يرتبط اسم " كارل ماركس " إلى حد كبير بعبارته الشهيرة " الدين أفيون الشعوب ". و قد كانت هذه القولة كافية لإجماع المؤمنين بكل الأديان على رفض الماركسية وتكفيرها ووضعها موضع اتهام.
لقد جاءت الماركسية كرد فعل فكري على التطورات الإقتصادية والإجتماعية التي فرضتها الثورة الصناعية في أوربا، وكانت الأفكار الفلسفية التي دشنها الجدل الهيغلي مقدمة لظهور إيديولوجيا تطرح نفسها كبديل للرأسمالية الجشعة التي خلقت تفاوتات طبقية اجتماعية صارخة، أصبح معها الغني يزداد غنى و الفقير يزداد فقرا. لذلك كانت الماركسية بهذا المعنى محاولة للتقعيد لعدالة اجتماعية جديدة، يشترك بموجبها الأفراد في تقاسم وسائل الإنتاج والثروات. و لأن الماركسية هي قراءة سوسيولوجية رائدة للواقع الإجتماعي في أوربا الغربية خلال القرن التاسع عشر، فإن نقد الدين كان جزءا أساسيا في مشروع إعادة توزيع الأدوار في المجتمعات الأوربية. ولئن كان تـأثير رجال الدين في تلك المرحلة قد بدأ بالتراجع و الإنكماش، فإن حضور الوازع الإيماني في الوجدان العام كان ما يزال قويا. لذلك انتبه ماركس إلى دور الدين في تنويم الناس و إبقاء الأوضاع على حالها. وانطلق في ذلك من مشاهداته في تلك المرحلة ومن الموروث التاريخي القريب. ونحن نعلم الدور الذي مارسته الكنيسة خلال القرون الوسطى، حيث نجحت في خلق نظام اجتماعي تراتبي عاشت المجتمعات الأوربية تحت رحمته طويلا في ما يشبه غيبوبة عامة، لم تستيقظ منها إلا بعد الإنجازات الفلسفية والعلمية التي فضحت الكنيسة، و أظهرت تهافت الخطاب الديني.
كان نقد كارل ماركس للدين منطقيا إلى حد بعيد في ظل هيمنة اللاهوت الكنسي على العقول و تكبيلها بسلاسل " صكوك الغفران "، وهو الأمر الذي مكن رجال الدين من الإستفراد بالقرار بعدما نجحوا في تخدير الناس الذين اختاروا الخضوع لبركات الرهبان سواء بالوعد أو الوعيد... وإذا كان وسم الدين بالأفيون يرتبط بهذه الظروف التي عرفتها أوربا، فإن الواقع في العالم الإسلامي اليوم يعيد إنتاج نفس الوضع تقريبا. فقد أصبح الدين عائقا أمام التقدم وفهم الأمور بشكل معقلن.( ومرة أخرى أود أن أنبه هنا إلى أنني لا أتحدث عن الدين كنصوص تشريعية أو توجيهية تنظم العلاقات الإنسانية، بل أقصد الفهم المتداول والممارسة الفعلية). و في هذا المقام يحضر مفهوم القضاء و القدر في الشعور الجماعي للمسلمين كمثال واضح يبرز دور الدين في إبقاء الحال على ماهو عليه و يلغي أي معنى لمسؤولية الفرد و اختياراته. و تحت طائلة القدر يعيش مئات الملايين من الناس في كل بلاد الإسلام تحت خطوط الفقر، وهم لا يجدون إلى تغيير أوضاعهم سبيلا، مادام الأمر كان قضاء مقضيا. وهكذا أصبح الإنسان المسلم مستسلما للواقع و لا يمتلك القدرة حتى على التفكير في تناقضاته أو السؤال عن أسباب هذا الوضع...وإذا كان القدر ركنا من أركان الإيمان في الدين الإسلامي، فإنه يقتضي أن يأتي المرء بكل الأسباب، ثم يتوكل على خالقه بعد ذلك. أما الحضور الفعلي لمفهوم القدر في الممارسات اليومية فهو مختلف تماما. وهنا يتجلى دور الفهم الديني في تكريس ثقافة التسليم بالأمر الواقع كتجل للتسليم بأمر الله. أي أن الإيمان بالقدر ينتقل من مستوى العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه إلى مستوى اليومي و المعيش في الحياة، فيتحول الإيمان بقضاء الله إلى إيمان بقضاء أصحاب القرار. وفي ذلك يساهم الأوصياء على الدين مساهمة جليلة بفرض قراءات محددة تغلب النقل على العقل، وتمنع التفكير، وهم يرفعون لافتة: " لا اجتهاد مع ورود النص ". وفي تكبيل العقول ورفض المنطق العلمي شكل آخر من أشكال التخدير التي يمارسها رجال الدين على الناس، بالرغم من أن العقل والعلم شرطان أساسيان لفهم الواقع و دعم الإيمان الروحي. وقد جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا الإتجاه.
إن الدين عندما لا يؤدي دوره المنتظر في المجتمع برفض الظلم و حث الناس على البحث العلمي و تغليب العقل في كل أمور الدنيا فإنه حتما سيكون أفيونا للشعوب.و إذا كان الدين الإسلامي على المستوى النظري ترياقا لهذه الشعوب، فإنه لا يبدو كذلك على مستوى الترجمة الفعلية ما دام مصير الأمة معلقا بيد فقهاء القضاء و القدر. محمد مغوتي.18/06/2010.
التعليقات (0)