هل هنالك قضية ترکمانية في العراق؟
(2 ـ 2 )
نزار جاف
بذلت الجبهة الترکمانية منذ اليوم الاول لتأسيسها، کل مابوسعها من أجل جمع و توحيد و توجيه کلمة ترکمان العراق بإتجاه يخدم مصالحها القومية و يحقق أهدافها العليا وسعت بمختلف الطرق و الاساليب لکي تبدو أنها الممثل الحقيقي الوحيد الذي يعبر عن آمال و طموحات ترکمان العراق. وفي الوقت الذي لم تنل الجبهة الترکمانية التي تأسست في مدينة أربيل وتحت مظلة و حماية حکومة إقليم کوردستان، أي إعتراف رسمي من جانب السلطات الکوردية بها لأسباب عديدة أهمها هو إلتزام الجبهة بنهج سياسي يکاد يکون مطابقا لنهج السياسة الترکية، لکن السلطات الکوردية و تحت تأثير علاقاتها الحساسة بترکيا ودورها المؤثر"وقتئذ بشکل خاص"في الاقليم، لم تتعرض للجبهة وانما غضت الطرف عنها وکأنها غير موجودة، بيد انها في نفس الوقت سعت لتشجيع و دعم عناصر سياسية و ثقافية ترکمانية من أجل تأسيس أحزاب ترکمانية لاتؤمن بالنهج الذي تدعو إليه الجبهة الترکمانية، وتتبع سياسة أکثر إنفتاحا و قربا و تفهما من الکورد. ويقينا، أن تلك الاحزاب المؤسسة من جانب السلطات الکوردية، لم تتمتع بأي قاعدة او حضور بين الترکمان وهي في حقيقة أمرها کانت أشبه بتلك الاحزاب الکارتونية التي أسسها النظام البعثي أيام مواجهته مع حرکة التحرر الکوردية، وحري بالسلطات الکوردية أن لاتلجأ الى هکذا اساليب تمويهية و تضليلية مورست ضدها يوما، لکي تطبقها بحذافيرها ضد طرف آخر تختلف معه من العديد من النواحي.
وقد حظيت الجبهة الترکمانية بدعم واسناد"مادي و معنوي"من جانب السلطات الترکية، حيث کانت لها العديد من المقرات الحزبية و المهنية، إضافة الى أنها کانت تمتلك أيضا عددا محدودا من الافراد المسلحين، ناهيك عن محطة إرسال تلفزيونية و إذاعية و وسائل إعلامية أخرى و، وصل الى حد إنها کانت تمتلك حقوقا موازية نوعا ما للسلطات الکوردية"قبل 9 آذار 2003" في بوابة خابور الحدودية من حيث السماح لها يوميا بإرسال عدد معين من العراقيين الى داخل ترکيا، وکانت تتقاضى رسوما لقاء ذلك، کما ان المکاتب التابعة لها کانت تقوم بتوزيع المواد الغذائية"المقدمة من الهلال الاحمر الترکي" في مدينة اربيل(قبل عام 2003، أيام الحصار الاقتصادي المفروض على العراق)، على من کانت تسميهم مواطنين ترکمان وقد کانت أعدادا کبيرة من العوائل الکوردية قد عرفت نفسها أمام هذه المکاتب على أنها ترکمانية من أجل تزويدها بالمواد الغذائية، وهو مادعا الجبهة الى الادعاء بأن أعداد الترکمان في أربيل کبيرة جدا بل وحتى بدأت مزاعم عائدية أربيل للترکمان تطرح بصورة غير عادية عبر مصادر أعلام الجبهة و ترکيا ذاتها. وعلى الرغم من عدم وجود أي نوع من أنواع اللقاء أو الحوار بين السلطات الکوردية و الجبهة الترکمانية، فإنه في نفس الوقت کان هنالك مايبدو على أنه إتفاق ضمني قد تم على اساسه تحديد حدود و صلاحيات الجبهة، وقد کانت الجبهة الترکمانية تدرك أيضا بأنها غير قادرة إطلاقا على مواجهة السلطات الکوردية في حال وصل الامر الى حد التصادم ولذلك فقد کانت هي الاخرى تتفهم الوضع جيدا ولاتخطو خطوات"غير مدروسة"او"إستثنائية"تتعارض و التوجهات الکوردية او تعاکسها.
الجبهة الترکمانية و خلال السنوات الماضية، کانت تطبق سياسة تحرص و بصورة ملفتة للنظر على إلتزام نهج واضح يعتمد على مخالفة معظم التوجهات الکوردية کيفما کانت بل وانها احيانا کانت تتجاوز حتى الحدود المألوفة و التي تراعيها دول إقليمية ومن ضمنها ترکيا، وکان العذر او الشماعة التي تعلق الجبهة الترکمانية مبرراتها عليها، هو تخوفها و توجسها من الطموحات الکوردية و إحتمالات إنعکاساتها السلبية على الشعب الترکماني، وعلى الرغم من الطابع العرقي الواضح للجبهة و توجهاتها المتشددة في الکثير من الاحيان، لکنها وبقدر ماکانت تتابع الشؤون التطورات السياسية على صعيد الاقليم الکوردي، لم تکن تتابع مايتعلق بحقوق و طموحات و آمال الشعب الترکماني بل وانها قد ربطت بشکل ملفت للنظر بين آمال و تطلعات الشعب الکوردي و بين توجهات و اهداف الجبهة، وهذا الامر دفع الشارعين السياسي و الثقافي الکورديين الى التوجس ريبة من توجهات هذا التنظيم الترکماني، بل وان اوساط کوردية وحتى عراقية تنظر بتحفظ الى ماهية العلاقة"الحميمة"التي تربط الجبهة الترکمانية بترکيا خصوصا وان اعلام الجبهة الترکمانية رکز و يرکز بشکل خاص على قضية حزب العمال الکوردستاني و يردد نفس المزاعم و المواقف الترکية الرسمية بهذا الخصوص.
وبعد سقوط النظام العراقي في 9 آذار 2003، سعت الجبهة الترکمانية و بشکل غير إعتيادي الى الترکيز على أن الترکمان يشکلون نسبة 13% من سکان العراق وهو إدعاء لم تکن الجبهة تمتلك أدلة او مستندات قانونية تستند عليها، ويبدو ان هذا الادعاء قد تلاقفه الاعلام الترکي و"اوساطا سياسية في أنقرة"، وباتت تصدق به و تردده بصورة ملفتة للنظر، لکن إجراء الانتخابات في العراق عام 2005، والتي سبقتها تصريحات نارية و غير مسبوقة من قبل الجبهة الترکمانية والتي کانت تطرح في خطها العام"توقعات مضبوطة 100%"، فقد جائت نتائجها محبطة و مخيبة للآمال إذ ليس لم تتمکن الجبهة الترکمانية"ومع کل ذلك الدعم الترکي و غيره"من احراز سوى 1،47% من أصوات جميع الناخبين في عموم العراق وقد عرضنا النتائج في مقالنا الموسوم( الجبهة الترکمانية..مساء أرقامکم بالخير!!) والمنشور في إيلاف حينها، وهذه النسبة"المتواضعة جدا"قياسا لما کانت تدعيه الجبهة الترکمانية، أکدت بأن"زعم"ان نسبة الترکمان في العراق 13% هو کلام أبعد مايکون عن الحقيقة و الواقع، ولو کان لذلك الزعم من أي دليل او مستند على أرض الواقع، لما کانت ترکيا تقف مکتوفة الايدي خصوصا، لکن أنقرة وبعد ان أدرکت واقع الامر، أشاحت بوجهها على مضض وهي تکاد تنفجر غيضا من ذلك الزعـم"السراب"الذي لهثت خلفه من دون طائل. لکننا، بکلامنا هذا لسنا لاسامح الله ننتقص من الشعب الترکماني او نستهين به، وانما نکن له احتراما و تبجيلا خاصا، وان احترام و توقير الشعوب لا و لم و لن يکن يوما مرتبطا بحجمها و کثرتها، وانما بما قدمته للإنسانية من عطاء و مکاسب وان الشعب الترکماني قد قدم الکثير في المجالات المختلفة ولايتسع المجال هنا للتعرض ولو الى نزر يسير منه.
ان المسألة التي يجب ان ننظر إليها بدقة و عناية بالغتين، هي ان الجبهة الترکمانية قد سعت بکل مابوسعها من أجل لفت الانظار إقليميا و عالميا الى أن هناك"قضية ترکمانية" تحتاج الى من يناصرها، لکن وعند الدخول في التفصيلات المتعلقة بالقضية، نجد ان الطرف النقيض او لنقل"المجحف"بحق الترکمان، السلطة الکوردية، حيث انها"بزعم الجبهة الترکمانية"، تقوم بحملة إبادة و إقصاء للشعب الترکماني و تقف حجر عثرة أمامه تحول بينه و بين نيله لحقوقه القومية المشروعة، وقد قامت الجبهة الترکمانية بضجة إعلامية کبيرة على مختلف الاصعدة من تعرض الشعب الترکماني لحملة إبادة و تهجير و تقسير و إقصاء على يد"الاحزاب الکوردية"، هذا الزعم وان نجح لفترة محدودة لکن قصيرة جدا في لفت أنظار جانبا من الاعلام الاقليمي و العالمي، لکنه إضمحل و تلاشى بعد أن أدرکت مختلف الاوساط السياسية و الاستخباريـة عدم صحة ذلك وکونه وسيلة حزبية ضيقة للإسحتواذ على مکاسب کبيرة.
الازدواجية الکبيرة التي وقعت و"تورطت"فيها الجبهة الترکمانية، أنها في الوقت الذي کانت تتحالف مع أطراف سياسية عراقية تدير الحکومة العراقية المرکزية(صاحبة الامر النهائي في العراق)، فإنها لم تکن تثير معها أية مطالب او دعاوى محددة لها کي تعترف بها، ولم تطرح يوما أمام البرلمان او الحکومة العراقية مقترحات معينة بخصوص مطاليب محددة للشعب الترکماني، لکنها"والمفارقة هنا"عندما يکون الامر مع حکومة إقليم کوردستان(التي لاتعترف بها اساسا)، فإنها تطالبها لکن من خلال قنوات أخرى بالاعتراف بحقوق الشعب الترکماني و إيقاف ما تسميه(حملة الابادة و التهجير القسري)بحق الشعب الترکماني، في الوقت الذي لم تتمکن هذه الجبهة ولا الاوساط الاستخبارية الداعمة لها من تقديم أدلة و متمسکات موثوقة و بينة بخصوص تلك المزاعم ضد الکورد.
ان القضية الترکمانية التي تسعى هذه الجبهة الى إثارتها تقوم أساسا على تحديد و محاصرة الاقليم الکوردي بمختلف السبل و الوسائل وهي تريد اساسا إنکار واقع الاغلبية الکوردية هناك، ذلك الواقع الذي عمل نظام البعث المنهار المستحيل من أجل تفعيله و جعله أمرا مفروغا منه، ولأجله فقد تعرض الشعب الکوردي بشکل خاص لحملة تنکيل و تهجير إجبارية غير عادية والحال نفسه بالنسبة للشعب الترکماني لکن بصورة قد تکون بدرجة أقل ناهيك عن أن أعدادا کبيرة و لافتة للنظر من ترکمان کرکوك قد قاموا"وخضوعا لأوامر بعثية"بتغيير هويتهم العرقية و بأن صاروا عربا(وهنالك من بين قيادات الجبهة الترکمانية من کان قد غير هويته العرقية أيام حکم البعث)، والاغرب و الانکى من کل ذلك، أنه في الوقت الذي تدعي فيه اوساط عربية"شوفينية"وبصورة ملفتة للنظر بأن: کرکوك مدينة عربية، واربيل مدينة ترکمانية، و دهوك مدينة کلدوآشورية، فإن مجرد شعرة واحدة من الغيرة و الحمية الوطنية و العرقية لهذه الجبهة لاتتحرك بل وانها تتصرف وکأنها لم تر او تسمع او تشاهد شيئا خصوصا وانها تصر بأن کرکوك مدينة ترکمانية، فهل ان ترکمانية کرکوك کقميص عثمان ازاء الکورد فقط!!
ان أهم شرط لأية قضية تسعى أية جهة کانت لدفع الاخرين للإعتراف به، هو العدالة، أي عدالة القضية وان إعتماد الجبهة الترکمانية على جملة أمور تصب کلها في قناة و مجرى واحد، هو في نهاية الامر مجرد تمويه و مغالطة و قفز على الحقائق ويفقدها الکثير من المصداقية المطلوبة و الضرورية في أية إدعائات او امور ما تطرحها، إذ أن الجبهة الترکمانية قبل غيرها تدرك جيدا و بجلاء ماذا و لأجل من تدفع بالامور کلها بهذا الاتجاه، وان إصرارها على المضي قدما في"تجيير"القضية الترکمانية بسياقات تتضاد بشکل إستثنائي مع الکورد، يفقد القضية مصداقيتها الاساسية و يدفع للتشکيك و التوجس ريبة من أهدافها و مآربها الحقيقية إذ ان تعليق مصالح الشعب الترکماني على شماعة أجندة الآخرين يعني وبشکل واضح من ان الجبهة لاتهدف من الاساس خدمة مصالح و أماني و طموحات الشعب الترکماني وانما تستخدم مجمل القضية من أجل غاية محددة هي في الحقيقة لاتخدم إطلاقا مصالح و تطلعات الشعب الترکماني بل وحتى انها تضرها من حيث هي تدري(وليس لاتدري). وطوال الاعوام التي تلت سقوط النظام و طرحت مشکلة کرکوك على بساط البحث، لم تتصدى الجبهة لتلك المشکلة من زاوية ترکمانية تنطلق من على أرض کرکوك ذاتها وانما ظلت تسعى لفرض رؤية سياسية خاصة تتماشى أساسا مع أجندة إقليمية محددة وانها جندت کل إمکانياتها من أجل ذلك، وأهم نتيجة حققتها الجبهة في مساعيها بهذا الاتجاه، هو انها توفقت تماما لإنضاج أجواء التأزم و التشنج و الانفعال بين المکونات الاساسية في کرکوك مثلما انها نجحت في عکس صورة مستقبلية للعالم بخصوص کرکوك فيما لو ألحقت بالاقليم الکوردي مفادها بأنه ستکون هناك مجزرة و کارثة إنسانية. لکن منحنيات السياسة و إلتوائات دروبها المتباينة قد دفعت أخيرا بالجبهة الترکمانية لکي تفکر بالتحالف مع طرف کوردي لتکون ضد طرف کوردي آخر، وهي قد تکون بداية عملية تغيير في التفکير السياسي لديها وقد تکون منطلقا لتأسيس أرضيات و أسس جديدة لصياغة مبادئ جديدة للتوافق و التعايش مع الکورد. ورغم ان الواضح على مضمون هذا التحالف هو تکتيك محدد يخدم طرفين متناقضين من مختلف النواحي، لکنه يبقى بداية مهمة لرضوخ الجبهة الترکمانية لأمر واقع قائم على الارض، ومثلما ان ترکيا التي حاولت بمختلف السبل و الوسائل تحاشي و تجنب أي أعتراف او إقرار بالتجربة السياسية الکوردية، لکنها وتحت ضغط العديد من العوامل المتباينة وجدت نفسها مضطرة للاعتراف السياسي و التعامل الاقتصادي و حتى الامني مع حکومة إقليم کوردستان، فإن الجبهة الترکمانية أيضا وجدت من أنه لامناص أمامها من النزول من برجها العاجي"الوهمي"و مدها اليد بإتجاه الکورد لکي تحقق شيئا على الارض سيختلف کثيرا عن ذلك الذي حققته في إنتخابات عام 2005، لکن هذا الامر يجب ان لاينحصر و يقتصر على دوائر حزبية کوردية محددة و إعتبارات سياسية لأهداف تکتيکية بحتة، إذ ان الجبهة الترکمانية لو رغبت حقا بالانفتاح على التجربة الکوردية فإنها قطعا ستتمکن من الحصول على مکاسب و امور إيجابية لها على أرض الواقع، وهذا الامر هو أفضل لها بالطبع من إثارة زوبعات إعلامية لأهداف سياسية سرعان ماتخبو بإنتفاء الظروف الموجبة لها من دون ان تحقق أي شئ إيجابي سوى إثارة النعرات القومية و إذکاء الاحقاد الدفينة التي يجب على جميع شرائح و أطياف الشعب العراقي أن تعمل کل مابوسعها من أجل إبعاد شبحها و ظلها عن المشهد العراقي برمته. وقطعا فإنه من المهم و الضروري على حکومة إقليم کوردستان فيما لو إنفتحت الجبهة الترکمانية على التجربة الکوردستانية ان تمنحها و توليها مساحة يليق بها و بحجمها و دورها السياسي. وفي کل الاحوال، فإن الجبهة الترکمانية بتنسيقها و تفاهمها و تحاورها مع حرکة التغيير التي يتزعمها السياسي الکوردي المعروف نوشيروان مصطفى، قد أسست لبداية مرحلة جديدة حساسة لايجب أبدا التغافل خلالها عن دور حرکة التغيير حيث من الواضح جدا ان نوشيروان مصطفى يخطو بسياقات و إتجاهات لاتملك الاحزاب الکوردية الاخرى جرأته للسير فيها، رغم ان المراقبين و المحللين السياسيين ينظرون بإهتمام بالغ لما ستتمخض عن هذا الاتصال و التنسيق الکوردي ـ الترکماني من نتائج و مکاسب في النهاية و من سيکون الرابح الاکبر فيها!
التعليقات (0)