هل نحن ديكارتيون؟. يعتبر ديكارت رائد الفلسفة الحديثة، و يحضر هذا الفيلسوف المتميز كواحد من أقطاب العقلانية. بل إنه يمثل تأسيسا لمرحلة فكرية جديدة مازالت قواعدها النظرية تفرض نفسها حتى يومنا هذا.
( أنا أفكر، إذن أنا موجود). قد تكون هذه العبارة بالنسبة للكثيرين ترفا فلسفيا زائدا. و قد تثير السخرية أيضا. لكنها تمثل علامة فارقة في الفلسفة الديكارتية. وهي الفكرة ذاتها التي حملت العالم اليوم إلى رحاب التقدم و الإزدهار في جميع ميادين الحياة. و عندما صاغ ديكارت تلك العبارة الشهيرة التي تمتلئ بها صفحات كتب الفلسفة، كان بصدد تدشين فتح فكري جديد سيكون له شأن كبير بعد ذلك. وقد عاش ديكارت في ظل هيمنة المنظومة الأرسطية التي عمرت طويلا، و شكلت إطارا نظريا تدور في فلكه كل الإنتاجات الفكرية البشرية. و هو إطار محكوم بنظرة خاطئة إلى الكون تتعلق بمسألة المركز و الهامش. ففي ظل علم الفلك البطليموسي الأرسطي كانت الأرض هي مركز الكون. و هذا يعني أنها ثابتة و الشمس تدور حولها. و بقيت هذه الفكرة تفرض سطوتها على الحواس و العقول إلى أن نجح كوبرنيك في زعزعة هذه الحقيقة التي كانت الكنيسة قد تبنتها أيضا. فقد استنتج كوبرنيك أن مركز الكون هو الشمس و ليس الأرض. لذلك تغيرت المواقع، فأصبحت الشمس ثابتة بينما الأرض تدور حولها. و بالرغم من صعوبة نجاح فكرة من هذا القبيل في تلك المرحلة، فإن ديكارت آمن إيمانا عميقا بما بات يعرف بالثورة الكوبرنيكية. و كان قد اطلع على أبحاث كوبرنيك الفلكية. و تأسيسا على ذلك قرر إعادة كتابة الفلسفة من جديد على أسس عقلية متينة تستجيب لمتطلبات علم الفلك الجديد.
إن أصالة الفلسفة الديكارتية وقيمتها تتجلى في ذلك الحس النقدي الذي يميزها. لذلك اتجه ديكارت إلى بناء منهج عقلي خالص من أجل بلوغ الحقيقة. و حقيقة ثبات الشمس و دوران الأرض لا تستقيم مع ما تشهد به الحواس. فالإنسان يرى العكس تماما. حيث الشمس تنتقل كل يوم من المشرق إلى المغرب أما الأرض فتبدو ساكنة لا حركة فيها. لذلك فالإيمان بما جاء به كوبرنيك يعني بالضرورة إقصاء لدور الحواس في بلوغ المعرفة. وهذا ما ذهب إليه ديكارت تحديدا. حيث اعتبر أن الحواس لا تمكننا من المعرفة بل إنها تغلف عقولنا بحجاب سميك يحول دون فهم الحقيقة كما ينبغي أن تكون. و الإيمان بالحقيقة الحسية يعني مزيدا من الوقوع في الأخطاء و الأوهام. و العين التي تكذب بخصوص مشهد الثبات و الحركة بين الأرض و الشمس لابد أن تكذب في أمور أخرى أيضا. و هكذا ألغى ديكارت الحواس من مشروعه الفكري. و اتجه في أبحاثه الفلسفية إلى الإعلاء من قيمة العقل وحده في فهم الواقع و تحقيق المعرفة الحقيقية. و لا معنى لأي وجود خارج الفكر. فالإنسان موجود لسبب واحد هو كونه يفكر. و بالفكر وحده يستطيع صنع المعجزات و تحقيق قبضته على هذا العالم الذي يبدو أنه انفلت من سلطة الإنسان مادام الكائن البشري يدور مع الدائرين كغيره من الكائنات التي تعيش على الأرض. لكن انتقال المركز من الأرض إلى الشمس لا يمنع الإنسان من إعادة اعتباره و تحقيق السيطرة على الطبيعة من موقعه المتحرك. لذلك قال ديكارت في مقام آخر:( علينا أن نكون سادة و مالكي الطبيعة). و ها نحن نرى اليوم كيف استطاع الإنسان أن يحكم العالم و يبسط سيطرته على الطبيعة بفضل العقل و العقلانية العلمية. و استطاع في ظرف و جيز جدا أن يقطع أشواطا هائلة من التقدم عجز عن تحقيق جزء يسير منها طوال الفترة التي حكمها النسق الفلكي الأرسطي المغلوط.
إذا كانت الإنسانية اليوم تدين لديكارت بالكثير لأنه عثر على المفتاح المفقود الذي قاد الإنسان إلى سبر أغوار هذا العالم الغامض، و نجح في فك كثير من ألغازه المحيرة، فإن حال المسلمين اليوم يبعث على التساؤل حول قيمة الديكارتية في حياتنا. فبالرغم من الكلام الكثير الذي يقال عن دعوة الإسلام إلى العقل و العلم فإن الوقائع لا تثبت ذلك. و عندما نتحدث عن الحضارة الإنسانية لا نجد للمسلمين أي دور لأنهم مازالوا يعيشون مرحلة ما قبل ديكارت. إنهم محكومون بسلاسل الحواس التي تمنعهم من التحليق بعيدا في سماء المعقولات. لذلك كان طبيعيا جدا أن تفشل كل محاولات العقلنة في الإسلام التي دشنها المشروع المعتزلي بشعار: ( العقل قبل ورود السمع)، غير أن اللاعقلانية أصرت على تغليب السمع على العقل. و مازال المسلمون يعيشون تبعات هذا التغليب و التغييب. فهل نحن ديكارتيون؟؟. مهلا قد لا يحتاج السؤال إلى إجابة، لأننا لم نسمح لديكارت أن يعيش بيننا. محمد مغوتي. 30/08/2010.
التعليقات (0)