2007 / 2 / 11
على عكس محاولة انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971، إذا استثنينا حالة الجنرال محمد أوفقير، يبدو أن محاولة انقلاب 16 غشت 1972 في جملة من جوانبها ومن خلال بعض من قاموا بها (لاسيما أمقران والكويرة) بدت تعبيرا عن رغبة في التغيير، علما أن أبرز منفذيها ظلوا "نظيفين" في عيون المغاربة ويكن لهم الجنود الاحترام والتقدير وليس الخوف أو الخشية كما هو الحال بالنسبة للجنرال محمد أوفقير، الشيء الذي دفع الكثيرين إلى إضفاء الطابع النضالي و"الثوري" الوطني على ما قام به أمقران ورفاقه.
وتأكد هذا المنحى حينما تم الكشف على أنه كان لكل من هذا الأخير وأوفقير خطته وتصوره بخصوص ما بعد المحاولة، فهل كان لحسني بنسليمان دور في هذا المشروع؟ وما موقعه وتموقعه ضمن مخطط الجنرال محمد أوفقير؟ وهل فعلا تورط في الإطاحة بالملك بشكل أو بآخر؟ هذا فيما يتعلق بالمشروع من منظور الجنرال محمد أوفقير، أما من منظور أمقران، هل فعلا حصل الاتفاق على رئاسة "الجمهورية" من طرف عمر الخطابي بعد نجاح المحاولة؟
على سبيل التقديم
عرف المغرب عدة محاولات استهدفت الملك الراحل الحسن الثاني، بلغ عددها حسب الكاتب مومن الديوري أكثر من 15 محاولة، إلا أن انقلابي 1971 و1972 يظلان أهمها اعتبارا لانعكاساتهما وتداعياتهما على المسار الذي عرفته البلاد.
والغاية من الوقوف مرة أخرى على هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب، نابعة بالأساس من دافع محاولة فهم جملة من الأمور ودغدغة ذاكرة العارفين بخباياها لعلهم يشعرون بمسؤولية كشف كل ما ظل مستورا حتى يكون الجيل الحالي والأجيال القادمة على بينة من ماضي وطنهم، بما له وما عليه، وليس فقط الاحتفال بذلك التاريخ المفبرك، لاسيما وأن جهات ورجالا تلاعبوا بأحداثه وحرفوا وقائعه، وقد بدأ هذا التلاعب مع الجنرال محمد أوفقير ومحمد لغزاوي عندما كانا على رأس الأمن الوطني فجر استقلال البلاد. لذلك لم يتم الكشف عن كل خبايا انقلاب 16 غشت 1972، لأن هناك العديد من "حفاري قبور الحقيقة" الذين أقبروا أجزاءا كبيرة منها ولازالوا حريصين حتى الآن على بقائها "مقبرة" وعلى وجه الخصوص هؤلاء "المقابرين" من رجالات السياسية، والذين منهم من لازال يحتل كرسي الزعامة إلى حد الآن.
عرف المغرب عدة مؤامرات وانقلابات أجهض أغلبها إما في المهد أو في مراحل التفكير الجنيني، وكل مرة يتم إجهاض واحدة منها، كان الجنرال محمد أوفقير والنظام يجعلان منها فرصة لتصعيد القمع والجز بالكثير من المغاربة في غياهب السجون والمعتقلات العلنية منها والسرية، وفعلا تمكنا من استغلال كل الفرص التي أتيحت لهما منذ 1957 حتى فجر التسعينيات، متمثلة في ترسبات النظام القديم، وأغلب هذه المحاولات التآمرية استهدفت شخص الملك الراحل الحسن الثاني ونظامه كان وراءها هاته العناصر من دائرته ومن المقربين منه بتنسيق مع المخابرات الأمريكية والفرنسية.
يعتقد الكثيرون أن النظام الملكي هو الآن في طور التحول، وقد برزت بعض تمظهرات هذا التحول على شكل حماس شابه كثيرا ذلك الحماس الذي ظل قائما منذ فجر الاستقلال وعلى امتداد عهد الملك الراحل محمد الخامس، وبينت جملة من الأحداث مرت بها بلادنا أن عددا من المعارضين الأكثر تطرفا عارضوا الملك الراحل الحسن الثاني ونهج تدبيره في الحكم أكثر مما عارضوا النظام الملكي، أو على الأقل، هذا ما كان ملاحظا بوضوح في البداية قبل التحول إلى معارضة الملكية مباشرة كنظام للحكم، وظهر هذا بجلاء عبر الانقلابين الفاشلين. ففي الانقلاب الأول (الصخيرات 1971) كان التخطيط العام الأول يعتمد على الاحتفاظ بالنظام الملكي بعد إبعاد الملك الراحل الحسن الثاني عن سدة الحكم حسب ما أكدته أكثر من جهة جيدة الإطلاع، أما في الانقلاب الثاني (16 غشت 1972) فقد كان الموقف مغايرا تماما، باعتبار أن المشروع استهدف تغيير النظام الملكي بنظام جمهوري في حالة نجاح المحاولة.
تضمن هذا الانقلاب أكثر من سيناريو، فحسب الشهادات الحية والمعطيات المتوفرة، كان هناك على الأقل "سيناريوهات"، سيناريو الجنرال محمد أوفقير و"رباعتو" وسيناريو أمقران وثلته.
كان سيناريو الجنرال محمد أوفقير يتمثل في رغبته بحصر علاقاته في دائرة ضيقة، خصوصا أمقران والكويرة تحسبا لتصفيتهما بمعية رفاقهما سواء بعد نجاح المحاولة أو فشلها، ومما يؤكد رغبة الجنرال محمد أوفقير و"رباعتو" في التخلص من أمقران ورفاقه شهادة الجنرال عبد السلام الذي صرح أن الجنرال محمد أوفقير أمره بمحاصرة القاعدة الجوية الثالثة بالقنيطرة وتصفية كل الطيارين بدون استثناء.
أما سيناريو أمقران وشركاؤه المدنيين في الخطة فقد كان يقضي بإسقاط الطائرة الملكية وتصفية الجنرال محمد أوفقير بعد نجاح العملية.
وبالتالي كان كل من الجنرال محمد أوفقير وأمقران قد حضّرا لائحة للأشخاص الذين سيستلمون زمام الأمور بعد الانقلاب، وفي هذا الإطار قيل بأن الجنرال حسني بنسليمان قد ورد اسمه ضمن لائحة الجنرال محمد أوفقير كمرشح لرئاسة الحكومة، أما عمر الخطابي فقد كان ضمن لائحة أمقران كمرشح لرئاسة الجمهورية في حالة نجاح المحاولة.
إذا كان قد ثبت الآن أن هذا الأخير (عمر الخطابي) قد شارك في مشروع إعداد الانقلاب بشهادته، فإن التساؤل لازال مطروحا وقائما بخصوص الجنرال حسني بنسليمان، فأين كان تموقعه في هذا المشروع؟ وهل طبيعة علاقته بالجنرال محمد أوفقير، فرضت أن يكون اسمه حاضرا دون درايته بذلك؟ وهل تورط في الإطاحة بالملك؟ تساؤلات أثيرت من قبل ولازال يثيرها الكثيرون حتى الآن.
الكولونيل حسني بنسليمان والانقلاب
لا يخفى على أحد الآن أن الجنرال حسني بنسليمان (الذي كان كولونيلا آنذاك) كان قريبا جدا من الدائرة المدبرة لانقلاب 16 غشت 1972، ويعتبره البعض، ومن ضمنهم المحجوب الطوبجي، نتاج المدرسة الأوفقيرية بعد أن أضاف الجنرال أحمد الدليمي بصمته عليها، علما أن الجنرال حسني بنسليمان تميز بتفضيله عدم الظهور والبقاء في الظل. لقد بدأت علاقة الجنرال حسني بنسليمان تتوطد مع الجنرال محمد أوفقير منذ زواجه بإحدى بنات عائلة حصار السلاوية، والتي كان أحد أفرادها إطارا بارزا في إدارة الأمن الوطني، عن طريق هذه المصاهرة حصل الجنرال حسني بنسليمان على تأشيرة لولوج الدائرة الخاصة بالجنرال محمد أوفقير، آنذاك كان الضابط الوحيد من فوج محمد الخامس، وهو أول فوج للضباط بعد استقلال المغرب، الذي استفاد من ترقية استثنائية وتمكن من الاضطلاع بمسؤوليات كبرى بالرغم من حداثة سنه مقارنة بالقائمين على الأمور آنذاك، وهذا مثال لم يعرفه المغرب قط، لا سابقا ولا لاحقا.
ولم يكن ليتأتي له ذلك لولا دعم ومساندة الجنرال محمد أوفقير ثاني أقوى رجل في تلك المرحلة. لقد فتحت أمام الجنرال حسني بنسليمان كل الأبواب منذ دمجه في الدائرة الخاصة بأوفقير، فمن قائد للوحدات المتحركة للتدخل (السيمي) إلى مندوب سام للشبيبة والرياضة ثم وزيرا للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية فمديرا للأمن الوطني تحت إمرة الجنرال محمد أوفقير الذي كان حينها وزيرا للداخلية إلى عامل على إقليم طنجة ثم على إقليم الغرب (القنيطرة) قبيل حدوث الانقلاب الثاني، ليستقر به المقام على رأس قيادة الدرك الملكي بعد موت الجنرال محمد أوفقير ليلة فشل المحاولة الانقلابية، وذلك لمراقبة الجيش الذي فقد فيه الملك الحسن الثاني الثقة منذئذ.
لعل هذا المسار وهذا القرب الشديد من الجنرال محمد أوفقير وعناية هذا الأخير به منذ بداية مشواره، هما اللذان دفعا عددا من الملاحظين إلى التساؤل بقوة حول تموقع الجنرال حسني بنسليمان إزاء مخطط الجنرال محمد أوفقير في صيف 1972، علما أنه هو الذي اضطلع بمسؤولية الإشراف المباشر على تنفيذ الأوامر الخاصة إلى ترحيل الانقلابيين من السجن المركزي إلى جحيم تازمامارت وتتبع مسارهم آنذاك عبر الكولونيل فضول الذي كلفه بهذه المهمة دون سواها، وكذلك الإشراف على تنفيذ الأوامر المرتبطة بالتعامل مع عائلة الجنرال محمد أوفقير بعد موته.
وقد تساءل المحجوب الطوبجي بهذا الخصوص قائلا: كيف يمكن لمن وضعه الجنرال محمد أوفقير على رأس "حكومة القنيطرة" أن يستمر في مركزه وهو يضطلع بجملة من المسؤوليات والسلط؟
وزاد استغراب الطوبجي وآخرين عندما أدلت أكثر من جهة جيدة الإطلاع والقريبة من الأحداث، أن الجنرال حسني بنسليمان دأب على مرافقة الجنرال محمد أوفقير خلال زياراته الكثيرة والمتكررة إلى القاعدة الجوية الثالثة بالقنيطرة، على امتداد الأسبوعين الأخيرين قبل الهجوم على الطائرة الملكية (16 غشت 1972)، عن ذلك التخطيط للانقلاب والحسم في ترتيبات آخر ساعة والتي منها انطلقت طائرات "ف 5" التي أطلقت النار على البوينغ الملكية في سماء شاطئ مولاي بوسلهام بضواحي القنيطرة وهي في طريق عودتها من فرنسا.
وحسب مصدر مطلع، تم حجز جملة من الوثائق والأوراق كانت بحوزة أوفقير وضعت المخابرات والاستعلامات العامة يدها عليها ولم تكشف عن فحواها، وبعضها تضمن أسماء شخصيات عسكرية ومدنية، منها من كان يزاول مهامه ضمن رجال السلطة ومنها قواد سبق تصنيفهم كخونة، كما صرح لنا أحمد رامي، المعارض المقيم بالسويد، غير أن القائمين على الأمور يعرفون حق المعرفة كل الأشخاص الذين كان سيعتمد عليهم الجنرال محمد أوفقير لو نجحت المحاولة الانقلابية، وأضاف أن اكتشاف بعض هذه الوثائق تم بعد نهاية المحاكمة، وهذا ما يفسر فتح التحقيق من جديد مع كل من أمقران والكويرة قبل القيام بإعدامهما.
ولم يتم تسريب سوى معلومات ارتبطت بلائحة أمقران وظل التستر قائما على لائحة أوفقير، آنذاك كان الحديث يجري حول لائحة كانت بحوزة أمقران وقيل إنها ضمت الفقيه وكلا من بوعبيد واليوسفي وحسن الأعرج.
ومهما يكن من أمر، ظلت التساؤلات حول علاقة الجنرال حسني بنسليمان بمشروع الجنرال محمد أوفقير عالقة وبدون جواب إلى حد الآن.
عمر الخطابي.. رئيس الجمهورية
لم يكن من الممكن تنحية الجنرال محمد أوفقير من مشروع الإعداد لانقلاب 16 غشت 1972، كما اقترح الفقيه البصري، باعتبار أن النقاش مع أمقران بهذا الخصوص كان قد قطع أشواطا كبيرة، لهذا تم عقد الاتفاق مع أمقران لتصفية الجنرال بعد نجاح المحاولة الانقلابية، لاسيما وأن مناقشة المشروع مع أعضاء "التنظيم" والدكتور عمر الخطابي تمت بعد أن حسم أمقران الأمور مع الجنرال محمد أوفقير.
وقد أكد محمد لومة أن أمقران والكويرة ناقشا أمر الانقلاب مع الدكتور عمر الخطابي بمشاركة محمد أيت قدور قبل إبعاده إلى فرنسا خوفا من أي تسرب.
عمر الخطاب هو ابن عبد السلام الخطابي، وزير مالية الجمهورية الريفية في عهد الأمير عبد الكريم الخطابي، بدأ مشواره الدراسي بجزيرة "لارينيون" إلى جانب "ريمون بار" الذي سيصبح وزيرا أولا للجمهورية الفرنسية وأحد ألمع اقتصادييها.
عند سن الثلاثين أصبح طبيبا جراحا، وطلب منه الملك الراحل محمد الخامس ممارسة مهنته بالمغرب، ومن يعرفونه يقولون إن عمر الخطابي رجل العمل المباشر ويمتاز ببعض صفات رجل الدولة.
نضاله من أجل القضية الفلسطينية منذ الخمسينيات جعله يربط علاقة وثيقة بياسر عرفات، إذ عمل في البداية على تجنيد الشباب المغاربة للدفاع عن تلك القضية، لكن سرعان ما تبين له أن خدمة هذه القضية يبدأ بالنضال من داخل البلد.
تعرف عمر الخطابي على اليوتنان كولونيل أمقران سنة 1969 بمصحته بالقنيطرة، وبعد لقاءات قليلة أصبحا صديقين حميمين، يثق أحدهما بالآخر، وأضحت أوضاع المغرب وأحواله ومآله المحور الرئيسي الدائم خلال نقاشاتهما الطويلة التي كانت تدوم حتى ساعات متأخرة من الليل، وبعد جدالات طويلة بدأ حديثهما ينصب على وسيلة تغيير الأوضاع بالبلاد، وكان الحل آنذاك هو انقلاب ضد الملك الحسن الثاني، آنذاك كانت محاولة انقلاب عسكري في طور التهييء بمشاركة عناصر من الجيش، لاسيما القوات الجوية وبعض المقربين من الملك وانضافت إليهم عناصر من "التنظيم" بمعية الدكتور عمر الخطابي.
في نهاية المطاف ناقش أمقران مع الدكتور عمر الخطابي إمكانية هذا الأخير رئاسة الجمهورية بعد نجاح محاولة الانقلاب التي سيقوم بها الجنرال محمد أوفقير.
كان مدخل عمر الخطابي في قضية الانقلاب سنة 1971، وبالضبط في غضون شهر نوفمبر عندما حكى له أمقران بعض ما جرى في كواليس الإعداد لانقلاب الصخيرات، إذ وضح له كيف تمكن من الفرار بواسطة طائرة مروحية ورفضه الامتثال لأوامر الجنرال حمو الذي دعاه إلى قصف مدينة الرباط والصخيرات.
ورغم ذلك تعرض للاعتقال والاستنطاق لمدة 3 أيام، لكن الجنرال محمد أوفقير خلصه من المحنة التي كانت تنتظره لا محالة، بعد مدة قليلة من هذا اللقاء، قصد أمقران فرنسا للعلاج وهناك كان الاتصال بـ "التنظيم" عبر الفقيه البصري ومحمد أيت قدور، وفي 10 غشت 1972 أفصح أمقران لعمر الخطابي أنه حضر اجتماعا ضم ضباطا سامين تحت رئاسة الجنرال محمد أوفقير، وتبين له أن التفكير في إعداد الانقلاب مازال قائما.
كما أصر له كذلك أن جملة من هؤلاء الضباط يعرفونه حق المعرفة ويتقون به، ومن المحتمل أن تصير أول جمهورية بالمغرب، إلا أن أبرز مشكل هو أوفقير، لذلك تم الاتفاق على تصفيته بعد نجاح المحاولة، هذه هي الخطوط العريضة للخطة التي ناقشها أمقران مع عمر الخطابي في اللقاء المطول معه.
بعد فشل الانقلاب بمدة، اختطف عمر الخطابي واحتجز بدار المقري (النقطة الثابتة رقم 3) ثم بدرب مولاي شريف، غير أنه لم يتم اختطافه مباشرة بعد فشل المحاولة كما حدث بالنسبة للعسكريين، وإنما بعد نهاية محاكمة العسكريين وبعد أن نطقت المحكمة العسكرية بأحكامها. ورغم صدور أحكام بالإعدام، تناسلت إشاعة مفادها أن الملك الحسن الثاني سيعفو عنهم بعد أن نصحه بعض المقربين بذلك، قصد تهدئة الأجواء خصوصا بعد حصول انقلابين متتاليين.
إلا أن الأمور تغيرت رأسا على عقب، إذ خضع كل من أمقران والكويرة من جديد للتعذيب والاستنطاق بدار المقري. وحسب العارفين بخبايا الأمور اعترف أحدهما بجملة من الأسماء لم تذكر في السابق، وكانت من بين من سيتحملون مسؤوليات بعد نجاح الانقلاب، وضمنهم الدكتور عمر الخطابي، ورغم أن المحامين أخبروه حتى يتمكن من مغادرة المغرب.
إلا أنه فضل البقاء والاستمرار في مزاولة عمله بمصحته كأن شيئا لم يقع، وكان قرارا انتحاريا، إذ سرعان ما تم اختطافه بعد إعدام أمقران.
حسب جملة من المقربين لعمر الخطابي، فإنه لم يدل بأي اسم رغم أساليب التعذيب التي مورست عليه بدار المقري ودرب مولاي الشريف والتي حضر بعضها الملك الحسن الثاني بنفسه، وأكدت أكثر من جهة أن عمر الخطابي اعترف بمشاركته في إعداد الانقلاب لكنه لم يعترف باسم خارج أمقران والكويرة، إذ واجهه الجلادون باعترافات أحدهما وغالب الظن كان أمقران.
ومن المفارقات التاريخية أن عمر الخطابي، قريب أمير الريف عبد الكريم الخطابي، كان من الممكن أن يجد مكانه في الذاكرة الجمعية، إذ كان من المحتمل أن يصبح أول رئيس لأول جمهورية بالمغرب لو نجحت محاولة الانقلاب، كما خطط لها أمقران، وليس كما خطط لها محمد أوفقير و"رباعتو".
إنها حقا مفارقة غريبة، العم أسس جمهورية الريف، وابن العم حلم برئاسة أول جمهورية في تاريخ المغرب.
لم يتم تقديم عمر الخطابي للمحاكمة مع أمقران والكويرة لأن اعتقاله تم بعد محاكمتهما، وقدم عمر الخطابي في محاكمة مراكش سنة 1973، حيث صرح أمام الهيئة أن الأقوال الواردة في محاضر الشرطة لا أساس لها من الصحة وانتزعت منه بالتعذيب والقوة والإكراه، وبالتالي ينكرها جملة وتفصيلا، ولأول مرة في تاريخ القضاء المغربي اقتنع القاضي بمثل هذه الأقوال وأطلق سراحه، لكن هل فعلا كانت قناعة ناجمة عن استقلالية القضاء ونزاهته آنذاك أم أن الأمر كان مجرد تطبيق لتعليمات فرضتها الظرفية ومعطيات ظلت غائبة عن الرأي العام؟
عموما لم تنطل هذه المسرحية على أحد آنذاك، باعتبار أن الملك الحسن الثاني وقتئذ لم يرد المجازفة، لاسيما وأن عائلة الخطابي تحظى باحترام خاص جدا عند المغاربة، حتى غير الريفيين منهم، هذا إضافة إلى التدخل القوي لكل من ياسر عرفات وملك السعودية آنذاك لفائدة عمر الخطابي، والذي غير مسار التعاطي مع القضية، في الوقت الذي كان ينتظر فيه الجميع إصدار حكم الإعدام في حقه أطلق سراحه.
بعد إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة رفض عمر الخطابي التعويض، وقال أنا أطالب بما ناضلت من أجله، وأتأسف لعدم التمكن من تحقيقه، ويعتبر الكثير من المحللين أن عمر الخطابي ظل لسان حال "الجمهورية الريفية" والحريص على عدم إقبار الذاكرة الجماعية الريفية بهذا الخصوص أكثر من أي فرد من أفراد عائلة الخطابي، وفي هذا الإطار ظل يرفض فكرة نقل جثمان عبد الكريم الخطابي من مصر إلى المغرب.
النزعة الانقلابية بالمغرب
هل اندحرت النزعة الانقلابية في المجتمع المغربي؟ سؤال طرحه الكثيرون داخل المغرب وخارجه.
ويعتقد الأغلبية أن كل الانقلابات التي عرفتها بلادنا منذ سنة 1957 فشلت بفضل "بركة" المغاربة والمغرب، ولأصحاب هذا الرأي قناعة تكاد تكون راسخة، مفادها أنه لو كانت إحدى المحاولات الانقلابية قد نجحت لتمزقت وحدة المغرب وظهر في الوجود أكثر من مغرب.
وعموما يبدو أن النزعة الانقلابية قد تلاشت مع حلول التسعينيات وسارت نحو الاندحار إلى أن خفتت، وحسب المتتبعين تأكد هذا الاندحار منذ سفر الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1995 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك عرض نفسه على أطباء متخصصين، أخبروه بالمرض الذي أصابه، وقد علم المغاربة، بشكل أو بآخر، بخبر مرضه وظلوا ينتظرون ماذا سوف يحدث.
وبخصوص النزعة الانقلابية، عندما سئل عبد النبي بوعشرين رئيس المحكمة العسكرية، أمقران حول عدم وفائه بمضمون قسم الولاء الذي أداه لدى تخرجه من الأكاديمية العسكرية، أجابه قائلا: "لقد أدينا قسما بالولاء مكون من ثلاثة رموز: الله – الوطن – الملك، وهو قسم مترابط لا يمكن تفكيكه، وأي إخلال بإحدى مكوناته يؤدي تلقائيا إلى إلغائه بالكامل".
من جهة "التنظيم" (منظمة الفقيه البصري) كانت تسودها قناعة راسخة تنطلق من استحالة قيام جنرالات الجيش الملكي بثورة اشتراكية تقدمية، إذ أن أقصى ما يمكن أن يؤسسوه هو أوليغارشية عسكرية، لكن بعض عناصر "التنظيم" كانوا يرون أن هناك ضباطا منحدرين من أبناء الشعب يمكن الثقة بهم والاعتماد عليهم.
دور المخابرات الأجنبية
أغلب المعلومات المرتبطة بدور المخابرات الأمريكية والفرنسية موجودة بين ثنايا في تقارير التمثيليات الديبلوماسية الغربية بالمغرب، كما أن بعض المراسلات بين السفارات ومصالح مخابرات البلدان المعنية تضمنت معلومات مهمة بهذا الخصوص، لاسيما تقارير ومراسلات السفارة الفرنسية بالمغرب، وبهذا الخصوص وجبت الإشارة إلى أن معظم المؤلفات المنشورة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني اعتمدت في غالبيتها على أجزاء من هذه التقارير والرسائل الواردة إلى فرنسا من سفارتها بالمغرب.
لقد تأكد بأن المخابرات الأجنبية، لاسيما الأمريكية والفرنسية منها، ساهمت في إعداد انقلاب سنة 1972، كما حاولت المساهمة في انقلابات أخرى أو تفعيلها.
إدريس ولد القابلة
okdriss@gmail.com
التعليقات (0)