تصنع لنا الحياة و ترسم لنا السنون و الأيام مواقف عديدة وتجارب كثيرة مع أشخاص مختلفين بقربهم منا و مختلفين كذلك بنفسياتهم عنا.. وكثيرا ما نختار أن ننتصر في هذه المواقف لذواتنا أو لقناعاتنا - إلا من رحم ربي - عند نشوب أي حرب كلامية شبه فاترة .. و مع زخم هذه الانتصارات الموقفية تتكبلنا في المقابل انهزامات نفسية فتاكة لا يعرف مرها إلا من ذاق علقمها .. هذه التجارب تجعل صورتنا الخارجية في الغالب .. أصلب .. أصبر .. أشد .. أحزم .. أقدر على تخطي الصعاب و الأزمات .. في المقابل نجد أن هذه المواقف ذاتها - و مع كثرة تكرارها - باتت تسلبنا الكثير من المعاني الراقية المُودع فينا كبشر فنحن خُلقنا نشعر بها أولا ثم أصبحنا نفكر بأهميتها بعد أن فقدناها .. مثل الرحمة اللامحدودة والرأفة الساحرة ورقة المشاعر و أهم من هذا كله تسلبنا " البراءة " و حسن النية و المشاعر الإيجابية المستمرة و التي من شأنها أن تجعل من المرء إنسانا حقيقيا يرى كل الأمور جميلة و إن شابها السوء يظل الجمال و الهدوء طاغ و يسود في نظره العالم بأسره .. و عين الرضا ملازمة له أينما ذهب وحيثما توجه .. و كيف لنا أن نحافظ على هذه الوداعة النفسية في حياة تزاحمت فيها كل المشاعر السلبية و ازدادت فيه الضغوطات الحياتية عند البشر و أصبحت الأنانية شعار نرفعه في أي موقف يتطلب منا ردود أفعال معينة ..
و يأتي التغير مع أول هزة نفسية تحل بنا .. و بحلول المواقف وتعاقب الأزمات النفسية يأخذ التبدل والتحول سبيله إلينا ببطء شديد .. و تظهر لنا الحياة على حقيقتها البشعة المرعبة .. و بوضوح تام ينجلي ما أنجبته لنا من نفسيات بشرية شتى .. و غالبا ما تنزع منا تلك الأخيرة الرضا و الاطمئنان .. وتقمع فينا الوئام و السلام .. وتسلبنا الهناء والسعادة بعد أن كانت نفسياتنا و أرواحنا " الحرة " مرتعا لها .. وتكدر صفونا و قد تؤرق نومنا أيضا .. فنغدو و قد كدرتنا الهموم و أصابنا السأم والضجر و فارقنا كل أُنس وجمال .. وأصبح الوجود أكحل من ظلمة الليل إذا أظلم .. و ينقلب التصافي الروحي الذاتي لمعارك أزلية غالبا ما تهدر من أوقتنا وجهدنا و صحتنا .. وتودي بنا إما للمصحات الجسدية ليطبب فيها ما تآكل من أجسادنا و ما أتلف من أعصابنا أو للمصحات النفسية لتُرمم فيها أرواحنا التعيسة الحزينة .. و لا يوجد منا من لم يخض هذه التجارب .. و لم يعترك بأنانية البشر وحب تسلطهم وفرض هيمنتهم بأسلوب أو بآخر .. لكن يبقى لكل واحد منا طريقته الخاصة في معالجة الأمور و أسلوبه الشخصي للتصدي لأي مشادة كلامية مثلا أو اختلاف في الرأي أو ثورة غضب عارمة مجنونة .. فعندما يحتدم النقاش و تتعالى الأصوات و تنصت العقول مفزوعة من غلبة الهوى ويتعالي الأنا قائلا ( أنا هنا أنا هنا ) عندئذ فقط تختفي الإنسانية الجميلة التي نتميز بها عن باقي المخلوقات و تذوب رويدا رويدا كما تذوب قطعة السكر في فنجان الشاي الساخن ليتصدر عوضا عنها عمل الشيطان ..
و حينها تبدأ محاور الشر تتراقص أمام أعين المتخاصمين في حريقتهم النقاشية و نواياهم السيئة.. و تنخلط الأوراق فيتنحى " الحق " حزيننا و يتصدر " الهوى " وجلا من أي تذكرة أو أي موعظة تطمسه و تودي به .. و تتكشف أمور " إن تُبدى لكم تُسئكم " فيعرض هذا في زاويته ويعرض ذاك في صومعته .. وتأخذ كليهما العزة بالإثم تكبرا واستعلاء .. و يُصوب الهدف في المرمى .. و تضيع المسؤولية مع هذا الهدف الشيطاني المُصوب ..
و في هذه اللحظة فقط يبدأ الصراع بين النفس و القيم عند من سكن صومعته النفسية .. و ترتسم الأوهام و الظنون عند من انحسر في زاويته الشيطانية .. و يغفو العقل غفوة كأنها أبدية بين الطرفين .. و يصغر القلب و يغدو الإنسان " قاسي " الشعور متلبد الإحساس .. مصدوما بواقع التجارب الحياتية و آلام الصراعات النفسية التي خاضها مع من ظن في أوقات كثيرة أنهم أحباب لقلبه و دواء لروحه .. و ليس في خلَد هذا المصدوم التائه إلا ما قاله فلان وما فعله علان .. و ينسى أو يتناسى بالأحرى كيف كان حاله قبل هذه الصراعات المتكررة و هذه النوبات المؤلمة لقلبه الغافي اللاهي .. و يتحسر على ما خسره من شخصيته البريئة الصادقة بسبب قسوة المواقف و تكالب الهموم و تعاقب الأحزان .. و يتمنى في قرارة نفسه أنه ما خاض هذه التجارب .. و ما تحولت حياته الهانئة الناعمة لحلبة صراعات تكون الغلبة فيها " دائما " للأقوى و للأعلى .. و ليس للأصبر أو للأتقى .. و كل أشكال الاختلاف و الاحتدام والفراق و الشد و الجذب تأخذ هذا المنحى في عالم الإنسانية .. لذا دعواتي للجميع بحياة هادئة ساكنة تفوح منها أكاليل الرضا والاستقرار و تبتعد عنها أساطير الصراعات والأوهام .. و أن يسكن الحنان و الاستقرار كل بيت .. و يعمر الحب و الوئام كل قلب.. أطيب المنى ..
كلمات شعرت بها فدونتها ..
التعليقات (0)