في ذروة الصراع الأميركي السوفيتي ومع ما كان يملكه الأخير من إرادة سياسية وقوة ردع تدميري هائلة تضاهي تلك التي عند أميركا او تساويها باسوء الاحوال، لم يجرؤ السوفيت على الاقتراب من منابع النفط في الدول المطلة على الخليج العربي لمعرفتهم بحساسية الأمريكان تجاه تحرك مثل هذا. وقد اعتبر الأمريكان الاحتلال السوفيتي لأفغانستان (عام 1979) محاولة منهم لتهديد المياه الدافئة، فاستنفرت أمريكا كل إمكانياتها (وإمكانيات حلفاءها التقليديين في أوروبا والمنطقة) لوأد المشروع السوفيتي، ولم تكل جهودها إلا ّ بالانسحاب السوفيتي المذل عام (عام 1989).
و كذلك فعلت أميركا حين فكـّرَ الإيرانيون بتصدير (الثورة) إلى دول الجوار النفطية وزعزعة استقرارها الداخلي، فكان ما كان من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية (عام 1980) للجم الأطماع الإيرانية. وكان لوقوف أميركا (وحلفاؤها التقليديون في أوروبا والمنطقة) مع العراق في حربه أعظم الأثر في تدمير المشروع الإيراني،وتقبلوا هزيمة قاسية ومُذِلــّة لم ينسوها الى اليوم (صرح الخميني، بأنّه يقبل بإيقاف الحرب كمن يتجرع السم ــ تموز 1988ــ). وعادت الأمور تسير سيرها المعهود المستقيم وبقيت خارطة المنطقة وولاءاتها كما هيَ.
وحين كررَ النظام السابق في العراق نفس الخطيئة (بما لا يقارن بمحاولة السوفيت في الاقتراب من المياه الدافئة وبرغبة إيران في مد نفوذها في دول المنطقة). حيث قام بكل معاني الوقاحة والاستفزاز باحتلال الكويت(عام 1990). وقد اختار أسوأ الأوقات على الإطلاق فقد كان الإتحاد السوفيتي يلفظ أنفاسه الأخيرة والعالم يتشكل من جديد وفق عالم القطب الواحد بسبب التفوق العسكري والاقتصادي والعلمي الأميركي. لذا فقد كان من السهل جدا ان يتحد المجتمع الدولي ضد هذا الغزو وفرض حصاراً اقتصاديا فورياً وفعلياً على العراق، وجيشت أميركا جيشها وجيوش حلفاءها التقليديين في أوروبا والمنطقة (الجوقة الموسيقية المنصاعة لأوامر المايسترو المحترف). ومع عدم انصياع العراق لإرادة المجتمع الدولي ولمنطق العقل ، خاضت القوات المتحالفة حرباً غير متكافئة دمّرت الجيش العراقي بشريا ومادياً، ومعه أغلب البنى التحتية العراقية. ولم تقف آلة التدمير إلا ّ بإعلان العراق انسحابه من الكويت الذي عاد بلداً مستقلاً. و لم يكتف الأمريكان بذلك فيما يخص العراق ؛ بل أوكلوا لآلية الحصار الاقتصادي الخانق والمحكم إتمام تدمير ما سلم من بناه التحتية. وانتهى الأمر بإسقاط النظام الحاكم فيه واحتلال البلد، وامتدَ التدمير ليشمل حتى نسيجه الاجتماعي. لقد كلـّف هذا الاحتلال أميركا أكثر من أربعة آلاف جندي من أبنائها وأكثر من تريليون دولار[1000 مليار دولار] لحد الآن دون أنْ يهدّ ذلك من عضدها.
تدحض الوقائع أعلاه الاعتقاد الذي يقول مبتدعيه بأنّ أميركا ستسلم العراق على طبق من دماء أبنائها ودولاراتها لإيران. ويعكس هذا التفكير قصورا عميقا في معرفة السياسة الأمريكية في المياه الدافئة. إنّ المبدأ الأساسي الذي يعملون بموجبه هو أن يبقى الوضع على ما هو عليه بدون أيّ تغيير وتحت السيطرة، لأنّ ترك العراق يسقط بيد إيران شبيه بترك الكويت يسقط بيد العراق بل هو أسوأ بكثير. لقد استوعب الإيرانيون الدرس الأول جيداً من حربهم مع العراق، وإن تطلب الأمر درس ثانٍ فإنّ الأمريكان لن يبخلوا عليهم أبدا (ولسان حالهم يقول: إن عدتم عدنا). أمّا تدخلاتهم الحالية فهي لا تعدو عن محاولة لإزعاج المشروع الأميركي وإقلاقه أسوة بما تفعله دول أخرى غير راضية عنه(سوريا، السعودية، إسرائيل، الكويت ودول أوروبية عديدة تغير موقفها بعد أن غيرت أميركا سياستها تجاه العراق).
إنّ للإيرانيين أجندتهم الخاصة بهم وهي أبعد من أن يكون لها دوافع دينية (أكثر من خمس وتسعين بالمائة من العراقيين مسلمين) أو طائفية (بحكم اشتراك غالبية الشعب العراقي والشعب الإيراني في المذهب الشيعي). فقد دعموا كل الجهات المتصارعة على ارض العراق، بكل انتماءاتهم وطوائفهم، الأمر الذي زاد من فداحة الخسائر المترتبة عنه. والطريف أن الأمريكان يعبرون دائما عن تذمرهم وسخطهم من دور إيران السلبي هذا، لكن العديد من المسؤولين العراقيين يتجنبون حتى الإشارة له، بل يتهمون الساخطين من الدور الإيراني بأنهم ينطلقون من دوافع طائفية ليس إلا.
لقد استبيحت كرامة العراق وسيادته منذ آب 1990 والى يومنا هذا، وقد كان ابلغ من عبر عن ذلك الرئيس السوري بشار الأسد في معرض رده على طلب العراق من مجلس الأمن الدولي بتدويل التحقيق في تفجيرات الأربعاء الأسود، حين قال أن العراق كله مُـدَوّل منذ احتلاله الكويت.
إنني أرى ان هناك تهويل في الدور الإيراني وفي إمكانياتها، وهذا يذكرني بقصة طريفة كانت تقصها أمّي، طاب ذكرها، عليّ وإخوتي حين كنّا صغاراً؛ عن أرنب كان نائما تحت شجرة جوز هند وسقطت جوزة هند منها قربه فهب مذعورا يركض في الغابة من غير هدى ، وكلــّما رآه حيوان يسأله ما الذي جرى ، يجيبه الأرنب سوف تنشق الأرض وتبتلعنا، فيتبعه دون تردد أو تفكير. وهكذا أصبح الراكضون مجموعة كبيرة من الحيوانات. إلى أن استوقفهم قرد حكيم واستفهم منهم عما هم فيه من ارتباك ورعب فأخبروه بما قاله لهم الأرنب، فقال القرد؛ ولكن الأرض لم تنشق ولم تبتلعكم وانتم بخير. فالتفتوا إلى بعضهم البعض خجلين فرحين. اعتقد ان بعضنا يظن ان إيران سوف تبتلعنا. ولكنّ رسالة أميركا واضحة لا تقبل اللبس؛ ستسير الأمور سيرها المعهود المستقيم بدون أيّ تغيير في الجغرافيا أو في الولاءات
مع الشكر
محمد الربيعي
البصرة 2009
التعليقات (0)