تشهد مصر هذه الأيام جدلا واسعا بعد ظهور الكتاب الجديد للكاتب الصحفي " محمد حسنين هيكل". الكتاب الذي تنشره صحيفة " الشروق" المصرية على حلقات يحمل عنوان: " مبارك وزمانه. من المنصة إلى الميدان". وهو يكشف كثيرا من تفاصيل حقبة الرئيس المصري السابق كما عرفها وعايشها هيكل عن قرب.
لا يختلف اثنان في القيمة التاريخية لمؤلف من هذا القبيل، خصوصا وأن كاتبه يعد قامة إعلامية كبيرة، وذلك بالنظر إلى تاريخه الصحفي المديد وإلى معرفته الواسعة بردهات السياسة وأسرارها في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد ظل قريبا جدا من دوائر صناع القرار في مصر بالتحديد. لذلك فهو أرشيف تاريخي حي يستحق كل الإهتمام والمتابعة. وبداعي الفضول المعرفي وجدت نفسي مشدودا إلى قراءة الحلقات المنشورة في الصحيفة المذكورة. وبدا أن هيكل يطرح أسئلة عميقة ومستفزة منذ البداية. وذلك أسلوب يحسب له طبعا لأنه يفرض على القارئ المهتم أن لا يمر بعينيه على الكلمات مرور الكرام، بل أن يقرأها وكله آذان صاغية. لذلك استوقفتني جملتان وردتا في أول حلقة من السلسلة المنشورة. الأولى يتساءل فيها هيكل متحدثا عن مبارك: " إذا أخذنا الصورة الأولى للرجل كما شاعت أول ظهوره، وهى تشبهه بـ «البقرة الضاحكة» La vache qui rit ــ إذن فكيف استطاعت «بقرة ضاحكة» أن تحكم مصر ثلاثين سنة؟!! ". هذا السؤال المستفز والقابل للتأويل يرتبط بشدة مع جملة أخرى أتت بعد ذلك. وفيها يقرأ هيكل عبارة وردت في قصاصة لصحيفة " الواشنطن بوست" في عددها الصادر بتاريخ 07 أكتوبر 1981. وجاء فيها: «إنه حتى هؤلاء الذين يُقال إنهم يعرفون «مبارك» هم فى الحقيقة لا يعرفون عنه شيئا».
في سؤال البقرة الضاحكة دلالة واضحة على أن المواطن المصري عموما لم يكن راضيا على أداء الرئيس السابق طيلة فترة ولايته. وهذا يعني أن الرجل لم يكن مؤهلا لقيادة دولة محورية في الشرق الأوسط. لكن وصف رئيس الدولة بالبقرة هو في الحقيقة إساءة لشعب بأكمله. فكيف ترضى أمة تصف نفسها بأم الدنيا أن تحكمها بقرة؟. وواضح أن هذه المفارقة كانت حاضرة في وعي هيكل حينما طرح السؤال بهذه الصيغة. ذلك أن هذا التشبيه المستقى من القاموس الظاهري ل" كليلة ودمنة " (والمندرج ضمن لغة التنابز بالألقاب التي تبرع فيها مجتمعاتنا كثيرا) كان متداولا بين كثير من الأوساط منذ مدة طويلة. واستعماله من طرف هيكل في هذا الكتاب جر عليه كثيرا من الإنتقادات. لكنه في الواقع يحمل في العمق محاكمة لطبيعة التفكير التي تنتج مثل هذه الأوصاف على سبيل خفة الدم وروح النكتة، بينما تنسى أو تتناسى أنها لا تسيء بذلك لشخص الموصوف وحده، بل تمتد إلى كل مواطن مصري في كل مكان، لأن مبارك كان على كل حال رئيسا لكل المصريين. وعندما تحكم " بقرة ضاحكة" شعبا بأكمله لمدة ثلاثين سنة فذلك يدعو للإستغراب حقا. ويحول الإبتسامة التي قد ترتسم على شفتي كل من يسمع هذا الوصف إلى عنوان " للمضحك المبكي" بامتياز.
هل كان مبارك إذن مجرد بقرة ضاحكة؟.البقرة رغم كل شيء تشير في جانب منها إلى معنى الوداعة والعطاء. لكن مبارك كان بالأحرى ثورا استطاع أن يقهر شعبه ويصمد في الحلبة طويلا. و يبدو أن الذين أطلقوا وصف " البقرة" على الرئيس السابق لم يفهموا شخصية هذا الرجل على حقيقته إطلاقا. وتلك هي المصيبة الكبرى. لذلك يعترف هيكل بوحي من قصاصة "الواشنطن بوست" قائلا: "...إننا بالفعل أمام رجل رأيناه كل يوم وكل ساعة، وسمعناه صباح مساء، واستعرضنا الملايين من صوره على امتداد ثلاثين سنة، لكننا لم نكن نعرفه ولا نزال!! ". هذا الإعتراف في الحقيقة لا يخص هيكل وحده، بل ينطبق على كل الذين كانوا قريبين من مبارك طيلة فترة حكمه. وعندما ينجح رئيس عمر في السلطة لأكثر من ربع قرن في إحاطة نفسه بكل هذا الغموض رغم كل الأضواء التي سلطت عليه، فإن ذلك يدل على دهائه السياسي الكبير ويعبر عن القدرة العالية التي مكنته من السطو على القرار السياسي في مصر كل هذه المدة. لكن الإستنتاج الصادم الذي وصل إليه هيكل، يخفي وراءه سؤال أهم. وهو: من يعرف مبارك على حقيقته إذن؟. ربما ستجيبنا تفاصيل الكتاب بالواضح أو المرموز عن جزء من هذا السؤال. لكن الإجابة الكاملة والوافية ستظل دائما بعيدة المنال لأن مفاتيحها لا توجد عند خدام مبارك الأوفياء الذين كانوا بجانبه طيلة ثلاثين سنة من الحكم، بل توجد لدى صناع القرار السياسي العالمي هناك في البيت الأبيض. ومن كانت أسراره في عهدة دولة العم سام لا يمكن لشعبه المسكين أن يفهمه ويعرفه إلا استنادا للمظهر. والمظاهر خادعة زائفة.
قصة مبارك ليست فريدة من نوعها، فكل حكام المنطقة يحيطون أنفسهم بهالة كبيرة من الغموض والتعالي. وهم يحكمون شعوبهم بمنطق الراعي والرعية. ولا يهتمون إلا بالبقاء في السلطة لأطول وقت ممكن. ومن تم لا أحد يستطيع الإدعاء بأنه يمتلك معرفة واسعة بالحاكم حتى ولو كان ظله الذي لا يفارقه. وحتى إذا امتلك بعض المعرفة والأسرار فهو لا يجرؤ على البوح بها إلا بعد موت الحاكم أوسقوطه. وحينما يسقط الثور تكثر السكاكين. محمد مغوتي.27/01/2012.
التعليقات (0)