بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
جهد كبير بذل على مدى عقود متواصلة من جماعات البيئة في العالم حتى أمكن وضعها على قمة أولويات الأجندة العالمية، ورغم الخلافات التي شهدتها قمة البيئة التي انتهت مؤخرا، ورغم الإحباط الذي عبر عنه كثيرون بانتهاء فعاليتها، فإن القمة تشكل بداية لاهتمام دولي متواصل بالبيئة وما أصابها من خلل، لكن السؤال المسكوت عنه في دعوات المتحمسين وهجائيات المحبطين أن "البيئة المادية" حظيت باهتمام لم تحظ بمثله "البيئة الأخلاقية"، رغم أن العلوم الإنسانية الحديثة تؤكد أن سلامتها شرط لا غنى عنه للازدهار، كما أثبتت الأزمة المالية العالمية أهميته الاستثنائية لاستمرار الحياة الإنسانية على هذا الكوكب المحاط بالمخاطر.
أحد أهم المتخصصين في مفهوم "البيئة الأخلاقية"، الأميركي مايكل نوفاك يرى أن الحرية ببعديها السياسي والاقتصادي تستند إلى عامل مساعد يتمثّلُ في البيئة الأخلاقية، وفي تجربة مهمة من تجارب الاجتماع الإنساني هي نشأة أميركا كان هناك من بين الآباء المؤسسين من يرى أن من لا يستطيعون ضبط مشاعرهم وعواطفهم في حياتهم الخاصة، لن يكونوا قادرين على ضبط أنفسهم في المجال العام. والبشر قادرون على المراجعة والوصول للخيارات. وفي الحقيقة فإن هذا المفهوم على نحو خاص يمثل جرس إنذار للعالم العربي الذي يعاني بالفعل من غلبة طاغية للمشاعر على المنطق، فإذا كانت كلمة العلم تحذر من أن هذا طريق مختصر إلى الفشل فكيف تحفل ثقافتنا بهذا الكم الهائل من أدبيات الاحتفاء بما هو قلبي وجواني و.....
والراغبون في حياة مزدهرة يحتاجون لرياضة أنفسهم مدى الحياة لتطوير عادات التوازن والاتزان والشجاعة والتواضع، والفضائل الأخرى، التي تمكنهم من الوصول لأحكام هادئة وجماعية، والثبات وراء تلك القرارات "تحت النار". ما يعني أن ممارسة الحرية محمية بحارس أمين هو: العادات السليمة. ومعظم الناس قادرون على ممارسة الانضباط لكن عندما يكون المجتمع المحيط مُساعداً لهم في القيام بتلك المهمة الصعبة، يكبح جماحهم عندما يمضون بعيداً، ويشجعهم بالقدوة.
ومن "القدوة" بمعناها الفردي إلى المناخ العام تبلور مفهوم "الأخلاق البيئية" وهي موجز لكل تلك الحالات والأفكار والسرديات والمؤسسات والجمعيات ورموز النظم والآراء والممارسات السائدة، بالإضافة لدوافع وأسباب الإدانة والثناء، وهذا كله يعلّمنا العادات الضرورية للازدهار الإنساني، كما يدرّبنا على ممارستها. والمعروف أن العائلات والجوار والمدارس ودور العبادة والجمعيات، والمؤسسات الأُخرى التي تؤثّر في حياتنا اليومية؛ وبخاصةٍ في سنوات العُمُر الأولى، تشكل "الأجواء" التي ننشأُ فيها.
ومن هنا فإن ثقافة أمنية ومحبة للحقيقة ومستقيمة تجعل من السهل على المرء أن ينضج باعتباره كائناً أخلاقياً؛ وضمن ذلك تطوير عادات صحيحة وطباع وثيقة، وأن نسلك في هذه الدنيا مزوَّدين بالحماس والاستقامة والثقة والأمل. أما النشوء في بيئات ثقافية رديئة أو فاسدة أو كارهة للحقيقة؛ فإنه لا يجعل هذا التطور المتقدم صعبا فقط؛ بل إنه يجعل النجاح نادرا أيضاً. لكن، من جانب آخر فإن البيئة التي نحيا فيها، وتنمو من خلالها حياتنا الأخلاقية مملوءة أو ملوَّثة بالسرديات والرموز والصُوَر والأفكار ووجوه التحريم والإباحة. جميعها تجد طريقها إلى قلوب وعقول كائنات العصر الحاضر.
وقد أصبح هناك الآن مفهوم للمشارف أو للحافة التي يصبح عندها لا مفر من أن يؤدي تكرار تصرفات أخلاقية إلى تردي أو تراجُع السياقات الأخلاقية، وهذا التردّي لا يقتصر أثره على عالم المعاني والرموز، بل يمتد أثره لما هو أخطر، إذ يجعل من الصعب اتخاذ القرارات الصائبة أو المثابرة عليها.
و"المجتمع الحر" عنده سردياته الخاصة الملائمة له، قصصه غالبا مملوءة بالبطولات والشخصيات ذات الأبعاد الرمزية، والأفكار السامية، والانضباط المتفوق، والزهد والتضحية، ورؤى الحياة الطيبة، وهي أمورٌ تدفعنا للأمام وتستحثنا من أجل الفعل الأخلاقي. وهذه الأمور أيضاً جزءٌ من البيئية الأخلاقية". ومما يثير الرهب، مقارنة هذا النموذج بما يشهده عالم الإبداع العربي – الأدبي والفني معا – في السنوات القليلة الماضية، فمن الطبيعي أن تبعث هذه المقارنة على الرعب من فرط الاهتمام بالمهمشين والمسحوقين والشواذ.
وإذا كانت مشكلة التوازن في البيئة بمعناها المادي قد حركت صناع القرار في معظم أنحاء العالم لعقد قمة عالمية لإنقاذ "البيئة المادية" فإن البيئة الأخلاقية تستحق هي الأخرى تحركا لإعادة التوازن لهذه البيئة. ومؤخرا يحذر المؤرخ الأميركي دانييل غولدهاغن من أن القانون الدولي أصبح غير مفيد لمنع الإبادة الجماعية، ومنذ بداية القرن العشرين مات أكثر من 100 مليون شخص بسبب إجراءات التصفية، أي أكثر بكثير ممن ماتوا بسبب الحرب. وفي تعبير ساخر يقول غولدهاغن: "الصحيح أن أعمال الإبادة الجماعية تصبح ممكنة من خلال نظام دولي مطيع"!!!
إن ذوبان الجليد وارتفاع حرارة الأرض وثقب الأوزون والتصحر وغيرها من التحولات التي ضربت العالم المادي المحيط بالإنسان قد دفعت أهم صناع القرار في العالم للاجتماع مع اهتمام غير مسبوق من الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، لكن إبادة أكثر من 160 مليون مدني خلال القرن العشرين على يد حكوماتهم كانت أجدر بأن تدفع العالم لأن يعقد قمة عالمية لمواجهة التلوث المخيف في البيئة الأخلاقية العالمية، فوجود الإنسان بوجهيهه المادي والمعنوي، مهدد بشكل جدي.
التعليقات (0)