ماذا أعرف عن ملامحي؟.. وعن تقاسيم وجهي عندما أضحك أو أحزن أو أحتار أو أشعر بالسعادة؟ كلّ ما أعرفه هو تلك الخدعة التي تنعكس في المرآة أمامي أو على عدسة كامرا، بملامح جامدة أو مفتعلة، أو مرتبطة بحالة ما، أراها و لا أتقن قراءتها… فماذا عن حياتي كلها، و عن تفاعلي مع كل لحظة أعيشها فترسم على وجهي ملامح معينة؟ قد أقدر على قراءة ملامح الآخرين من الأحباب و المبغـَضين، فأستحضر عددا لا حصر له من التكشيرات والبسمات والغمزات و التماعات الفرح على صفحات الوجوه أو في بريق العيون، ومن علامات الدهشة والبؤس والشرود والبهوت والتوهان… فماذا لو حاولت قراءة ملامحي أو حتى تخيّلها؟ كيف يبدو هذا الوجه الذي تتوزع فيه أعضائي تلك على نحو أحفظ تفاصيله حتى أنني أعرف الغضون الدقيقة حول عينيّ، وأعرف الشعرات النافرة من شاربي أو المطلة من فتحتيْ أنفي؟ فهل ذاك وجهي؟
لا شك أن في تلك الأعضاء حياة متغيرة مع كل حركة وكل انفعال. فكيف لي أن أعرف تقطيبة جبيني وزمّة تبرّمي ورفـّة أهدابي وسورة غضبي وألق عينيّ؟ وكيف أعدد تلوّن بسمتي وانشداد عظلاتي وزفرات ضيقي؟ لشد ما يبدو وجهي غريبا عني إذ أفكر في ما يعروه من حركات وسكنات. ولشدّ ما تبدو هذه المفارقة غريبة إذ أحفظ الكثير من وجوه أحبابي وأعدائي وأجهل الأقرب إليّ والألصقَ بي.. ولشدّ ما يحيّرني حرماني من وجهي بينما يبدو مشاعا لكلّ من يعايشني لحظاتي، فتنكشف ملامحي لمن يلحظ بنباهة وتظل خافية عليّ محاطة بالغموض. فما الذي أعرفه منّي إذا جهلت وجهي؟
وماذا لو وسّعت السؤال قليلا ليشمل سلوكي ومواقفي وأفكاري وعملي؟ قد يبدو الأمر غريبا، ولكن ماذا أعرف منّي حقـّا؟ أأنا واثق من معرفة ذاتي؟ ألا يمكن أن يكون كلّ ما أعرفه مجرّد انعكاس خادع على مرآتي الخاصّة التي تتنازعها أنانيتي وغرائزي وانحرافاتي المجهولة ورغباتي الجامحة في أن أكون "غزالا في عيني"؟.. وفي المقابل أرى البون شاسعا بين ما أعرفه عن الآخرين وما يعرفونه حول ذواتهم. فأيّهما أدقّ وأكثر موضوعية، ما أعرفه عنهم أو ما يعرفونه أو يظنون أنهم يعرفونه أو ربما يعرفونه ويخفونه؟ والسؤال الأكثر إحراجا هو ماذا يعرف الآخرون عنـّي ولا أعرفه؟ وهل البون شاسع بين ما أعرفه وما يعرفونه؟..
ماذا لو طلبت من بعض الأصدقاء أن يصفوا لي ملامحي في أحوالي المتقلـّبة؟.. أيساعدني ذلك على معرفة وجهي؟ وماذا عن الذين لا يحبّونني؟.. لا شك أنّ أصدقائي سيجاملونني أو سيصفون ملامحي متأثرين بحبّهم إياي. فالأجدى إذن أن أسأل الجميع عسى أن أحظى بوجهات نظر مختلفة.. وفي هذه الحالة سأقبل الملاحظات ليس حول ملامحي فقط بل حول ذاتي كلها بما في ذلك سلوكي ومواقفي وأفكاري ورؤيتي للأشياء من حولي.. بل لعلـّي لا أحتاج سؤالهم، لأنهم في الغالب يبدون ملاحظاتهم.. عليّ فقط أن أنتبه إلى ما يقولون وآخذه على محمل الجدّ..
ولكن كيف آخذه على محمل الجدّ؟ أعليّ أن أرضى حيال كلّ ملاحظة تمدحني، وأشعر بأنني مستهدَف حيال كلّ تعليق لا يرضي غروري؟ ماذا لو كان ما يقولونه هو حقيقتي التي أجهلها؟ فكيف عليّ أن أتصرف في هذه الحالة؟ هل عليّ أن أكتفي بالاستماع إليهم بهدوء وبروح رياضية؟ وما هذه الروح الرياضية؟ أهي مجرد الاستماع إلى آراء الآخرين حولي بهدوء، وكأنّ لسان حالي يقول لهم: طيب لقد استمعت إليكم؟ أهي الاضطرار إلى الاستماع إلى الآخرين عندما لا أستطيع إسكاتهم؟
يبدو أنني إذ أفعل هذا أتظاهر فقط بالرّوح الرياضية، حتى يقال عني إنني منفتح على الآخر وأقبل النقد بتسامح. عليّ إذن أن أكون أكثر جدّية مع ما يوجّه إليّ من ملاحظات، ولمَ لا من انتقادات. وهذا يقتضي مني مراجعة جدّية، وتقييما ذاتيا في ضوء ما يقال لي. قد أنجح إذا فعلت في الاقتراب من حقيقة وجهي وربما ذاتي، أو على الأقل سأجمع إلى ما أعرفه عن نفسي ما يعرفه الآخرون عنّي. ولكن من هؤلاء الآخرون الذين عليّ أن أستمع إليهم؟ أصدقائي؟ الذين أحبّهم؟ الذين أبغضهم؟ رؤسائي في العمل؟ زوجتي وأطفالي؟ تلاميذي؟ الناس الذين أتعامل معهم في حياتي اليومية؟ يبدو أنّ كل رأي يمكن أن يفيدني في ما أطمح إليه من معرفة حول ذاتي.. ولكن هل هذا هدف؟ وهل يمكن لهذه المعرفة أن تكتمل؟.. في كلّ الحالات هي ستنمو وهذا في حدّ ذاته مكسب.. سيسمح لي ذلك باكتشاف مناطق أخرى في عالمي كانت خفية… ربما سأكتشف أشياء جميلة.
قد أكتشف مثلا أن نظرتي ثاقبة وابتسامتي مؤثرة وفرحي سهل التسرب إلى من حولي، كما قد أكتشف أن عبوسي مؤذ ومعدٍ. وقد أكتشف أنني متسلط وأرفض الاستماع إلى الآخرين وشديد الحساسية لكل ملاحظة تضع سلوكي أو مواقفي أو أفكاري موضع التقييم والمساءلة، وقد أكتشف أشياء أخرى أشد إيذاء لي ولغيري.. كما يمكنني أن أحقـّق مكاسب أخرى منها أنني سأتمكن من بناء علاقات سليمة مع الآخرين، وسأقلل قدر المستطاع من العنف الذي أوجهه إليهم، لأنّ أغلب حالات العنف تنشأ من كلام يقال لي ولا يعجبني. وفوق هذا سأتمكن من التأكد إذا كانت الروح الرياضية التي أدعيها حقيقية أم مجرد قناع.. تبدو لي هذه الفكرة في غاية الجمال.. أن أكون شخصا يحاور آراء الآخرين ويسعى إلى الاستفادة منها ليجعل ذاته أوضح وأقرب إلى النضج والاعتدال.. هذه الفكرة أيضا ترضي غروري وتشعرني بالرضى عن نفسي إذا أدركت أن سعيي إلى التخلص من عيوبي أفضل من إخفائها أو فرض السكوت عليها على الآخرين، وإذا أدركت أن سعادتي واطمئناني ينبعان من رضاي عن نفسي ومن رضا الآخرين عني.
ولكن ماذا عن ملاحظاتي وآرائي حول الآخرين؟ ماذا لو قلت لرئيسي في العمل أو لزوجتي أو لتلميذي ابتسم فإن هذه الملامح العابسة تجعل نظرة الآخرين إليك متوترة؟ وماذا لو قلت هذه الملاحظة للآخرين الأخطر والأكثر بطشا، كأعوان الأمن العابسين أو أصحاب المناصب الكبيرة؟ وماذا لو قلت لأيّ كان إن رأيك هذا لا يقنعني أو إنك لا تنجز عملك بشكل مناسب؟ وما الذي يعطيني الحقّ لأعبر عن رأيي حول ملامح الآخرين أو سلوكهم أو مواقفهم أو ما ينجزونه من أعمال؟ وهل للآخرين نفس رغبتي في معرفة حقيقة ذواتهم؟ وماذا لو كانوا غير مهتمين، أو مستعدين للشعور بالعدائية تجاه أيّ نقد؟
إنّ هذا يعيدني إلى المفارقة التي وقفت عليها منذ البداية، وهي أن ملامحي مجهولة عندي ومشاعة لكلّ الآخرين لأنها أصلا تخصهم وتتوجّه إليهم، وتعبّر لهم عنّي.. بل إن أفكاري وسلوكي وأعمالي تتوجه في أغلبها إليهم. فباستثناء النوم والأكل والاغتسال وبعض الحاجات البسيطة كلّ حياتي موجهة إليهم. وهذا يعطيهم الحق في التدخل والتعبير عن آرائهم. وفي نفس الوقت يعطيني الحق في التدخل والتعبير عن رأيي تجاه حياتهم التي يتوجّهون بها إليّ. فالأمر إذن تفاعليّ ومحكوم بعقد ما.. عليّ إذن أن أقبل آراءهم كما عليّ أن أتمسك بحقي في التعبير عن رأيي تجاههم… وإذا كنت لا أطمئن تماما إلى ما أعرفه عن وجهي وعن ذاتي بوجه عامّ، فأظن أيضا أن الآخرين لا يطمئنون. فمن يا ترى يطمئنّ؟ الصغار؟ الكبار؟ الرجال؟ النساء؟ المسؤولون؟ السياسيون؟
أظن أننا جميعا نهتمّ، مادمنا ننتمي إلى الجنس البشريّ نفسه، ومادمنا نملك جميعا ذلك العالم النفسي المتقلب والغريب والهشّ مهما اجتهدنا في إخفاء هشاشته.. ولذلك فنحن جميعا نهتم لما يقوله الآخرون عنّا. وحتى عندما نتظاهر بأننا لا نفعل أو نتصرف بعدائية فهذا لأننا نهتم أشدّ الاهتمام. ونحن جميعا متساوون في هذا صغارا و كبارا، مشهورين أو عاديين، حاكمين أو محكومين… وأظن أن الطريق الأجدى لتجنب الاستماع إلى الآراء التي تنتقد فتجرح الكبرياء أو تخدش نقاء الصورة التي نحاول رسمها حول ذواتنا أو تفضح ما نودّ إخفاءه من قبائح هو الكفّ عن ادّعاء الكمال والتشبّه بالآلهة والمعصومين والمنزّهين، والانتباه إلى إنسانيتنا الجميلة في هشاشتها وتعقيداتها وغرابتها… والعمل على الاستماع إلى تلك الآراء وأخذها بعين الاعتبار لأنها ستجعل صورتنا أنقى وأقل تعرضا للانتقاد… ولهذا من المنطقي أن أكفّ عن العناد والتمسك بوجاهة أفكاري كلـّها ومواقفي وكلّ ما يصدر عني، وأن أقبل مراجعة نفسي ولو قليلا في ضوء ما يقال عني… وفي الوقت نفسه عليّ أن آمل أن يكفّ الآخرون عن إحاطة أنفسهم بهالة من القداسة الواهية، وعن الاعتقاد بأنهم منزّهون عن كل نقد.. وعليّ أن آمل أن يقبل الآخرون الانخراط في هذا الحوار الإنساني الجميل…
إذا تحقق هذا سنتخلص من كمّ هائل من العنف وسنتواصل، وسنتعوّد التخلـّي عن منطق الإقصاء، وعن التنكيل بكلّ من ينتقدنا أو لا يرضي غرورنا بالمديح.
بقلم عبد الله بنيونس
عن موقع الاوان الالكترونى
الأربعاء، 24 مارس، 2010
التعليقات (0)