتوقع لها الاستمرار حتى النهاية لما تحمله من إمكانيات ومقومات للبقاء هي ثلاث حضارات الإسلامية والغربية والكونفوشيوسية (حضارة الصين) وحذر العالم الغربي من تحالف الحضارة الإسلامية مع نظيرتها الكونفوشيوسية في إشارة إلى إمكانية حدوث تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية. غير أن الذي جاء به هنتنجتون لم يكن أمرا جديدا بالنظر إلى ما تنبأ به الرئيس الأمريكى السابق نيكسون بعد نهاية الحرب الباردة من صراع حتمى بين الغرب والعالم الإسلامى، وما صرح به أمين عام حلف الأطلنطى حينذاك من أن الإسلام هو الخطر القادم أو العدو البديل بعد سقوط الاتحاد السوفييتى، على الرغم من أن الإسلام كان يتعاون قبل هذا السقوط مع الغرب لضرب الشيوعية.
و لعل إقصاء البعدين الاقتصادي و الأيديولوجي عن دائرة الصراع فيه كثير من التجني على جوهر الصراع الحقيقي، و محاولة يائسة للإيهام بأن الصراع هو صراع حضاري مختزل في بعده الديني. و الدليل على بطلان هذه النظرية هو أن الحربان العالميتان لم تدر رحاهما بين حضارتين مختلفتين، و إنما دراتا داخل حضارة واحدة هي الحضارة الغربية، كما أن الحرب الباردة جرت بين أيديولوجيتين مختلفتين داخل حضارة واحدة، و هذا يعني أن الصراع لا يكون بالضرورة بين حضارتين، وإنما يكون الصراع من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف اقتصادية أو سياسية، فهو إذن صراع قوى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى. أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
و المثير للانتباه أن كثيرا من مفكرينا و مثقفينا و علمائنا وفقهائنا تبنوا هذه النظرية، أو بالأحرى استدرجوا إلى ساحة صراع وهمي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فسموا الحرب التي دارت و تدور رحاها في أفغانستان و العراق بالصليبية، معتقدين أن الإسلام هو المستهدف وحده، و زاد من حدة الاعتقاد بهذه النظرية ما أقدمت عليه الصحيفة الدانمركية من نشر رسومات مسيئة للرسول، و ما جاء على لسان البابا من تصريحات تحاول الربط بين الإسلام و العنف. غير أن الصراع الخفي الذي تحاول أمريكا و حلفاؤها إخفاءه و تغليفه بالحرب على الإرهاب، هو صراع مصالح اقتصادية و تطلعات إمبريالية نحو وضع اليد على ثروات و خيرات منطقة الشرق العربي/الإسلامي، و تأمين الأجواء لإسرائيل الحليف الاستراتيجي لأمريكا. و بهذا تكون الحملات التي يتعرض لها الإسلام عن قصد أو عن غير قصد محاولة للانتقال بنا من الصراع الحقيقي إلى صراع وهمي يسمونه صراع الحضارات، وهو ينتقل الآن تدريجيا نحو صراع للأديان، و تحديدا صراع بين المسيحية/الصليبية و الإسلام/الإرهاب. و إن من أقوى الأسباب التي تدفع بالصراع إلى التحول من صراع مصالح إلى صراع حضارات و أديان، هو تلقف العديد من الجماعات والأحزاب، التي تعودت على المتاجرة بالدين و التوظيف السياسي له، لهذه النظرية و تبنيها بشكل سريع خدمة لأهدافها السياسية و الانتخابية، فصارت تروج أكثر من الغرب نفسه لهذه المقولة. و الأخطر من ذلك هو استثمار الجماعات المتطرفة لهذه النظرية و توظيفها لتبرير و شرعنة أجندتها السياسية على أرض الواقع.
فلماذا نستدرج إلى صراع وهمي؟ لماذا نترك ساحة الصراع الحقيقية و ندخل ساحة مفترضة لصراع مفترض؟ لماذا نجحوا سريعا في إيهامنا بأن حربهم ضدنا هي حرب صليبية تستهدف الدين فقط؟ كيف نعود لدائرة الصراع الحقيقية؟
التعليقات (0)