الجواب القطعي بالنسبة لي هو : «لا. ربما نحن من أسأنا التقدير في غمرة انتشاء، وأطلقنا وصفا خاطئا لهبتنا الجماعية معتقدين بأننا باستعارتنا لفصل من فصول الطبيعة قد حققنا ذلك التماهي مع حالة الطبيعة التي يحمل فصل الربيع فيها نوعا من البشرى للبشرية التي تكون قد خرجت للتو من فصل بارد قارس.
ما كانت تعيشه شعوب الدول العربية وشمال إفريقيا ليس بردا قارسا بل هو جحيم محموم ولربما ليس إلا صمت مريب يعتقد معه الذي لا يعرف أحوالنا بأنه موت سريري وأننا لا نتمدد إلا فوق مقبرة تمتد من الخليج إلى المحيط، لذلك فأول انتفاضة ضد هذا الصمت الممنهج-إرادة داخلية وخارجية-جعلتنا نتقمص روح طائر الفينيق ونعتقد معها بأننا انبعثنا بعد احتراق دام طويلا.
غير أنه مثلما هو طائر الفينيق ليس إلا أسطورة تلهم الشعراء لكي يعبروا عن الهبة بعد كل انتكاسة، كانت انتفاضتنا مجرد وهم وانتبهوا معي جيدا لمفهوم الوهم الذي يكتسي مدلولا فلسفيا نبهنا إليه ذلك الألماني المجون عندما قال:"الحقائق أوهام نسي الإنسان أنها كذلك".
بمنطق علماء الاجتماع لا يمكن أن نحكم على ظاهرة في ظل راهنيتها وعند بدايتها، ولأن التاريخ يأخذ مسافة زمنية بعيدة من الأحداث كي يؤرخ ويحكم، فإنني سأستمر بمنطق الشعراء الذي كان يحكمنا في غمرة الانتشاء بجحافل الجماهير الهادرة:
أسأنا التقدير عندما اخترنا فصل الربيع بسمائه الصافية وأرضه التي تتلفع بالخضرة الأخاذة، بشمسه الدافئة وبطيوره المغردة فوق الأشجار، بأزهاره المتفتحة وأغانيه الخالدة.
أسأنا التقدير عندما أردنا أن نطوع الطبيعة لتلائم حركاتنا وسكناتنا، ولكن للطبيعة منطقها ولنا صمتنا الذي سيستمر مع تحول "ربيعنا" من شمسه الدافئة إلى شمسنا الحارقة.
ولعله من كيد القدر أن يكون حكام "ربيعنا" الجدد، لا يقدرون الموسيقى والأغاني التي تميز ربيع الطبيعة المتجدد والغني بالحياة.
لعله من كيد القدر أن تكون الطيور المغردة في ربيع الطبيعة، رمز طوقنا إلى التحرر والكرامة في "ربيعنا" الذي سماه البعض خريفا في استمرار لرغبتنا في تطويع الطبيعة لرغباتنا، غير أن خريف الطبيعة هو رمز التجدد والانتقال وليس رمز التقهقر والاندحار.
التعليقات (0)