هل تفلح دبلوماسية الجنائز في تهدئة الحفائظ ؟
على الرغم من أن فروض وسنن وتعاليم وتوجيهات وممارسات الدين الإسلامي الحنيف توصي دائما بالجنوح إلى السلم إن جنحوا لها . وأنه لا يجوز للمسلم أن يخاصم أخيه المسلم فوق ثلاثة ايام وأن خيرهما الذي يبدأ بالسلام . فإنه وعلى العكس من ذلك جاء تفسير مبادرة الرئيس المصري حسني مبارك لزيارة الجزائر بمناسبة تقديم واجب العزاء في وفاة شقيق الرئيس الجزائري بوتفليقة ؛ جاء تفسيرها على اساس أنه إعتراف مصري متأخر بالخطأ الذي قامت الصحافة البيضاء والصفراء وفضائيات الذباب المصرية الخاصة بإرتكابه (بتشجيع من الحكومة) في حق الجزائر. والذي إمتد إلى المساس بثوابت هذا الشعب العربي المناضل الجسور من قبيل السخرية والحط من قدر أبطاله القوميين أمثال جميلة بوحريد وهواري بومدين أو تكذيب حقيقة وواقع تقديم الجزائر لمليون ونصف المليون شهيد في سبيل تحرير بلادهم من ربقة الإستعمار الفرنسي الإستيطاني البغيض. أو إنكار دور الرئيس هواري بومدين في شراء الجزائر لمائة دبابة روسية كان الجيش المصري في أمس الحاجة لها من سوق السلاح اليوغسلافي نقدا وتقديمها لمصر مليئة بالذخائر والوقود وكاملة العتاد خلال حرب أكتوبر 1973م بإعتراف السادات الموثق. وغير ذلك من تضحيات جزائرية كبيرة لأجل مصر دون تهليل وتكبير وصياح يملأ الأصقاع . وليس أقلها تزويد مصر بالغاز الجزائري بأسعار لا تكاد تذكر مقارنة بالأسعار العالمية الحالية .. إلخ من كرم وأفضال ومعاملات خاصة يتوجه بها الأشقاء العرب فيما بينهم دون أن يمنوا بها على بعضهم. ولكنها ليست بخافية على أحد من المحيط إلى الخليج.
ثم ومن ناحية أخرى فهمت هذه المبادرة المصرية على أنها إعادة قراءة سياسية وفنية صحيحة من جانب الحكومة المصرية فيما يتعلق بتوخي العقلانية في تقييم قدرات الغير من العرب وعدم بخس الناس أشياءهم . وإحترام طموحات وحقوق هؤلاء ، والأخذ الموضوعي بحقائق الأوضاع السياسية والإقتصادية والإعلامية المستجدة على الأرض التي باتت تختلف كثيرا عما كان عليه الحال في عهد الملك فاروق وحتى نكسة 1967م . حيث لم يعد "الأشقاء العرب" هم أولئك الصغار اليتامي القاصرين الضعفاء الذين كان تتولى إذاعة صوت العرب وحنجرة المذيع أحمد سعيد مهمة الحديث بإسمهم والتعبير عن أحلامهم وأمانيهم وطموحاتهم وفق قناعات كلام الليل يمحوه النهار.
ربما لا يفهم البعض من العرب اسباب إستمرار الإعلام المصري في تقديم النفس على أساس أنها المحور الأحادي الوحيد في العالم العربي . أو كأن الشمس لا ترضى بالإشراق على أمة العرب من خليج العرب كل صباح إلا بعد أن تأذن لها الحكومة المصرية بذلك ، ولا تجرؤ على المغيب إلا بعد أن ترضى عنها هذه الحكومة ....... وفي واقع الأمر فإن الفرد المصري هو إنسان طيب خلوق وكريم ولكن إن كان هناك من جاني على هذا الفرد المصري ويعتلي به رغما عنه هذا البرج العاجي الملحوظ عند تعامله مع العرب عند أول بادرة خلاف . أو خلال نظرته العامة لهم في السلم والموادعة قبل القطيعة والمؤاخذة ؛ فليس هناك سوى الإعلام المصري الرسمي والتبعي الخاص الذي يتعامل بعنجهية غريبة غير مبررة تجاه الغير من الدول والشعوب العربية الأخرى .... وحيث يفسر الغير هذه العنجهية التي لا تخلو من تلفيق وإختلاقات وأكاذيب وإنتفاخ في الفارغ ..... لا يفسرها الغير سوى أنها تنطلق بِِناءاً على (وليس بُناءاً على) تعليمات رسمية تنفيذية عليا ممثلة في وزارة الإعلام وقناعات النخبة المتحجرة على اقل تقدير.
لقد كان للموقف الجزائري القوي الذي لم تكن تتوقعه الحكومة المصرية . والذي تمركز في إيقاف الجزائر شحناتها من الغاز لمصر . ومحاسبتها الضريبية لشركة أوراسكوم للإتصالات التي كان مسكوتا عنها لأجل خاطر وعيون مصر . وغير ذلك من إجراءات أخرى وحملة إعلامية مضادة مكثفة ناجحة إستغلت واقع أن الفضائيات والشبكة العنكبوتية قد سحبت البساط من تحت اقدام الإعلام وأبواق الدعاية النمطية التقليدية التي كانت تحتكرها مصر في العالم العربي .
كان لهذا الموقف الجزائري الصلد الدور الأكبر في إيقاظ النظام والجهاز السياسي المصري من سباته العميق فوق فراش الماضي الخديوي الوثير . وليستبين له أحيرا أن الأوضاع الفكرية والثقافية والقناعات والمفاهيم وكل ما يحمله الإنسان من قيم ويلجأ إليه من أدوات قد تغير إلى غير رجعة وإلى ابد الآبدين . ولم يعد الإعلام حكرا على الأدوات والوسائل وحدها بقدر ما بات مضمارا حامي الوطيس وحكرا على الموهبة والقدرة على جمع المعلومة وحسن الإدارة والتصميم والشفافية وإحترام عقل المتلقي .
كل هذه المعطيات فيما يتعلق بالسلطة الرابعة فرضت نفسها بعد أن توافرت الأدوات والوسائل الإعلامية والدعائية الجديدة من عنكبوتية وفضائية لدى القاصى والداني..... ولعل في بعض المواقع والمجلات الألكترونية العربية التي بات يزورها عشرات الملايين يوميا وفي قنوات الجزيرة الجبارة ما هو خير مثال لما أعني واقصد.
ومن ثم وبعد أن أدرك النظام السياسي المصري حقيقة الأشياء ؛ أو ربما بدأ يدركها مؤخرا ، فلا اقل من أن تتولى وزارة الإعلام المصرية التي نعلم جميعا أنها تسيطر على فضائيات الذباب الخاصة من وراء ستار ..... فلا اقل من أن تتولى هذه الوزارة توجيه إدارات هذه الفضائيات بضرورة تحسين أدائها وتجديد كوادرها الإعلامية بما يعيد للإعلام المصري موهبته وهيبته وتأثيره وإحترامه لنفسه قبل إحترام الغير له.
أما الجهاز السياسي الحاكم المتمثل في الحزب الوطني فلا نجد مندوحة من ضرورة أن تعمل اللجان المتخصصة في العلاقات المصرية العربية به على إعادة قراءة حقيقية لتطور المجتمع العربي وتنامي الوعي فيه بنسب فلكية بعد إنتشار التعليم منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي ... إعادة قراءة يتم من خلالها مراجعة أسس ودرجات تقييم للذات المغالى فيها على أقل تقدير ..... وحيث لايعقل أن تتعامل السياسة المصرية مع غيرها من الدول العربية على إعتبار أنهم مجموعة من القاصرين.
وكما يقول المثل السوداني : ولدك كان كبر خاويه ...... أو بما معناه أنه إذا أصبح إبنك كبيرا فمن الحكمة أن تتعامل معه كصديق مخلص لصيق تلجأ وتستمع إليه ويلجأ إليك .. تستشيره وتحترم آرائه وتنصحه إن إستشارك دون إملاءات.
عليه فإذا كان الأمر كذلك بين الأب وإبنه عندما ينمو ويبلغ سن الرشد فما بالك بشقيقك إذا كبر؟
التعليقات (0)