الغرب مثلا.
ليس الهدف هنا دراسة السياسة والميكيافلية, كما يوحي به العنوان, وإنما فقط الإشارة للمواقف السياسية الغربية المتسمة بالانتهازية غير الأخلاقية, بإعلاء المصالح على كل القيم الإنسانية..., وبكلمة بالميكيافلية بمعناها الشائع, وخاصة عندما نرى توجهاتها فيما يجري اليوم في سوريا. قد يظن البعض أن الأمر مجرد لامبالاة , وان خلف الصمت الظاهر لا توجد سياسات تسوية حسابات معلقة قديمة وحديثة بين القوى الفاعلة في السياسات الداخلية والدولية, ومنها على سبيل المثال لا الحصر, الانتخابات الأمريكية, والعلاقات الغربية الروسية, والمسألة النووية الإيرانية, والمصالح الإسرائيلية, وترتيب الأوضاع واحتوائها بعد, وخلال, ما يعرف بالربيع العربي. ليس هذا صمتا بريئا أيها السادة , وليس لامبالاة ما ترون, فالسياسة لا تصمت, ولا تقف غير مبالية, ولكنها فرص سانحة أمام ثعالب السياسة لتحقيق المصالح والتسويات خلف المغلق من الأبواب. كما أن الدماء المسفوحة ليس دماء شعوبها, ليست دماء غربية. فلتذهب إذن للجحيم القيم المعلنة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية والديمقراطية. يالها من عنصرية مغلفة بأسباب ميكيافلية رغم الادعاء بالمساواة بين البشر بالإنسانية.
كثيرا ما كانت, وما زالت, تعلن الدول الغربية أن سياساتها ,الخارجية بشكل خاص, تهدف للدفاع عن قيم معينة , لحمايتها, أو لنشر وهجها وإشعاعاتها, ولم تكشف مطلقا هذه الدول عن أن أهدافها الأساسية, ليس هذا, وإنما تحقيق إطماع ومصالح بحت إستراتيجية واقتصادية أينما كان وكيفما كان, ولا تعني شيئا أمام هذا الدماء البشرية.
كان هذا عبر التاريخ وصولا إلى يومنا هذا, وسوف يستمر مستقبلا. فالحروب, والفتوحات, والاحتلال, كانت تبرر على أنها إما للتبشير بمعتقدات دينية أو إيديولوجية متطورة, وإما "لتحضير" الغير, غير المتحضر, أو الأقل حضارة مما يجب, ونقل الثقافة إليه ووضعها خالصة بين يديه, برغبته أو رغما عنه. وإما على أنها لحماية النفس والوقاية من تسرب الأفكار البربرية القادمة من هناك, من العالم المعادي لهدم الحضارات الراقية وقيمها أرث الإنسانية (الغربية).
وعليه, فالغير عدو غير متحضر وجاهل ولا قيم لديه. دائم التهديد والتربص, سواء أكان التهديد والتربص حقيقيا أو مفترضا, وخطره حال أو متوقع, يتوجب غزوه في عقر داره بشتى الوسائل, أخرها العسكرية في أيامنا هذه (آخر العلاج الكي كما يقول القدماء).
"شيطينة" الغير تخلق الأسباب الموجبة والضرورية للتصدي له بكل الوسائل, بما فيها الحروب , والإبادة الجماعية, والفتوحات, والاحتلال واستعمار الشعوب واستغلال ثرواتها ومصادرها الطبيعية.
"التحضير" ونشر القيم الحضارية, خدمات لا تقدر بثمن تقدم لغير المتحضرين, وتُرتبُ عليهم حقوقا لمقدميها, و أثمانا مها كانت باهظة تبقى قليلة أمام الفوائد المرجوة: "التحضير" ( مما خلق عند الطرف الآخر "الغير" ردود أفعال تحولت لموجات تعصب وكراهية وحقد وتكفير, ودعوات مصحوبة بأفعال لتدمير القيم الحضارية والمكتسبات الإنسانية, التي هي ليست فقط صناعة غربية).
ولكن مع امتداد المستعمرات الأوروبية لتشمل العالم بأكمله (لم تكن تغرب الشمس عن المستعمرات البريطانية), بقيت القيم المبشر بها مجرد ادعاءات في أذهان أصحابها فقط. لم تعرف لها انتشارا أو قبولا, ولم يكن مرحب بها على الإطلاق في المستعمرات المنكوبة بحضارة مزعومة وقيم كلامية خادعة تغطي عقلية وتصرفات استعمارية بحتة. وعكس ذلك, عم الفقر والجهل والحرمان والأمية والتخلف والمرض ليطال مئات الملايين من البشر... وبقيت "الحضارة" تقطر دما, ليس فقط من جوانبها وإنما كذلك من قلبها ومركزها.
فإذا كان مفهوم الحضارة نفسه, والقيم نفسها, غير متفق عليها عند حامليها وناقليها ليس فقط على مستوى القارة الأوروبية, وإنما كذلك داخل كل دولة من دولها (الحروب المدمرة الأوربية الأوربية), فهل تستقيم عندها مثل تلك الادعاءات وتحمل ولو بعض مصداقية؟.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو عن أية قيم تحدثوا قديما ويتحدثون اليوم ؟ هل هي تلك المعلنة والمرفوعة في كل مكان في المواثيق والمعاهدات والاتفاقات, حتى على الحراب؟. أو المتناقلة عبر أجهزة الإعلام بأنواعها, والمعمول بعكسها خفية أو في وضح النهار؟.
سوف لا نذهب بعيدا في التاريخ لضرب الأمثلة على ما خلفته سياسة النفاق المستتر بستار القيم ونشرها, وإنما تكفينا الإشارة إلى الحربين العالمتين الأخيرتين, والحرب الباردة, والمآسي التي عانت وتعاني منها إلى يومنا هذا شعوب الدول المستقلة حديثا الملقبة, خداعا دبلوماسيا, مرة بدول العالم الثالث, ومرة بالسائرة في طريق النمو , أو حتى النامية , ونادرا ــ تماشيا مع فن النفاق نفسه ــ ما توصف علنا بالمتخلفة وغير المتحضرة. هل من تعاليم القيم تلك, على سبيل المثال لا الحصر, أن ترسم الحدود الجغرافية لتلك الدول وتقتطع مناطق من هنا لتضم هناك, بتلاعب خبيث لتبقي الأوضاع بعد الاستقلال محل نزاعات دائمة بين الدول المتجاورة, تتطلب بالتالي تدخلات هذه القوى الخارجية لتكريس السيطرة والهيمنة؟ .
لا نعتقد إن غربيا واحدا, ممن يؤمن فعلا بقيم محلية, أو قارية, أو أية قيمة لها أبعاد إنسانية شاملة, يمكنه أن يجد واحدة من قيمه هذه تبرر خلق المأساة الفلسطينية, أو الجريمة المستديمة بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. أو قيمة واحدة تقر أو تبرر الصمت والتستر على ما جرى و يجري منذ عقود طويلة ضد الفلسطينيين بالذات. صمت يعادل المشاركة في القتل والتدمير والتهجير والاعتقالات والملاحقات وحرق مناطق بأكملها, غزة آخرها, والقادمات ستكون أفظع, والتواطؤ سيبقى سيد الموقف. (لا نتحدث هنا بطبيعة الحال عن أصحاب القيم والمؤمنين بها فعلا من الشعوب الغربية التي تخرق الصمت وتتظاهر في الشوارع لقول الحق. ولا عن كتابات الأحرار من المثقفين بأنواعهم وقيامهم بحملات تطوع لمناصرة القضايا العادلة في العالم أجمع. وإنما الحديث عن السياسيين وارثي ميكيافلي وأميره, المتاجرين بالقيم وبدماء وآلام الشعوب المختلفة عنهم مكانا وكيانا ومعتقدا, باعتبار ذلك مجرد تفاصيل لا قيمة لها, تبررها الغاية).
الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية, والتي كانت تبحث عن إقامة التوازنات في العلاقات الدولية بأي ثمن, كرست نتائج الحروب المشار إليها, ورسمت الأوضاع الظالمة المترتبة على تسويات مفروضة بالقوة. ورسخت معسكرين رئيسيين متضادين أقاما الأحلاف والتكتلات باسم الدفاع عن المعتقدات والقيم الحضارية:
ــ معسكر يدعي في سياسته المعلنة محاربة الدكتاتوريات, والأنظمة الشمولية, والمد الشيوعي, وانتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية, وكسر الطوق الحديدي المفروض على شعوب دول المعسكر الاشتراكي بمكناتهم, والتصدي للأفكار الهدامة, وإقامة الديمقراطية ودولة القانون هناك, وهناك فقط. مهام جند المعسكر الغربي نفسه بكل إمكانياته لمحاربتها لمخالفتها لقيمه ومعتقداته. وليس لمصالحه الاقتصادية ولتهديد تفوقه العسكري, وحتى وجوده !!!.
ـ ومعسكر مضاد يدعي في سياساته الخارجية تخليص الإنسانية من الامبريالية ونظمها. وتحرير الشعوب من الاستعمار. والنضال من اجل اتحاد عمال العالم لتحرير الطبقات الكادحة من الاستغلال البشع. وإقامة دكتاتورية البروليتاريا وصولا إلى فناء الدولة وسعادة البشرية.. قيم بشر بها المعسكر الشيوعي طويلا والى يوم سقوطه. و تحولت إلى إيديولوجيا متكاملة ثابتة وجامدة رفضت كل تطور, وعرفت داخل معسكرها نفسه صراعات نتيجة للتفسيرات والتطبيقات المتباينة.
الحلف الأطلسي وحلف وارسو من الأدوات العمالتية, متأهبان لكل شيء, بما فيه تدمير الإنسانية من اجل مصالح أنظمتهم. مصالح مغلفة كما أشرنا, بقيم يعتبرها كل طرف بأنها قيمه, وإنها هي الأفضل للإنسانية جمعاء, ولأنظمتها السياسية. وكل معسكر من المعسكرين الهائمين بحب القيم وحدها, كان يستقطب الدول الصغيرة للسير في فلكه . وقيام بعض الزعماء “الوطنيين" المهتمين بمصالح دولهم المستقلة حديثا عن الاستعمار, بتشكيل حركة "عدم الانحياز", كانت تهدف عند القليل جدا منهم, إلى محاولة تخفيف ضغوط الاستقطاب. وعند البعض الآخر الاستفادة من تناقضات المعسكرين للعب على الحبال بينهما بانتهازية وبهلوانية محترفة, وعند الجميع البحث عن حماية لأنظمتهم السياسية التي لم تقم يوما على الشرعية.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت الدول الأوروبية تبحث عن قيم مشتركة بين شعوبها المتعددة, متلافية قدر الإمكان تلك المتعارضة, أو المتناقضة أو الخلافية. فمشروع بناء اتحاد بينها يستوجب إيجاد شروط وظروف التعايش بين تلك الشعوب . خاصة وان العدو المشترك, المعسكر الاشتراكي, الذي كان يؤجج صدام المفاهيم والقيم, قد انتهى. ولم يعد هناك عدو جديته وإمكانياته العسكرية والاقتصادية والإيديولوجية, يمكنها أن تشكل خطرا حقيقيا على الغرب المنتصر بسقوط المعسكر الشيوعي و خسوف قيمه.
.المشروع الأوروبي يعلن انه يبني كيانه على ركائز من قيم غير خلافية, أي مقبولة أوروبيا, وعالمية المضمون. فأوروبا تدعي بأنها لم تعد مسيحية أو مسيحية يهودية في قيمها. وان هذه القيم قيم قبل كل شيء سياسية : الديمقراطية. دولة القانون . حقوق الإنسان. الحريات العامة والفردية. العدالة, المساواة, قيم لا تتنكر لأحد . وهو ما يضمن التعايش بين دول الاتحاد ومكوناتها. لا أحد يلوم الأوروبيين على الواقعية في التفكير والتخطيط والسياسة المدروسة من كل الجوانب لإقامة اتحادهم على أسسها. وإنما العكس كثير من الشعوب تحسدهم عليها, ومنها بشكل خاص الشعوب العربية. (وليس بطبيعة الحال أنظمتها الدكتاتورية).
ومع ذلك, لم يكف الغرب والاتحاد الأوروبي بشكل خاص ككيان جديد, عن الادعاء باحتكاره القيم والمبادئ, واعتبار نفسه المنتج الوحيد لها. متجاهلا أن قيم التعايش بين الشعوب ليست غربية حصرا, ولم تكن كذلك. ولعل فيما أورده البروفيسور Bettrand Badie في معهد الدراسات السياسية في باريس مثال على ذلك بقوله: ان القيم التي خلقت التعايش قديمة وقد تمثلت, على سبيل المثال, في تسامح قائم وعميق في عصر الإمبراطورية العباسية. حيث كانت فيها الكنائس والمعابد الوثنية والمعابد اليهودية إلى جانب المساجد. وتتعايش الحضارات المختلفة واللغات المتعددة. وعلى الغرب أن يتوقف عن فرض صورته التاريخية وكأنه التعبير الوحيد عن القيم العالمية. ( Quelles valeurs pour l’union Européenne ).
عالمية القيم لا يجب أن تقوم إلا على الروابط الاجتماعية. يحصل التعايش السليم في ظل قيم إنسانية الطابع والمحتوى, فقط عندما لا يشعر احد بأنه مهدد, و بأنه في حالة تبعية, أو تحت الهيمنة, ومجبر على الانغلاق والعزلة. وعندما يكف بعض الغرب عن الاعتقاد بوجود عرق غربي متفوق يحمل قيما شمولية تصلح للإنسانية جمعاء وهو وحده القيّم عليها.
هل يجب التذكير بان الأمم المتحدة, التي لا تتكون من غربيين فقط, قد ساهمت في بناء قيم ومبادئ ضمنتها في اتفاقيات ذات طابع شمولي عالمي, مثل رفض التمييز العنصري, والجنسي. .. مثل مفاهيم حقوق الإنسان وإعادة تعريفها, والحقوق المدنية والسياسية. مثل حق تقرير المصير, مثل حماية الطفولة. مثل حق الشعوب في السيادة على ثرواتها ومصادرها الطبيعية؟.
أليس من تنكر ويتنكر للكثير من تلك القيم, أو يحاول أن يفهما كما يحلو له, ووفق مصالحه الخاصة, هي بعض الدول الغربية, ومنها بشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية, التي تدعي قيادة العالم وتعتبر نفسها مسؤولة عن تحضيره, عندما تمتنع عن توقيع الاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل, وتلك المتعلقة بتحريم الألغام المضادة للإفراد, والعديد من البروتوكولات المتعلقة بالإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية, والمتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 1966؟. وتساند دون شروط أو تحفظ كل الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني, المتنكرة لكل القيم والاعتبارات الإنسانية, رغم الإدانات العالمية لها بالإجماع تقريبا. معتبرة إن إسرائيل من حملة قيم الغرب والمدافع عنها في منطقة قيمها غير حضارية.
أليست القيم السبعة المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية المقدمة من لجنة الأمن الإنساني عام 2003 والمتضمنة: الأمن الغذائي. الأمن الصحي. امن البيئة. الأمن الفردي. الأمن الثقافي. الأمن السياسي. الأمن الاقتصادي. هي من أعمال لجنة غير غربية بكاملها يترأسها ياباني. ( لجنة الأمن الإنساني. الأمن الإنساني الآن. باريس صحافة العلوم السياسية, 2003 ).
أليس للماركسية, التي حاربت قيمها الدول الرأسمالية دون هوادة, فضل في إعطاء مضمون حقيقي وروح للكثير من القيم ذات الطابع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي, وللعديد من المفاهيم النظرية البحتة للتحول إلى مكاسب راسخة في قيم اليوم؟. لا نعتقد أن منصفا واحدا في الاتحاد الأوروبي ينكر ذلك دون أن يكون مكابرا. وخاصة بعد زوال الخوف من قول الحقيقة.
أليس بفضل الاتصالات لم يعد هناك موضعة لإنتاج الثقافات. ولم يعد هناك, كما يرى البروفسور بادي بترانت, إقليم للمسحيين قائم إلى جانب إقليم للمسلمين. هذه المفاهيم تركت مكانها لتصل إلى إقامة وترسيخ التعايش الذي يمكن أن يكون هو القيمة الأساسية ذات الطابع الشمولي العالمي. ويجعل من السياسة فن التعايش الحقيقي ــ وليس فن الخداع والنفاق والميكيافلية ــ مهما اختلفت معتقدات الأفراد الدينية وعاداتهم, ولتحقيق إمكانية التعايش بين المختلفين. وفي هذا, حسب البروفسور المذكور, سقوط نظرية صموئيل هنتنغتون Huntington في صدام الحضارات. فعالم اليوم عالم اتصالات وتواصل وتداخل دون موضعة الثقافات والحضارات وتصادمها.
إذا كان الحال أن هذه القيم ــ التي يصر الغرب والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص على الادعاء بأنها من إنتاجه وحده, وبأنها ملكيته وحده, ويعطي الحق لنفسه بنشرها بكل الوسائل عن طريق التصدير, بفوقية لم يتخل عنها يوما ــ وهي في حقيقتها قيم شاركت في إنتاجها البشرية جمعاء, ألا يقع عندها باطلا الادعاء بأحادية المصدر, واحتكار براءة الابتكار, والتمسك بحق الدفاع, ونشرها بالهجوم, فقط حين يرى أن مصالحه تقتضي ذلك؟. ويتنكر لها كليا عندما تتعارض مع مصالحه ومواقفه؟.
ألا تذهب بالتضاد مع تلك القيم سياسات الاتحاد الأوروبي في تعامله مع المواطنين الأوروبيين من أصول غير أوروبية, وحتى مع مواطنيه من أصول أوروبية شرقية؟. فما بالكم إذا كانت بعض الأصول عربية, على سبيل المثال.
الأوربيون يمارسون في سياساتهم نوعا من التمييز غير المقنن, ولكنه ظاهر وجلي في الحياة العملية داخل الاتحاد نفسه, أليس في هذا انتهاك صارخ لتلك القيم ؟. ( كالعادة سيتنطع لنا هنا بعض من هم أوروبيون حديثا وأكثر أوروبية من الأوروبيين المتواجدين في قارتهم منذ تشكل هذه القارة, و يتهموننا بالإساءة لأوروبا التي نعيش فيها !! علما بان قطاعات واسعة من الأوربيين الشرفاء أنفسهم تلمس ذلك وتندد به, وتدينه, وتعتبره تناقضا مع قيم التعايش والتسامح والتعددية).
ألا تذهب بالتضاد مع تلك القيم سياسات الدجل والنفاق التي يتبعها الاتحاد الأوروبي, وتبعتها دوله قبل أن تشكل اتحادا, وما زالت تتبعها بعد قيام الاتحاد بميكيافلية , في خلق ثم دعم, بكل الوسائل, الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي لا تؤمن بقيم الديمقراطية ودولة القانون. وتتنكر للحقوق والحريات الأساسية. وتنتهكها على مدى عقود, بكل الوسائل على مرأى ومسمع الجميع؟. الم يكن ذلك إستراتجية صرح بوجودها بعضهم (كلينتون وغيرها) علنا ودون خجل , بأنهم كانوا يدعمون الاستقرار الناتج عن الاستبداد والقهر على حساب القيم, بما فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان؟.
أليس على الغرب الكف عن التدخل والمساندة المطلقة للأنظمة المذكورة في تسلطها على شعوبها, ومدها بوسائل البقاء من اجل تحقيق مصالح غير مشروعة وبوسائل غير أخلاقية ؟. أو, إن كانت مصالحه أكبر منه, أليس بمقدوره , كحمّال قيم, الكف عن التبجح بتلك القيم, وعن دفاعه عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية وعن الدولة الديمقراطية ..؟. (وهنا أيضا سيتنطع لنا, وبقوة اشد هذه المرة, الأوروبيون الجدد من أبناء جلدتنا سابقا, بان ليس من المطلوب من الأوروبيين أن يأخذوا محلنا في التصدي لتلك الأنظمة ومعاداتها, حتى مع علمهم بان لا أحد بطبيعة الحال يطلب منهم ذلك أو يرضى به. ولكن ما نطلبه وتطلبه, باعتقادنا, الغالبية العظمى, وباسم القيم المتبجح بها, هو الكف عن النفاق, والقول كفي ميكيافلية). هل يكفي أن يمتلك الغرب الديمقراطي نصوصا كافية في مواد الحقوق الأساسية والحقوق الاجتماعية والحريات العامة, لا تطال غير الأوربيين, لينسب لنفسه تمثٌل تلك القيم ويقيم من نفسه وصيا عليها ومراقبا ـ غير نزيه ـ على تطبيقها؟.
ألا يثير الاشمئزاز في نفس الإنسان المضطهد, المقهور, رؤية مبعوثي الغرب يجوبون مناطقنا معانقين طغاة أو سفاحين, بحرارة تذوب فيها حياء قيم الأولين والآخرين, كاشفة تواطأ وخبثا فاضحا, وهم يعلمون أنهم يعانقون فيهم الجريمة المتجسدة بهياكل بشرية ؟.
أليس من المخزي وهم يرون الدماء السورية تسفح يوميا والقمع والدوس على كرامة الإنسان وعلى الظهور والرؤؤس, وتشريد عشرات الآلاف, وسجن واعتقال عشرات الآلاف من السورين المطالبين بعد نصف قرن من الاستبداد المدعوم من الأنظمة الغربية دعاة القيم وحقوق الإنسان, يطلقون تصريحات استنكار بائس هنا هناك, ثم يتراجعون عنها أو يخففون من نبرتها لتصبح دون قيمة ودون نبرة, ودون مصداقية. هل يمكن وصف هذه بغير النفاق وعدم ألمبالاة بالجرائم والمجازر المرتكبة منذ أكثر من 15 شهرا, ألا يشير هذا إلى عنصرية سافرة, باعتبار أن الإنسان العربي المنكوب مختلف عن إنسانهم, وغير مؤهل بعد, لدخول نادي الإنسانية بقيمها الغربية؟.
أسئلة لا تبحث عن أجوبة, وإنما تشير إلى أن النفاق السياسي الغربي, وخاصة في السياسات الخارجية, وان تغيرت أساليبه وتقنياته فجوهره يبقى نفاقا متأصلا وعريقا غير قابل للانفكاك عنه ومنه, وان ميكيافليي, وان عُدلت طبعته بحكم تغير الزمن والمعطيات, يبقى الجوهر الأساسي في أصول وفروع تلك السياسات.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)