هل تطلق "أم روّابة" سراح قواتنا المسلحة وتعيدها سيرتها الأولى ؟
فتح الهجوم على "أم روّابـة" الكثير من طاقات التكيلات المغلقة ، والمطامير المغطاة ، والملفات المنسية والمهملة عن عمد في حاضر وواقع المشهد السياسي الراهن ..... ونرى أن الحال "بعد أم روّابة" لن يكون كما كان قبلها .. واليوم خـمـرٌ وغــدا أمْــرُ.
إن فداحة ما جرى في أم روّابة وبملابسات الذي مورس وشوهد وسُمِع ورشـح للرأي العام من مهازل شتــّى فيها ، يستوجب المحاسبة الفورية الفاعلة للمقصرين وعلى جناح السرعة لا الإرجاء ؛ والحسم لا الزجر ؛ والإقالة والإبعاد لا الإبقاء ..... وحتى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى.
ثم وإنه وعلى وقع فداحة ما جرى من فضيحة مدوية لن تـُـنسى على مر الزمان . فلعل من حقنا هنا أن نتساءل عما إذا كانت كارثة أم روابة ستؤدي في بعض من جوانب إرتداداتها الإيجابية إلى إطلاق سراح قواتنا المسلحة الباسلة وفــك أسرها الذي طــال ، ويخرجها من الزنزانة "الإنفرادية" التي وجدت نفسها بداخلها بتخطيط "سياسي" مُسبق الهدف منه الحدّ من مغامرات الضباط ولجم أي محاولة إنقلابية على النظام الحاكم؟
ولعلنا نستذكر هنا على سبيل الدعابة ما يتداوله البعض من أن "كل إمرأة في رأسها طلقة تالتة .. وأن كل راجل في رأسه عَــرْسَــة تانية ... وأن كل ضابط في رأسه إنقلاب عسكري".
ولكن برغم هذه الدعابة "السوداء الساخرة" ؛ وما تسوقه من معاني ماثلة وبعض الحقائق التي لاننكرها في شأن ما عرف عن الجيش السوداني بتدخله في الحياة السياسية ، وسوابق إنقلاباته البيضاء والدموية الكثيرة المتسلسلة التي أفلح ثلاثة منها حتى تاريخه في الوصول إلى سدة الحكم ، وبغض النظر عن من كان يقف خلفها من قوى حزبية . فإن الذي يجب أخذه في الإعتبار أن الحل لايكون بهذه الطريقة الغير ناجعة التي تتبع حالياً تجاه تحييده وإبقائه خارج اللعبة السياسية .. فقد أثبتت التجارب لدينا ولدى جيراننا ، وفي جميع دول العالم الثالث الشمولية الحكم وغير الديمقراطية ؛ أن تحييد القوات المسلحة الوطنية يؤدي في المقابل إلى صعود قوى عسكرية أو مسلحة أخرى لتملأ الفراغ مكانها في الساحة .. فعلى سبيل المثال:
- كان لتحييد دور القوات المسلحة في مصر أن نما جهاز أمن الدولة المصري وتجاوز حدوده وتعفن . وساد أوساطه الفساد والتجاوزات الفرعونية إلى الحد الذي كان سبباً مباشراً في إندلاع ثورة 25 يناير الشعبية.... وكذلك كان الحال في رومانيا تشاوسيسكو من قبل.
- كان لتحييد دور القوات المسلحة في ليبيا أن أصبح المرتزقة الأفارقة هم عصب أمن القذافي ومليشياته المسلحة . ولكن هرب هؤلاء وتفرقوا أيدي سبأ عند إندلاع شرارة الثورة الليبية الشعبية المسلحة ، ولسبب بسيط هو أنهم لم يأتوا ليموتوا في بلاد أجنبية بقدر ما كان أكثر همهم الإرتزاق في وسط أجواء مدنية وادعة.
- كان لتحييد دور القوات المسلحة في السودان الدور الأكبر في نمو جهاز الأمن الوطني إلى درجة أغرت صلاح قوش ومجموعته لقلب نظام الحكم... وأعطى إنذاراً قوي اللهجة بأن ملامح المغامرات السياسية والإنقلابات العسكرية ستراوح مكانها ولكن بيد قوى أخرى ليست من حوش القوات المسلحة بالضرورة.
- وكان لتحييد دور القوات المسلحة في السودان الدور المفصلي في تشجيع نشوء حركات التمرد العسكرية وتنامي نشاطها الفاعل.
وهكذا يظل الحال في العديد من دول العالم الثالث سوريا والعراق والصومال وغيرها . ولكل منها حالته الخاصة به ، لكنها تشترك نهاية المطاف في محصلة واحدة هو نمو قوة أخرى بديلة للقوات المسلحة النظامية لتمــلأ الفراغ الإستراتيجي ، ويؤدي إفتقارها للنهج النظامي والإنضباط الذي تتميز به الجيوش الوطنية إلى إنفلات الأمن الداخلي ، وتنامي تهديد دول الجوار والأطماع الخارجية وفرض الوصاية على الأنظمة السياسية القائمة وعلى تلك المليشيات المتمردة المعارضة لنظام الحكم في آن واحد .. وهو ما نراه ماثلاً أمام أعيننا في الساحة السودانية الآن وبكل وضوح.
لقد بلغ السَّيْلُ الـزُّبـى وجاوَزَ الحِزامُ الطُّبْيَيْنِ ..... فــحال الجيش السوداني وشأنه ودوره ومصداقيته وشفافيته ومبادرته تتدهور من سيء إلى أسـوأ بعد عام 1989م عامة وخلال وبعد إتفاقية نيفاشا 2005م خاصة .. ثم ونراه والألم يعتصر قلوب الشعب قد كثرت على هدمه المعاول في ظل إدارة وزير الدفاع الحالي الفريق (مهندس) عبد الرحيم الذي طالب فرقة الهجانة بمسح الأرض بجمالها وخيولها وبغالها وحميرها في ذات الزمان الذي تستأجر فيه أفقر جاراتنا خدمات الأقمار الصناعية لمسح أراضيها ... وفي الوقت الذي كان قبل سنوات يبشرنا بأن مصانعنا الحربية قد صنعت طائرات بلا طيار....
والذي نراه الآن أن وزير الدفاع "عبد الرحيم" قد ذهب أبعـد كثيراً مما هو مطلوب منه في تنفيذ خطط تحييد قوات الشعب المسلحة وإقصاءها عن المشهد السياسي ولجمها عن الإقدام على تدبير الإنقلابات . وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى أن يصل الحال إلى ما نشهده من قدرة أي قوة مسلحة متمردة أن تدخل ما تشاء من مدن وقرى وحلال لتفعل ما تشاء كيفما تشاء ، وتخرج متى شاءت وقلبها مطمئن بأن الجيش السوداني لن يستطيع صدها أو اللحاق بها بسبب أنه ممنوع من الحركة ومعتقل منذ سنوات داخل ثكناته.
ولأجل ذلك نلاحظ أن الدولة قد فقدت هيبتها تماماً كنتيجة سلبية من عواقب تقليم أظافر الجيش الوطني . ثم وتدهور حال الأمن العام في البلاد هو الآخر مع تدهور حالة الجيش بالضرورة ... وقد أصبح المواطن في كافة أنحاء السودان يشعر لأول مرة (بعد أم روّابة) بالقلق والخوف وعدم الإستقرار والأمن والأمان ؛ وعدم الإطمئنان على النفس والعرض والممتلكات والوجود والنسيج الإجتماعي برمته.
والذي يزيد الطين بلة ويجعل الأمور تبدو أسوأ مما هي عليه هذه الجرائم الأخلاقية التاريخية التي ترتكبها الأجهزة والأبواق الإعلامية الحكومية وغيرها المدعومة أو الأجيرة (من ميزانية الدولة) للنظام القائم ؛ وهي التي تحاول جميعها (إيجـاد التبريرات) لما جرى في أم روابة وأب كرشولا وغيرها من مناطق في كردفان ..... تبريرات ومعاذير تبقى دائما رخيصة منافقة مسطحة مثيرة للقرف والغثيان ؛ خالية من روح الصدق والحقيقة ؛ وتفتقر إلى الأمانة .. وتصب دائماً في خانة "العذر الأقبح من الذنب".
من الغباء والبلاهة والتخلف المعلوماتي بمكان أن يحاول البعض في حقل الإعلام والدعاية الحكومية والأجيرة تغطية العورات وكتم الروائح العفنة ومعالجة سلبيات وكوارث الحاضر بأساليب الماضي الدكاكينية والأكاذيب المكشوفة والرؤى الهُلامية ..... وحيث نقول لهؤلاء وأمثالهم إستيقظوا فأنتم في بحر القرن الحادي والعشرين ووسط لجة ثورة المعلوماتية والشبكة العنكبوتية وعصر الشفافية .. وليس هناك بغبي ي هذا الزمان سوى ذلك الذي يظن أن الناس أغبياء وأنه وحده الذكي ... ولم يعد هناك بجاهل سوى هذا الذي يعتقد واهماً أن الناس جهلاء وأنه وحده المتعلم المثقف ....... وحيث لم يعد الصمت دليلاً على الرضـا بقدر ما أصبح دليلاً على الإستخفاف واللامبالاة وعدم التصديق والإقتناع بما يحاول الغير من أمثال هؤلاء التنابلـة المنافقين المطبلين الإتيان به من أعذار وتبريرات مدفوعة الأجر.
وحين يتعلق الأمر بشأن قواتنا المسلحة الباسلة التي نكِنّ لها في الوجدان والضمير والروح ما نكن من حب وتقدير وتبجيل وقدسية تختلط فينا بالدم واللحم والعصب ؛ فإن الأمر بصبح أبعد كثيراً من القدرة على السكوت والتمرير مهما كانت العواقب.
ولعل الذي يتفق فيه أهل البلاد الآن أن حالة الجيش السوداني قد باتت تستدعي التساؤل والقلق .... وفوق هذا وذاك فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:-
- لماذا أصبح الجيش السوداني آخر من يعلم ، وآخر من يستدعونه . بل وآخر من يأخذون برأيه في قضايا ومسائل أمنية جوهرية من أبوجا الأولى وحتى نبفاشا ؛ والمصفوفة الثالثة المرشحة للفشل الذريع هي الأخرى ؟
- لماذا أصبحت أيادي الجيش السوداني مقيدة ، ولم يعد قادراً أو مسموحاً له بحرية الحركة وإتخاذ قرار التدخل في ميادين وحالات أمنية تخص وحدة البلاد وسلامة حدودها وأراضيها من أن تجتاح وتحتل وتستباح والتي هي من أولى المهام الموكلة إليه بنص الدستور ومن وصميم الهدف الذي أنشيء من أجله؟
- هل بات على الجيش السوداني أن يقف متفرجاً (داخل أسوار قشلاقاته) على إعتداءات مليشيات مسلحة غير منضبطة خاضعة لإملاءات حارجية ؟... وهل بات على الجيش السوداني في هذه الحالة ليس إنتظار الأوامر وخطوط التعبئة والتموين من الخرطوم فحسب بل وإنتظار أن يأتي السلاح والذخائر والمعدات وحتى الأحذية والقاشات من المخازن المحكمة الإغلاق والحراسة في الخرطوم ؟ .
الذي يراقب ويلاحظ حال الجيش السوداني (القوات المسلحة) في الفترة ما بين إنقلاب عمر البشير في عام 1989م وحتى تاريخه ؛ يلاحظ أن جيشنا الباسل قد مر بالعديد من مراحل التحييد والتحجيم والتكسيح وقصقصة الأجنحة طوال هذه الفترة .. وكان الهدف ولا يزال هو إبعاده عن ما أشتهر به من محاولات الإنقلاب العسكرية للوصول إلى سدة الحكم ..... ولعلنا نسترجع ما كان يشيعه الترابي ويبشر به قبل إبعاده عقب إنقلاب القصر عشية الألفية الجديدة ..... نسترجع تبشير حسن الترابي بأن عهد الإنقلابات العسكرية قد ولى إلى الأبـد .. وإشاراته الماكرة المتكررة في خطبه ولقاءاته وأحاديثه عفو الخاطر المرتجلة إلى أن الجنوب كان دائما مفرخة للضباط الأحرار ومهد التخطيط للإنقلابات الناجحة وغير الناجحة فيما بعد .. ولعله في ذلك الوقت كان البعض بل معظمنا يظن أن الترابي (هذا الثعلب الكاريزمي) إنما يطلق عبارت وملاحظات كهذه على سبيل المكايدة والهزار الثقيل والكوميديا السوداء ، وكعهده ورغبته الدائمة في التشويش على منجزات الغير ,,,,,,, لم يكن يدري أو يدور بخلدنا أن الترابي يعني ما يقول ؛ وأنه يرمي بملاحظاته تلك إلى إفساح الطريق واسعاً وتمهيده ساهلاً لما جرى لاحقاً من تكريس خطط تحييد الجيش والعمل على تقييد يديه لإبعاده تماماً عن الحياة السياسية وبحيث يكون إنقلاب عمر البشير الذي جاء بالإخوان المسلمين لكراسي الحكم هو آخر الإنقلابات.
ولكن هل كان هذا كل ما نرجوه ونتمنى لبلد يفترض أن نتعامل إزائه بقناعات ومفاهيم لتحقيق مصالح إستراتيجية دائمة فوق مصالح الأفراد والجماعات والأحزاب الزائلة لامحـال؟
التعليقات (0)