الحياة الحب .. والحب الحياة
بقلم : حسن توفيق
1- عمر بن أبي ربيعة
هكذا يتحول العاشق إلى سارق
قبل أن يطل على الدنيا الفجر، تمايلت أجساد النسمات الشفافة الهفهافة، فطربت الأشجار، وتحركت أوتار الغصون لكن كل هذا الجمال الذي يهز قلب الحجر ليست له أية أهمية عند رجال الشرطة، فقد اندفع عدد منهم، ومعهم كلاب بوليسية، ومخبرون سريون ومحققون، وكان هدفهم أن يبحثوا عن قبر عمر بن أبي ربيعة، حتى تأخذ العدالة مجراها ضده توقف أحد المخبرين وأشار بيده قائلاً هذا هو القبر وعلى الفور شرع الجميع في الحفر، إلى أن فاحت من باطن الأرض رائحة المسك، فأدركوا أنهم لم يخطئوا فيما يؤدونه من واجب، وقاموا بكل همة ونشاط باستخراج هيكل عظمي يرتدي أفخر الثياب، ومن خلال تحليل الحامض النووي، تأكد لهم أن هذا الهيكل هو بالفعل هيكل عمر بن أبي ربيعة، فبادروا لإنعاشه بسيل من الصفعات واللكمات إلى أن أفاق من نومته الطويلة
- أنت عمر بن أبي ربيعة؟ تكلم انطق
= أنا عمر لم تخطئوا
- أين بطاقتك الشخصية؟
= ليست معي الآن إذا كنتم تريدون الإطلاع عليها فبإمكانكم أن تجدوها في أرشيف العصر الأموي، وبالتحديد في القسم الخاص بالشعراء اللاهين
- هل تتهكم علينا؟ هل تسخر منا؟ انهض بسرعة، وتعال معنا إلى المحكمة، فأنت متهم بأنك سارق
= لكني أعرف أني عاشق
- يمكنك أن تدافع عن نفسك أمام القضاء، فهيا بنا دون إبطاء
قيد رجال الشرطة يدي عمر، وساقوه أمامهم إلى المخفر ثم وضعوا على الباب لافتة كبيرة، كُتبت عليها كلمة واحدة محددة «محكمة» وبمجرد دخول عمر بن أبي ربيعة، دوي صوت انفجار في الطريق، وقال أحد رجال الشرطة إن رجلاً من المتشددين، كان ينوي تفجير نفسه أمام المدعو عمر حتى لا تأخذ العدالة مجراها بطريقتها المألوفة والمعتادة
قاعة المخفر - عفواً أقصد المحكمة - كانت مكتظة عن آخرها بالناس نساء جميلات محجبات وأخريات سافرات وشعراء ونقاد وإعلاميون صاحت امرأة كأنها تولول حاكموه أدينوه فإنه قد سرق قلبي ردت عليها امرأة أخرى أنت أيتها العجوز ليس لك قلب، فكيف يمكن لعمر صاحب الذوق الرفيع أن يخطف أو يسرق قلبك المزعوم؟
رأى الجميع جنرالا عابس الوجه، وهو يغير ملابسه العسكرية، ويستبدلها بثياب مدنية، ثم ارتدى روباً أسود اللون، واعتدل إلى أن جلس، وأمامه لافتة تقول إنه القاضي وحول الجنرال عفوا مرة ثانية أقصد القاضي جلس قاضيان آخران وأمام هؤلاء كانت هيئة الدفاع المعدة من قبل، وكذلك ممثل الادعاء الذي صاح على الفور هذا هو المتهم يا فخامة القاضي وأطالبكم بتوقيع أقصى العقوبة عليه، ولكن بعد أن تثبت التهمة عليه بالطبع
دق القاضي الجنرال علي المنصة بقبضة خشبية، مسروقة من منبر أحد مساجد بني أمية، وتمعن في وجه عمر بن أبي ربيعة، ثم قال بصوت وقور
- لكي تأخذ العدالة مجراها، لا بد أن نعرف منك أولاً يا سيد عمر حكاية آل نُعْم خصوصاً انك كتبتها في قصيدة طويلة، ولا تستطيع أن تنكرها أو تتنكر لها، لأن لدينا شهوداً يؤكدون أنك بطل هذه الحكاية حكاية آل نُعْم
= اسمح لي أولاً يا سيدي أن أقول إن أي شاعر أصيل لا يستطيع أن يتبرأ مما كتب، وأنا لن أتبرأ أو أتنكر لقصيدتي المطولة التي أعتز بها أيما اعتزاز
- جميل من هنا نبدأ هل تستطيع أن تتذكر بعض أبيات هذه القصيدة؟ نريد أن نسمع
= وهل هذا المكان يصلح لإلقاء الشعر فيه؟
- لا تعترض انطق الآن أنشد
= لن أنطق حرفاً من شعري هنا
- حسناً سنقرأ نحن ما سبق لك أن قلته لقد ذكرت أنك ذهبت ليلاً إلى صديقتك نُعْم بعد أن ضمنتَ أن أهلها جميعاً قد ناموا، حيث جرى بينك وبينها ما جرى
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ
مصابيح شُبَّتْ في العشاء وأنورُ
وغاب قميرٌ كنت أرجو غيابه
وروَّح رعيان ونوَّم سمَّرُ
فحييت إذ فاجأتها فتولهتْ
وكادت بمخفوضِ التحية تجهرُ
وقالت وعضت بالبنان فضحتني
وانت امرؤ ميسورُ أمرك أعسرُ
فوالله ما أدري أتعجيلُ حاجة
سرت بك أم قد نام من كنتَ تحذرُ
فقلت لها بل قادني الشوق والهوى
إليك وما عينٌ من الناس تنظرُ
فأنت أبا الخطاب غير مدافع
عليَّ أمير، ما مكثت، مؤمرُ
فبتُّ قرير العين أُعطيت حاجتي
اقبل فاهاً في الخلاء فأكثرُ
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلي قبل ذلك يقصرُ
بعد أن قرأ القاضي الجنرال هذه الأبيات، تغلغل بنظراته في وجه عمر بن أبي ربيعة، كأنه يريد أن يفتش في أعماق قلبه، ثم قال ساخراً
والآن ماذا ستقول يا سيد عمر؟ أليس هذا الشعر شعرك؟ أليست هذه الفضيحة فضيحتك؟
هذه تجربة شخصية، ولا حق لأحد أن يتدخل فيها أو أن يناقشني بشأنها، إذا كانت هناك حقاً حريات للأفراد
لقد أوصلتنا الآن إلى ما نريد أنا شخصياً لست معترضاً على تجربتك الشخصية مع السيدة نعم ولست مهتماً بأنك أشبعتها بقبلاتك الحارة، ولكني أوضح لك أن هناك دعوى مرفوعة ضدك من أحد الشعراء الذين سبقوك، وهو يؤكد في دعواه أنك قد سرقته بكل معنى الكلمة، وقد رفعت الآن الجلسة، فانتظر داخل هذا القفص يا سيد عمر حتى نقرر موعد الجلسة القادمة
2 - عمر بن أبي ربيعة
يهرب من الشرطة بصحبة أجمل قطة
لم يكن المشهد عاديا في مبنى الشرطة الذي تحول الى قاعة، تجري فيها وقائع محاكمة عمر بن أبي ربيعة، فقد جلس الجنرال الذي يرتدي ملابس القضاة على الكرسي، وكأنه جالس على مسامير حادة، أو كأنه يتقلب على جمر النار كما تقول أم كلثوم، كما لاحظ الإعلاميون أن عدد النساء المحتشدات في القاعة قد تضاعف، قياسا إلى عددهن خلال الجلسة السابقة، أما قفص الاتهام فقد بدا خاويا، وهذا ما جعل القاضي يحس أنه يجلس حقاً على مسامير حادة، وهو يسأل نفسه كيف استطاع عمر بن أبي ربيعة أن يهرب من القفص قبل محاكمته؟
ما لا يعرفه أحد أن امرأة باهرة الجمال كانت قد دخلت القاعة، ومعها ملابس نسائية من بقايا العصر الأموي، وبسرعة خاطفة قام عمر بن أبي ربيعة بارتداء تلك الملابس النسائية، وعلى الفور خرج من مبنى الشرطة بصحبة تلك المرأة، دون أن يتنبه أحد من الجنود والحراس لما جرى
بذكائه المعهود، قرر عمر بن أبي ربيعة أن يذهب إلى مكان لا يمكن للقاضي ولا لأفراد الشرطة أن يتصوروا أنه سيذهب إليه، وهكذا انطلق بكل رشاقة، ودون أي ارتباك، قاصداً جبل التوباد الذي كان يتلاقى فيه قيس بن الملوح مع حبيبته ليلى، وبمجرد وصوله إلى الجبل، خلع الملابس النسائية، وأخذ يتأمل هذا المكان المقفر الذي كان يحبه مجنون ليلى هو وسواه من شعراء الحب العذري، حيث صاح بأعلى صوته وقد امتزجت نبرات الرثاء بالسخرية، مردداً ما كان أحمد شوقي قد قاله على لسان قيس ابن الملوح - المجنون
جبل التوباد حيَّاك الحيا
وسقى الله صبانا ورعَى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنتَ المرضعَا
وعلى سفحك عشنا زمناً
ورعينا غنم الأهل معَا
وحدونا الشمس في مغربها
وبكرنا فسبقنا المطلعا
هذه الربوة كانت ملعباً
لشبابينا وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أربعا
وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم
تحفظ الريح ولا الرمل وعَى
لم تزل ليلى بعيني طفلة
لم تزد عن أمسِ إلا إصبعا
ما لأحجاركَ صماً كلما
هاج بي الشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك راجعتُ الصبا
فأبتْ أيامه أن ترجعا
قد يهون العمرُ إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
نظر عمر إلى المرأة التي انطلقت معه إلى جبل التوباد، وقال لها هامساً الحقيقة أن قصائد مجنون ليلى وسواه من أمثال كثير عزة وجميل بثينة هي قصائد رقيقة ومؤثرة، لكل هؤلاء الشعراء لم يستطيعوا التكيف مع تقلبات الحياة، وإلا فلماذا اكتفى كل منهم بامرأة واحدة يحبها، دون أن يسمح لنفسه بأن يعشق سواها، طالما أنها قد تزوجت رجلا آخر سواه؟ وهنا ضحكت المرأة ومالت برأسها على كتف عمر بن أبي ربيعة، بدلال ما بعده دلال، وعلى الفور انتهز عمر الفرصة، وأمطرها بقبلاته الحارة التي ترددت أصداؤها في جنبات جبل التوباد
بعيداً بالطبع عن الجبل، ظل الرجل الذي نصب نفسه قاضياً يتمايل فوق الكرسي كلما جرحه أو وخزه مسمار من المسامير الحادة، ونظرت إليه كثيرات من النساء الجميلات المحتشدات في القاعة نظرات استهزاء، وكأنهن يقلن له يا خيبتك يا حضرة القاضي
وحملق رجل من أبناء العصر الجاهلي في وجه القاضي، ثم صرخ بعنف هل وصل الفساد والإهمال إلى هذا الحد؟ كيف تمكن عمر بن أبي ربيعة من الخروج من القفص؟ من الذي قام بتسهيل عملية فراره من هنا؟ ولَمْ يتردد أحد المصورين الجالسين داخل القاعة في القول لقد استطاع عمر أن يهرب من الشرطة، بصحبة أجمل قطة، والقطة التي أشير إليها هنا هي مدام «هند» التي كان الشاعر الفاسق يشكو من دلالها، ومن أنها لا تحترم مواعيد لقاءاته معها، بدليل أنه هو نفسه قد تحدث عن هذا حين قال
ليت هنداً أنـجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
وهنا تملك الغيظ من القاضي، وأمر بحبس عدد من الحراس الذي اتهمهم بالإهمال، كما أمر جماعة أخرى بالتفتيش العاجل عن المكان الذي لجأ إليه عمر بن أبي ربيعة بمساعدة مدام هند على أن تكون هناك جلسة عاجلة، حتى لو كانت غيابية، أما الرجل الذي ينتمي إلى العصر الجاهلي، فقد قال متهكماً لست متفرغاً لحضور أية جلسة مقبلة، خصوصا بعد أن هرب الشاعر الذي تقولون إنه عاشق، بينما هو في الحقيقة سارق إنه يدعي أن حكايته مع «آل نُعْم» حكاية حقيقية، لكن الرجوع إلى الوثائق القصائد يؤكد إنه قد «لطش» الحكاية مني والآن يا حضرة القاضي من الأفضل أن تعود إلى بيتك بسيارتك التي يبدو أنك أيضاً قد سرقتها، أما أنا فأعود من حيث أتيت على ظهر حصاني العربي الأصيل
مكّرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطه السيل من عَلِ
يزل الغلام الخف عن صهواته
ويُلوى بأثواب العنيف المثقَّلِ
له أيطلا ظبي وساقا نعامةٍ
وإرخاء سرحانٍ وتقريب تَتْفُلِ
التعليقات (0)