مواضيع اليوم

هكذا كتبوا عني

hassan ghrib

2014-04-21 21:33:15

0

 

هكذا كتبوا عني

 

دود الذات في قصة (ملمح !!) لـ حسن غريب أحمد
بقلم الناقدالجزائري : السعيد موفقي

في الواقع كنت أرغب أن أمر بتوقيع لمسار القصة (ملمح !!)موقعالقصة العربية ، غير أنّي اكتشفت ملامح قوية في عرض العقدة التي اقتضت من القاص اعتصار الأحداث بشكل ذكي صبّ فيها صورا مختلفة لمشكلة إنسانية امتزجت بمواقف نفسية عسيرة ، و تلك هي القضية التي بدأ بها القاص و أنهى بها المشكلة ، و لم تكن مجرد عرض ، إنما البحث عن تلك الحقيقة غابت في صراع أخفى البطل أهم أجزائها و تركها بينه و بين نفسه ، ((برز وجهه من وراء النافذة الحديدية .. عاود البزوغ مرة أخرى .. نادى على زوجته .. بأعلى صوته : " نصرة " 
.. أين أنت؟ ) في هذه اللحظة تراكمت أمامه كل الأجزاء و أوشكت على الانفلات ، تدفق لم يستطع البطل الحد من هيجانه ، و لم يكتف بالتأمل ، تشتت قواه و توزعت فيفوضى بين حصار داخلي شده إلى آلام دفينة بعثتها آهات الاستغراق الزمني وتألب المواجع التي احتدمت بحاضر أليم تعارضت فيه مواجع مختلفة ، تركت في داخله صدى اخترق مكوناته و هزّ كيانه بقوة ، ((دوى إسم نصرة فى كل الأرجاء المتعفنه من المكان .. سمعه الكبار والصغار .. قال كيف حال الأولاد ؟ ))
كانت صرخة غير متوقع و استطاع أن يقتلع من داخل نفسه كل المواجع التي رسبتها محن قديمة و تراكمت ذكرياتها بمختلف الألوان ، لم يكن مجرد سؤال ، هي صدمة عنيفة كشفت عن أسرار ظلت غائبة …و استمرار الأسئلة كان من قبيل عدم الاكتفاء بالإشباع الذاتي و اختلال التوازن الداخلي الذي اهتز لأسباب مفاجئة …و لم يكن الردّ سريعا ((ردت نصرة بخير وكيف حالك أنت ، رد بخير ، خرجت الكلمة من بين شفتيه متقطعة مذبوحة ممـــــــدودة ـــ لها معانى جمة .. نصرة هذه الأيام سوف تمر ..))
كل الرموز التي اختارها الكاتب كانت حاضرة بقوة بدءا بالعنوان : ملمح / من وراء/ الحديدية / دوى / المتعفنة / متقطعة / مذبوحة / …..يجمع هذه الرموز الاختباء ، الاختفاء ، كل ما هو سري ، الضباب…و غيرها مما يعكس التنافر و التعارض بين الأشياء ، إن في الألوان أو الأصوات …و حتى في الأشكال : النافذة / الحديد / المكان المجهول / ، أما الاستغراق الزمني فالعملية واضحة منذ البدء إذ أراد الكاتب الوصول إلى نهاية مقنعة و قول البطل : (( المهم حافظى على نفسك ..))
هذه طريقة للبحث عن التوازن أو الاعتدال المفقود و لم يكن التحرر كسر القيود بقدر ما يعني التنفس من الداخل و التحرر في العمق …كلها صور لتاوز عقبات موهومة مسيطرة على الذات ، متجذرة في مكوناتها (( يختفى مرة أخرى خلف الشباك الحديدى وهو يحلم بالحرية .. يبرز من هناك ضوء مصباح خافت للزنزانة .. يصيح حارس السجن بأعلى صوته : لقد أقبل الليل .. كل المسجونين يذهبوا للعنبر الخلفى .. الزيارة إنتهت *)) كانت نهاية ، صوتية مدوية ، انغلاق كثيف في حدود الصدمة / السجن الزنزانة / الحراسة / الشباك / الليل…تلميحات حية عاتمة ….
في الأخير تمكن الكاتب من طرح فكرته بذكاء و مج الأصوات من أجل تعايش الاهتزازات ليتحقق الاستقرار من الداخل قبل لخارج.
بالتوفيق للكاتب.
قراءة أخرى لقصة (وجه آخر للبؤس) للأستاذ حسن غريب
بقلم / السعيد موفقي 
كاتب وناقد وروائي جزائري

__________________________________
أحببت أن أبدي رأيا حول قصة ((وجه آخر للبؤس))في منتدى قراءات ..
استهلالة جميلة في تقديم البؤس في مختلف وجوهه ، قد يكون مجرد إحساس كما تفضلت الأنّ أسبابه كثيرة في عالم تعددت أوجه الطلم أيضا ، و هذا تفسير استوقف بعض علماء النفس في تحديد المعطيات التي تجعل الإنسان يعيش اليأس و البؤس معا ، لا يمكن للمرء أن يبتعد عن الحقيقة في ظل المفارقات التي تفرضها ملابسات الحياة و تناقضاتها ، و هذا ليس كاف إذا ما بحثنا عن طبيعة الأشياء و تداخلها ، قد يعجز المرء أحيانا في محاولة معرفة هذه العلاقات 
(إحساس ما يجعلك تعتقد أنه لسبب ما غامض بعض الشئ سيكون هذا اليوم أشد بؤساَ ، وأنت تبدأ يومك يتملكك هذا الشعور والذى رغم كل شئ كان له سطوة كبيرة عليك 0 أنت تتناول أوراقك وحقيبتك لتغادر ليس مهما لماذا تغادر 00 لكن عليك ذلك 0 )
و من قبيل التأمل قد يعتقد كثير من الناس أنّ المسألة ليست أكثر من نزوة يمر بها ما يلبث أن تزول بزوال أسبابها التي استبسطها في بادئ الأمر ، بينما الأمر أبعد من ذلك ، و الهروب وجه من وجوه الضعف التي تفرضها الغرابة ، قد تكون المواجهة حلا لكن من الصعب مباشرته و بداخله اهتزازات و ارتجاجات ، استعمال المرآة في حدّ ذاته ملاذ تفسره انكسارات النفس ، عدم احتمالها للشروخ التي وقعت فجأة :
(وهكذا تتأمل وجهك فى المرآة عند الباب قبل خروجك 00 العيون نفسها التى تنظر بشكل غريب تمتلئ بألوف من الأشياء وتتوقف عند شئ واحد لماذا تنظر هكذا ؟ حيث ليس مهماً أن تنظر تتودع بشكل مدهش فى الوجه وحتى الألف غدا مألوفاً جداً لكن دون جدوى تتفحصه كلما نظرت هنا فى المرآة مازلت أن تتحسس جلدك تلمس رأسك 00 يراودك شعور بالاشمئزاز وأنت تفكر أن الجميع يروك 00)
ومن هنا فالشخصية التي يعتصرها الألم نجاحها مرهون بشدّة المقاومة ، و سرعة الاختراق و التصلب في مواجهة المواقف الصعبة …و في طبيعتها ملامح عميقة لذلك الجانب الإنساني المأساوي الذي لم يقو على إيقاف التدافع المفاجئ ، على سبيل المثال في الموقف الموال :
(تفتح الباب وتخرج 00 شئ ما يجعلك تفكر إلى أين أنت ذاهب ؟!! هل تعى أنت ذلك ؟ هل أنت متأكد أنها الطريقة الصحيحة وكيف تخطئ 00 ليس مهماً إدراك كل شئ 00 إنها مسائل كيفية لقد تناولت فطورك 0 ليس مهماً تناوله لكن لم يكن هناك ثمة شئ يجعلك تفكر بكيفية الذهاب بدونه إلى العمل 0 أنت ذاهب إلى العمل إذن 00تلاحظ الجرائد على الرصيف المقابل 00 )
كل المثيرات التي استنهضت مواجعه و ذكرياته حاصرته في أحلامه ، لم يكتشف حقيقتها كما تصورها أول مرة ، التزم الصمت و الكبت و ترك تفاعلاتها تخترق أسراره بعمق و تهزّ مرتكزاته بقوة ، زعزعة نفسية لذلك البناء الثابت المنهار 
الصورة التي اخترتها للقصة كانت معبرة اختصرت بعض الجوانب الجوانية الطبيعية لمعنى البؤس في داخله ، ربما يبدو الأمر بسيطا توصيف الشخصية على بساطتها ، لكن على ما يبدو لي تحتاج إلى تأمّل في النفس و الواقع و الشارع و كل مكان يشغل حيزا في حدة الأزمة :
(تقطع الشارع بكل ثقة ليس ثمة ما تحزن عليه لم يحدث شئ 00 تبدو متأكد من مرورك بسلام تفتح المحفظة هناك بعض المال 00 تأخذ ثمن الجريدة فقط أنت تتأكد إن كان هذا المال لك 0 ثمن الجريدة لم يترك الانتباه للنقص فى المال تقف فى الموقف 00 لقد أصبح غريباً ومألوفاً 00 تتحسس ساق المظلة تنظر إلى السيارات التى تمر إنها مليئة بالناس ممن تعرفهم أنك تفكر بمسائل غريبة لو تستطيع أن ترافقهم إلى بيوتهم أو لو أنك تعرفهم جميعاً تبدو الفكرة مضحكة 00 لكنها منطقية جداً لديك وجديدة 0 وتشعر باتساع متاهة علاقاتك لكن 00 )
ومن ذا الذي يترك أسراره مكشوفة يراها الغادي و الرائح ، إلا معتوها ، أصابه فقدان الوعي بحدّة ، و مادام للأمل بقية فمن الممكن أن تتحق كثير من الأمور التي استصعبها في بداية الأمر ، قد يهتدي بتفكيره إلى الحقيقة الغامضة أو البعيدة ، للتفكير جانب قوي في دفعها إلى صوابها و الوقوف عند حدودها كما رسمتها الطبيعة :
(لكنه تفكيرك دوماً كان يتوقف عند من تعرفهم 00 تفتح الحقيبة هل الأمر مهم ترى الجريدة تتذكر لم عليك انتقاء الجريدة ؟ وماذا ستقرأ فيها ؟ هل الأمر يستحق أنك ترى أن العالم مثير لو عرفنا الأخبار أولاً 00 ماذا هناك أيضاً ؟ تقلب الأوراق وأنت تتحاشى سماع الكلمات من هذه وذاك أنت تتصنع كعادتك الهروب من النظرات هذه بطاقة اشتراك بالمكتبة العامة بالعريش تتذكر إن كنت زرتها 00 تفكر أنها ستفقد صلاحيتها هل استخدمتها بشكل جيد ؟ تبدو عليها صورة من المنطقى جداً إنها لك أنها تشبهك أنها صادرة فى عام 98 وهو هذا اليوم آهٍ تتذكر أى يوم هذا لقد تأخرت لم يأت ذاك الأتوبيس الذى تنتظر آه لقد تذكرته أخيرا 00 هل أنت بخير ؟ شئ ما يجعلك تشعر بفراغ قاتل 00 )
و هل للإحساس دور في العملية هذا ما استكمله الكاتب في البحث الشاق ، استظهر بعض الجوانب و ترك البعض الآخر قد يكون للصدفة دور أيضا ، و لكن نسبة المفعول فيه أقل من التجربة الأولى ،:
(يجعلك تنكر علاقتك بالأشياء تراودك الأسئلة 00 هل عليك أن تخرج للعمل ؟ أنت مستعد الآن وللحظة أن تهرب مما يرادوك لكنك تشعر برغبة بالبقاء هكذا مستكن إلى أن تتحرك 00 ها الأتوبيس يوقظ دهشتك واستسلامك ها أنت تصعد 00 تضع حقيبتك فى المقعد المجاور أنه فارغ تنظر إلى رجليك أنهما متصلتان بجسمك لكن شعورك بهما يتضاءل 00 أنت تفكر ما الذى يجعلك متأكداً أنهما رجلاك تملكان الأهمية و أنت فقدت للحظة الإحساس بهما 00 شعور رهيب تأكد به شعور سائد تتساءل لماذا لا تنزل فى أى مكان ؟ )
على الرغم من كل المحاولات حتى تلك الاستثناءات التي بادر بها و كثير منها باء بالفشل لا زال يؤمن بمفعولها و لو على المدى البعيد أنه من الممكن أن يتحقق من ذلك الشيء الكثير ، ربط الأمور و الأشياء بحيثيات التفكير و البحث و الاستمرار ، لأنّ النجاح لا يمكن تحقيقه إلاّ بالإصرار ، و من جهة أخرى تعدد التجارب قد يحقق في ظرف ما مفاجآت لم تكن متوقعة على مستوى كل المواقف :
(هل من الضرورى أن تنزل هنا 00 و لكنك تنزل 00 هل نزلت فى الموقف الصحيح 0 ؟؟)
يتأكد مرة أخرى بأنّه لا وجود لشيء يسمى الفشل مادام الإصرار في المواقف متتابع ، لا تثنيه التقلبات التي تعترض طريقه ولو في العديد من الأماكن أو حصار الزمن في اتساعه أو ضيقه، و هكذا يمسك الكاتب بتلابيب الفكرة ليخلص إلى نتيجة واحدة و هي : قد تكون التجربة المحك الوحيد لتصحيح ما نخطئ فيه أو نجهل طبيعته .
بالتوفيق صديقي
قراءة في قصة 
خطوات من هناك 
بقلم : سعيد رمضان علي 
كاتب وناقد مصري

__________________________________
تكاد هذه القصة إن تجعلنا ننزلق لتفسير الموت والعالم الأخر ، لكنها لا تعبر عنهما ، بل تعبر عن الخوف من الموت ، والناس دائما يخشون المجهول ويرعبهم الفناء ، وفى نصنا هذا نجد ارتباط بين الكل :
المجهول / الفناء / الخطوات / الإحساس بالخوف .. امتزج الكل في رؤية كابوسية .. وبشكل ما سمح الأسلوب بهذا المزج .. لعله كان سيفشل في نص أخر ، ذلك الأسلوب الحر الذي اعتمد على التداعي ، مما سمح لنا بعد الفحص باكتشاف أصوات مختلفة : 
أولها : صوت الخوف .. ظهر واضحا جليا .. هذا الصوت الأخر ( الخوف ) المتضمن والغير معلن في النص يجسم صوتا أخر وهو الصوت الثاني أي صوت الموت .. انه صوت تخيلي ، لكن الأسلوب الحر سمح بتجسيده بشكل تخيلى،هذا التجسيد التخيلى ظهر واضحا جليا في عدة مقاطع :
(إنك تقترب فالممر المؤدى إلى حجرتى ليس طويلاً )
(ها أنت تدنو يلفك الوجوم .. آه أنفاسك بدأت تلفحنى )
(لازلت ساكناً ما الذى تفكر به وأنت تنظر إلىَّ يا ترى )
وهى مقاطع تكشف عن طبيعة الخوف من الموت ، والرعب منه ينكشف في المقاطع التالية :
(لساني كان يتلفظ عبارات الضراعة)
(آه يا إلهي أصابعي المشنجة كادت تتكسر وهى تتقلص بشدة فوق ضلوعى )
لا يظهر الموت أو يتجسم شكلا ، بل يتجسم الخوف ويتضخم داخل نفسية الشخصية ، يكشف كل ذلك عن صوت أخر موارى ، لكنه مسيطر .. وهو التمسك بالحياة ، و هناك مقطع دال :
((بل ما الزاد الذي أستطيع حمله قبل أن أصير ذراعيك)
قد يفسر ذلك بأن التمسك بالحياة يعنى التمسك بالملذات ، إذا فسرنا كلمة ( الزاد ) بتفسير مادي دنيوي .. لكنها قد تفسر أيضا ، بشكل روحاني وأخلاقي .. لقد ظل النص غامضا حيال هذه النقطة وهو ما أعطاه قيمته ، ثم إن خلفيه الشخصية ووضعها الأجتماعى لم تتوضح في النص .. وهو بذلك يطرح أسئلة :
- هل الرؤية الكابوسية نتاج خوف من ابتعاد عن ملذات الدنيا ؟
- أم خوف من فراق الأحبة والأقارب ؟ 
- أم خوف من المجهول ؟
- أم الخوف من الآخرة لأنه لم يستعد لها روحيا عبر تأدية فرائض دينه ؟
- أم خوف فعلى من عذاب الموت ؟
لم يهتم النص بالتفسير ، إن الغموض أعطى للنص بعدا جماليا .
ومع ذلك فقد يكون الكل مخادعا ، لأننا حاولنا تفسير النص بالظاهر منه ، فانقسام الشخصية ممكن ، و الرغبة فعلا في الموت والتخلص من الحياة أمر وارد .. لكن تلك الرغبة يقابلها رغبة أخرى وهى الرغبة في الحياة وبذلك يكون الصراع بين التمسك بالحياة وكراهيتها في نفس الوقت ظهر من خلال التداعي عبر لا وعى الشخصية .
وأمر أخر وارد أيضا : فالحلم بالموت قد لا يعنى الموت الفعلي المعروف ، والانتقال للحياة الآخرة ، بل قد يكون معبرا عن شيء أخر ، فقد يكون معبرا عن الخوف من السقوط اجتماعيا ،أو الضعف والفقر أو الوحدة ، وما يقترب من ذلك .

الإنبعاث في قصة (زانة) لـ حسن غريب
بقلم : السعيد موفقي 
كاتب وناقد جزائري
أحيانا الغموض يصنع متعة فنية في توصيف الذات و الإنشغال بها ، تعمد الكاتب حسن غريب في اختيار كثير من العبارات التي توحي بالوضوح ولكنها غارقة في ملابسات الصراع الداخلي الذي تحمله رواسب قديمة ، استذكر بطل القصة فيما تثيره كثير من معالم الحياة و تداخل المصالح الذاتية في ظل غياب أسباب موضوعية يتزن بها أو بالأحرى يدرك فراغات مكانية تتناوبها حيرة قديمة و تمسك لذيذ تتطعمه النفس في كل حالة يأس أو ثبور ((والدها يعمل فى بلد آخر ليدخر شيئاً لبقاء هذه الأرض 00 دفاتر تجار الحى الخاصة بالديوان امتلأت باسم أسرتها ، و هى تقوم بكل شئ تنظف البيت 0 تعمل فى المزرعة 00 تتعلم فى الثانوية و تحب و تنتظر بملء شوقها لحظة سيتحطم السد الزمنى الذى يفصلها عن بزوغ فجر السنة ))وكان لابد أن يختار الكاتب هذا الأسلوب لما له من توافقات عميقة في تجارب الذات مع مختلف عناصر المحيط الذي يعيش فيه ،وأحيانا يفرغ الكاتب بعض كوامن ذاته المكدسة في ذاكرته تنتظر الإنبعاث ، مادامت الحياة لم تستقر و لن تستقر عند حدود معينة ، و كلما كانت هناك فجوات في عمقه لجأ إلى الفيض الداخلي من مكبوتاته لعله يحرز ! المتعة المفقودة ، بعيدا عن كل الشراعات التي أحدثتها تناقضات الواقع و الهروب من المواجهة التي يعتقد بأثر السلبي في تحريف الذات ، و على الرغم إدراكه لتوجهه الحقيقي نحو المدينة التي كانت شغله الشاغل و ما تحدثه من تيارات كثيرا ما تأتي فجأة((القادمة التى ستأخذها إلى المدينة 00 فتكمل تعليمها و تراه كل يوم 00 حملت الفأس 00 غرسته فى التراب ثمة شئ يحول بينها و بين قدرتها على تجميع قواها 00 لكنها كانت تحس بالأمان 00 و هى تمزج بينهما 00 فحبيبها هو اللقمة التى ينتظرها أخواتها الصغار 00 هكذا الحياة يا ( زانة ) و لابد فى النهاية أن نصل إلى ما نريد 00 هو قال لها ذلك فاقتنعت بتلك الفكرة ثم طردت اليأس 00 لم تدر لِمَ سيطر عليها شئ نحو المدينة التى حلمت طويلاً أن تسكنها ؟ 00 )) ومع ذلك يظل جاهلا لحقيقة نفسه المبتورة و يستمر بحثه على امتداد انشغال الذات بهويتها و التنقيب عن كل مرتكزاتها الغارقة في أوهام العالم المتصارع ((تذكرت كلامه حين تحدثا بهذا الأمر 00 فى المدينة ( يا زانة ) يكاد الإنسان لا يعرف نفسه 00 إن حينا أأمن و بفارق كبير 00 لم توافقه وقتها رأيه 00 و لكن الآن عندما نظرت ! إلى كفها و رأت بعض قطرات الدم تتسلل عبر شقوقه أدركت تماماً معناه 00 إب تسمت عيناها قاسمتها إياه حبات العرق التى ولدت فى جبينها 00 و كبر حبها لأرضها و له فى تلك الساعات الجميلة 00 فصار الفأس يسرى فى أحشاء أرضها برتابة لم تعدها من قبل)) و كان بامكان الكاتب أن يتحفظ في مباشرة نفس بطله و وغله في تعقيدات الأسباب الروحية أكثر منها مادية ، و تعلق الذات بهذه المظاهر جعلها تتيه في مسارب الفقدان و بذلك خلق له و بينه و بين نفسه شتيتا من الأحلام التي لم يحققها إلا في أحلامه ، و الدليل شعوره بالفشل و الظلم هو البحث عن وسيلة لإعادة النظر في كل المعطيات التي كانت ذات يوم متنفسا ولو سلبيا في الخروج من المأزق الذي تسبب هو في رسمه و إحداثه (( 00 الطقس بدأ يحزن و كاد وجه السماء 00 كتلة كبيرة من السحاب غطت القسم الذى تعمل به 00 أحست بالخوف كاد خوفها أن يتحول لبكاء لولا أن سمعت صوت أمها : " هيا يا ( زانة ) أحضرت لكى الغداء " و على بساط من عشب بدأت الصفرة تشق عباب خضرته تتناول غذاءها 00 فتاة تعمل فى المزرعة 00 نظرت ( زانة ) إلى أمها خيل إليها إنها تلج داخل عينيها اللتين سرحتا تقلبان المزرعة لتلقى شجرة لم يشب خضارها 00 لم تعرف ما هى تلك الشجرة لك! نها أنشدت بكل ما تحمل من فضول إليها فتدلت منها ثمرة غربية و كبيرة لكنها مثيرة 00 مدت يديها 00))لأنّ كل الأحزان التي عاشها كانت نتيجة الشعور بالغربة و ابتعاث تلك الأحلام لم يكن من قبيل العبث بقدر ما يمثل الأمر بعدا عميقا في كيانه الداخلي و كذا شعوره بالعراقيل التي يحدثها محيطه لأسباب كثيرة لا يمكن السيطرة عليها و في داخله هشاشة و اهتزازات لم تستقر ((أرادت أن تقطفها فتسلل من خلفها سنجاب صغير يضحك 00 أحست بالأمان لرؤيته 00 إبتسمت له 00 قفز السنجاب إلى كتفها 00 شعرت بغباره الذى لامس خدها يضحكها 00 قفز إلى الأرض نظر إليها و سار يثب متسلقاً الشجرة 0 عرفت أنه يريدها أن تتبعه ففعلت 00 اختفت تلك الثمرة ولاح مكانها قصر كبير 0 وقف السنجاب أمام بابه و نظر إليها و ابتسم ثم دخل 00 دخلت وراءه فرأت سنجاباً آخر يحمل فى يده قلباً أخضراً )) و كان يأمل أن تجتمع لديه هذه الأسباب لو بعضها لأنّ العالم الذي توسطه لم يدرك منه إلا الظاهر القليل و لم يصل إلى الكثير الخفي ، و توظيف الكاتب لبعض مظاهر الطبيع و اعتمادم أسلوب المزج بين الطبيعة البعيدة و الطبيعة القريبة الممثلة في التآلف الذاتي بينه ! و بين ذلك التشابه ، تخلصا من كل المتعب التي تسببها له تصوراته أو ما يع تقد أنّه من وراء كل ذلك (( ، و يعلقه على الجدار الذى كاد أن يكون بياضه سحراً 00 صوب السنجاب بيده 00 لقد بدأت تفهم ما يريد انه يطلب منها أن تمشى لوحدها و كأنما انتهت مهمته 00 أطلقت رجليها بنشوة 00 فتح باب آخر 00 رأت من خلفه ظلاً يشبه ظله يحمل فى يده قطرات الدم التى تسللت من كفيها قبل قليل و يناولها لأبيها المسافر و يده الثانية تحضن أخويها الصغيرين قالت بفرح انتظارها : " إنه هو 00))، هل من الممكن أن تتحقق هذه الأحلام و التوفيق بينها و بين عالم الواقع قد يستغرق وقتا طويلا بل و تضحية كبيرة يعيش مرارتها قبل حلاوتها ، فالهروب إلى الذات لا يعني الفشل في كل الحالات قد يكون حلا إيجابيا في تصفية الذات و إبعاد أسباب الفشل و التعاسة حتى ولو كان بالعلاقات الإنسانية إذاكانت ضعيفة و ليست خيّرة و يذب الكاتب إلى أبعد من ذلك عندما يحاول التوفيق بين جميع المرتكزات التي تحقق السعادة و لو في الأحلام ،(( أرادت أن تركض إليه تحضنه و تقبله و تقول له " أنى أحبك " لكن أمها أغمضت عينيها ، فتدحرجت على خدها دمعة أحستها كالزجاج 0 هزت رأسها بحسرة 00 تمنت لبرهة لو أن لأمها عينين ك! البومة 00 تناولت رغيفاً 0 قسمته قسمين و قالت : " يبدو أن المطر يقترب يا أمى " سنذهب إلى البيت " 0)) وفي النهاية الصورة التي أراد الكاتب أن يتركها خلال هذه القصة على بساطة لغتها اللفظية فهي تحمل اللغة الإنسانية المعذبة التي يقوى عليها التشاؤم أكثرمن التفاؤل.
بالتوفيق

مظاهر الغربة في قصتي /احتضار و الشقاء فوق العادي 

للأستاذ حسن غريب

بقلم / السعيد موفقي (كاتب وناقد جزائري)
قرأت باهتمام ما كتبه الأستاذ حسن غريب في منتدى الخيمة و قد لفت انتباهي قصتان جميلتان ، (الشقاء فوق العادي ) فعلى الرغم من بساطة اللغة التي اختارها الكاتب فهي تحمل عمقا واضحا في عرض متاهات النفس محاولا سبر أغوارها في تفاعلها مع الواقع المتصادم ، (جاءتني متسللة عبر زجاج النافذة المكسورة .. باردة جداً ومنتفضة ، ترسل إليَّ بأطرافها فأشيح بوجهي عنها .. تتدلل تحيط بي ، صفعني صوتها . . 
- ممن تهرب ؟)فكانت البداية تحديد المشهد الذي يجعل القارئ يقف على ملابسات الحيرة و القلق و دفعه بلطف إلى تقريب الحقيقة و حصر أسباب الصراع الذي وقع فيه البطل أو السارد ، فكرة جميلة أن يقحم الكاتب ذاتيته بطريقة إيجابية تجعل القارئ يبحث عن الحقيقة و يزداد فضوله كلما امتد به الحدث كما فعل الكاتب هنا (ولا أستطيع .. - لن تفر .. لن تفر .. تردد الصوت فى جنبات المكان بينما جذبت جسدي إلى زاوية من الحجرة .. أقبلها وهي تزهو بملامحها البشعة ، واحتلالها لكل مساحة من الفراغ ، أغرقت الرأس فى هوة مظلمة بين ذراعي .. أطل منها الحلم شاحباً: 
(تحبني ؟ - هل ستبقى كثيراً هكذا ؟- قلها) تضاحكنا .. وساد صمت لفترة .)كانت الإجابة عن أول شؤال طُرح في المقدمة و لنقل أول حيرة تعجل هذه الإجابة المستكينة ، لم يكن الأمر بالسهل لتحديد طبيعة هذه الأشياء بهذ البساطة ، لأنّ الصور التي تراىكمت تراكمت دفعة واحدة وبحدة ، أمر قد لا يحتمل لكن الكاتب كان ذكيا في توظيف أفكاره و ترك المجال مفتوحا لتتعامل كل الأطراف مع المشاهد و تشجيع القارئ باعتباره طرفا أساس بتقديم وجهة نظره الفاعلة حتى ولو كانت ذاتية بعيدة نوعاما عن الموضوعية التي غابت في هذه الصور بفعل الضغوط التي مارستها التجربة و الذكرى و لم تترك له مجالا كافيا للتعبير عن أعماقه بتحرر و هو أمر مستبعد في ظل هذه التأثيرا التي تقتحم النفس عمقا و سطحا ، و يبقلى الدور الأساس دوما اللابحث عن الحقيقة أو بالأحرى البحث عن أجوبة مقنعة ( سنتقابل غداً .. أليس كذلك ؟ قالتها في قلق .. وبمثله نطقت : 
- آه 
- ما بكَ ؟ 
- لا شيء 
- تكذب 
- لا تشغلي بالك 
- صارحني 
- فقط …… سئمت .)
كل المؤشرات تؤكد استمرار المعناة و القلق من النهاية المفجعة ، حاول الكاتب ابعادها عن محيطه بتوظيف بدائل لكنها ليست قوية ، و ظل الفتور مخيما على جميع اىلمستويات و محاولة إقناع النس ولو بأبسط الأمور التي تهدئ من روعه و تحمله على سبل الاحتمال و التخلص من كل أسباب الحزن و البحث عن الدفء في الأحلام يكون أجدى منه في الأوهام الت يقد تتحول إلى مرض يصاب به البطل عادة تكرسه مؤثرات المحيط بمختلف سلبياته ، و هذا أحد أهم الأسباب التي تقف من وراء تلك الأسئلة المستمرة و الانشغال بعذابات اىلنفس الممزقة ، المستسلمة لكل أنواع الأشباح المرعبة التي تطل من نافذته التي قد لا تكون نافذة واقعية و إنما شرخ غميق في نفسه يراوده و يتلاعب به في شتى النواح كلما استسلم لأوهامه (أردت أن أفعل .. طاردني شبح الهزيمة .. انتزعني منها .. ابتعدت ، نادت : 

سأنتظرك .. غصت فى بحر الرؤوس والأحجار ، والحديد ، انحدرت على ذات الطريق العفن .. هبط الدرج الهارب من الضوء .. دفعت الباب .. داعبتني أشعة خافتة .. متكوماً فى ركن الحجرة الرطب .. حين توغل الليل هاجمتنى مرة أخرى .. باردة جداً .. حاولت تثبيت أوراق الكارتون التى سقطت .. فى فراغ الزجاج المهشم ـــ لم يمنعها ذلك) : صبية الحي الملاعين لا يتركون شيئاً فى مكانه ، سأريهم (.. مرتجفاً سحبت كل الأغطية .. سددت بها كل الثقوب والفتحات)، أليس من المنطقي أن ترتاح النفس لكل حركة منافية للسكون و ما هذه الأشباح التي تزوره إلا رواسب و منعرجات استهوت النفس و سيطرت على مرتكزاتها الأساسية و حلت محلها لتحول مسارها إلى انعطاف في الذات و تغيير في الاتجاه و التقليل من حجم الاطمئنان ، فليس للاستقرار أي مكان في ظل هذه الأجواء المشحونة بالارتباكات و الهزات ، و الثبات في مثل هذه التغيرات لا يغير الأشياء قد يعطي لبعضها مظاهرة سالبة لطبيعة النفس و يدفعها إلى متاهات أخرى تستغرق وقتا طويلا و يصبح المرض مزمنا (ضحكت .. احتدت ثورتها انفجرت ضاحكاً

ومع الدفء الذي بدأ يملؤني أحسستها ترحل .. من ثقب الباب . فوق السرير .. هادئاً قبلت الصورة التي تركتها حبيبتي حين تقابلنا منذ سنوات مضت .. ودعتها في نشوة المنتصر أطحت بها بعيداً .. وكدت أن أبكي .)فالسعادة التي يبحث عنها حتى ولو افتعلها في ظاهرها فلا يمكنها أن تغير ما بداخله مادامت أسباب الشقاء متجذرة في عمقه .
و يطرح الكاتب من وجهة نظر أخرى صوورة للحياة التي يعانيها عادة الانسان و هذه اىلمرة يكشف الكاتب عن جملة من الحقائق في قصته الثانية (احتضار) لماذا هذا العنوان ؟ هذه مرحلة من مراحل انتقال الانسان من عالم إلى عالم آخر ، و صورة معبرة بقوة عن قلق النفس و حيرتها من المستقبل المجهول ، و عادة تطرح الأسئلة في هذا المقام و يكثر حولها الاجتها و المجتهدون ، بين متفائل و منشائم ، و في الحقيقة هذه هي طبيعة الانسان القلق (للمرة الأولى نجلس معاً، غريبان ضمهما الوجود.. السنون التي مضت قيدتها الأحزان بالسلاسل.. لم يكن هناك ما نتحدث فيه.. الصمت هو الذي احتل الوقت بيننا واحتل المكان، لم يبق مجال للبكاء.. عيناها المشعتان بضياء قديم انطفأتا حين أهطلت أمطار الروح، للمرة الأولى نجلس معاً في كوخ يبتعد في المسافة أميالاً عن الهمس وعن الكلام المفخخ، الكوخ في الغابة، )الشعور بالغربة و افتعال الأنس من وحي الخيال إبعادا لكل أسباب التعاسة ، و أحيانا
اختلاق محيط من عالم قد لا يكون موجودا بمعالم طبيعية كما يعيشها في حياته الطبيعية (سألت نفسي كثيراً لماذا هذه هناك الكثير لماذا هي؟ حاولت التخلص من عبء الوهم ولكن الجرح كان يكبر ولا يلتئم.) و في الحقيقة ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها بمن يطمئن إليه أو كما يتصور ذلك ، كل ما في الأمر الاستسلام لكل الشوارد الحاضرة منها و الغائبة و افتعال هذا العالم من باب الاستئناس بكائناته الأيفة في نظره ، و نحن نتساءل بدورنا ، لماذا ؟ لأنّه افتقد ذلط فعلا في عالمه الطبيعي ووجد حركته اصطناعية مبنية على التغير المفاجئ ، و الصد عن كل ممل في اعتقاده و التمسك الجديد حتى ولو كان قديما مادمت النفس ترضى به و تطمئن إليه ، و لذا الذكريات في كثير من المناسبات تلعب دور البديل في عملية التغيير لمكونات النفس و جعلها تستقر على الأقوى المفقود (العيون تسأل وتذهب بعيداً في السؤال.. انظر إلى العينين الشمس تشع من ظلمة تفوح منهما رائحة الحزن والإحتراق والنار تلتهم أخشاب الروح. )، إنّه الصراع المستمر ، للروح فيه دور فعال في اسقرار النفس و مواساتها لا يمكن أن يكون من هذا العدم المجهول مادام التأثير قويا و النفس مقهورة مستسلمة ، قد يعني هذا الاستسلام تعايشا لا يحتمله إلا المقاوم بذاته ، الذي يفسر الأشياء على حقيقتها و طبيعتها ، و يربطها بموازينها الحقيقية بعيدا عن الأوهام رابطا أحلامه بما يمكن أن يقدم له حلولا منطقية و واقعية (الزجاج ينكسر في لغة الدهشة واقتلاعي من مرامي.. أمضي بغير صمت وبكل إنكساري.. ألتفت إلى الزجاج.. عينين من الماضي بحزن يكتمن في كل شيء تلاحقني. )فصفة الثبات موكولة بقابلية التغير و هشاشة الموقف و ضعف النفس ، جملة من المرتكزات التي إذا لم تتوافر عليها الذات و الروح و النفس ، ذهبت كل المواقف أدراج الرياح و يغيب الحلم و ينتهي كل شيئ معها ، 
(وفي الكوخ نجلس معاً وحيدين.. الجسدان خُرقٌ بالية، والعيون المسمرة في الجمر.. كل شيء يشتعل.. إلا نحن باردين كنا.. صامتين.. مهزومين )، حتى مجرد الشعور بالهزيمة قد يفقد الإرادة و يغلق كل أبواب الأمل و يترك الأمور في شتات .و بالتالي الاغتراب الذي يعيشه و لو بينه و بين نفسه يظل جاثما ملم تتغير دواخله و يسيطر على أسباب الهزيمة و اى لخروج من غربته على أمل سعادته من سعادة الآخرين


الذات و الموضوع / واقعية السرد و انكسار الحلم



قراءة فى مجموعة " الإنحدار إلى أعلى " 

للأديب /حسن غريب أحمد

بقلم : حاتم عبدالهادي السيد

شاعر وناقد مصري

________________________________________________



تمثل مجموعة الإنحدار إلى أعلى أنموذجا متميزاً فى عالم القصة ، لما تتمتع به من مزج الحلم بالواقع ، و الملهاة بالمأساة ، و الموج الجيد بين الأجناس الأدبية : المسرح ، الرواية ، الشعر 00 و مزج كل ذلك بالتيارات الحداثية فأخرج لنا عملاً ابداعيا مختلفاً 00 و هو – فى اعتقادى – سمة تميزه عن غيره ، و المجموعة تضم أربعة عشر قصة تمزج بين الواقع والحلم و قضايا الواقع الحياتية 0 

كما يتميز السرد بشفافية التناول و اعتماده على التراكم النغمى لزخم المفردة ذات الفونيم الصوتى الحالم ، كل ذلك فى اطار عالم مغلف بأحلام رومانسية لشاب يعيش الواقع و همومه 00 فنراه يتحدث عن المجتمعات الفقيرة وما يصاحبها من قضايا الفقر و الحرمان و سوف نتناول بالدراسة عدة محاور متباينة و كل محور يجمع بين طياته العديد من القضايا المختلفة منها : 

1- واقعية السرد و قضايا مجتمعية 

2- الحب و الموت و صراع الذات 

3- علاقة الذات بالموضوع 

4- الجمال و فلسفة المشهد السردى 

و مع تباين تلك المحاور إلا انها تضم فى مجملها اطارا من العلاقات المتشابكة مما يصعب الفصل بينهما 

أولا : واقعية السرد و قضايا المجتمع : 
يحاول الكاتب فى مجموعته التعرض للقضايا التى تمس المجتمع ففى قصته " انتقام الزمن الردئ " يحاول أن يهرب من بوابة الفقر إلى الذات المهزومة للطالب الفقير فى مجتمع الجامعة : " تبوأ ركنا قصيا و كانه أراد أن يتوارى عن انظار الطلبة و الطالبات ، يلوذ منهم فراراً حتى لا تكويه نظراتهم الطاعنة لثيابه الرثة 00 سوسن الطالبة الثرية تجلس أمامه ، يتمايل عليها حشد من صويحباتها ، يتبادلن فى دلال أنثوى مجموعة من الصور 00 خطيبك شيك جداً ، بدلته غاية فىالشياكة " 00 فهو هنا – قد انتقل بنا من قضية الفقر المادى إلى قضية الطبقية ، فالمجتمع الرأسمالى الذى تمثله " سوسن " و الطبقة البرولتيارية المتمثلة فى شخص الطالب تجعلنا نقارن و ندرك مدى التفاوت الطبقى فى الجوهر و كذلك فى المظهر : " الثياب الرثة " ، " البدلة الشياكة " ثم يتعرض للعديد من القضايا مثل : قضايا الايجار و علاقة المؤجر و المستأجر ، مستوى الأسرة المنخفض مادياً ، المعاناة من القوت اليومى و التعامل مع البقال و الجزار وبالأجل و غيرها من القضايا التى يتعرض لها الفرد فى المجتمع الفقير 00 إن واقعية السرد تتبدى فى عفوية الأسلوب و بساطته و مدى تعبيره بصدق عن الحدث لذا يكثر من استخدام أفعال المضارعة : " يقترب من بيته ، يدفعه فضوله للإقتراب ، يرى والده بين يدى المعلم حسان ، يهزه بعنف ، يعض على نواجذه ألما و حسرة ، يهرع إلى البيت ، يدفع باب الشقة الإبداعى : صورة و تكوينا و ايحاء بالمعنى و رصد ذلك كله فى نسيج لغوى يتمثل فى " تيار الوعى " الذى يحاول الكاتب أن يؤطر له من خلال منظور تخيلي موشى بذاتية غائبة / حاضرة لأزمات النفس مع الاتكاء على المكان و الزمان فى إنسيابية ، و لكن الاحباط الداخلى نتج عن تخلخل العلاقة بين الذات و الموضوع فوجدنا اللغة مباشرة و التراكيب مجملها تراثية فالفن هنا له وظيفة اجتماعية و تنويرية معا ، و لذلك جنحت عناوين قصصه إلى المباشرة مثل : " تداعيات إشكالية – وجه ملائكى – عفوا حبيبتى إنه القدر – إنها حقا جميلة و لكن – زهرة شبابى – وقوع الكارثة – المكتوب على الجبين – قبلة حب – الطابور " و فى رأيى – أن هذا النوع من القصص يتسم بالسطحية و الاستطراد فى الوصف السردى للحدث و يوقع الكاتب فى أخطاء المباشرة مما يجعله يستخدم الصور التقليدية و الجمل المتكررة ، كما يغفل جانب الخيال ، مع انه يقصرنا على المألوف و الحياتى اليومى دونما تجديد ، و أحسب ان الكاتب فى غفلة من ذلك نظراً لتبادل الأدوار فقد وضع نفسه - نتيجة اندماجه فى السرد – مكان البطل فوقع فى الذاتية المغرقة و أغفل الموضوعية التى يتحلى بها نتيجة للدور المتبادل بينه و بين هذه الشخصية للبطل 0 

اى ان إغراق الكاتب فى الفردية – الذاتية – قد احدث توحداً بين زمن الفعل و الحدث و الكتابة فى مثلث اكتملت أضلاعه ، و لقد توحد أسلوب القص فى وحدة زمانية و مكانية مترابطة نتيجة لهذا الإحلال الإندماجى بين الراوى و البطل 0 

ثانيا : الجمال و فلسفة المشهد السردى : 

تبدو العلاقة أكثر تكاملاً و اتساقا بين جماليات الصياغة و فلسفة السرد مما يعطينا مشهداً بصريا أكثر تأزراً ، كما ان نمطية الحركة الحوارية و إنسيابية الحوار يدلان على ثقافة الكاتب و فلسفته و نرى ذلك متجليا فى قصته 0 

" قبلة حب " : " صدقنى الحب شئ من الصداقة 0 و الصداقة هى كل الحب 00 الحب قمة الأنانية 00 قاطعها بنظرة حانية : الحب هو العطاء 00 الإزدواجية 00 هو ألد أعداء الأنا 00 هم بأن يقبلها بين عينيها أشاحت بوجهها و صاحت غاضبة : أرأيت الحب تبادل قبلات 00 و الصداقة تبادل أفكار و عواطف سامية 

كما نلمح فى قصته " شبح سعد " ملامح الكاتب الذاتية مجردة من العواطف و الحب : " أدرك أننى لا أحتمل بقاء طفل بين يدى أو على كتفى دقائق حتى من باب المجاملة لوالديه " و هنا تتجلى الشخصية عارية و تكشف عن نفسها و لذلك نراه يحب إبنه أخيه الصغيرة أسماء و يقبلها و يحتضنها لا لشئ و إنما لأنها تشبه حبيبته ومع أنه لا يحتمل الأطفال إلا أنه يجلس مع هذه البنت و يلاعبها فالهدف هنا ليس العطف و إنما ليرى فيها حبيبته الغائبة 0 

بقدمه ، يرتمى على سريره المتهالك ، يتهادى إلى مسامعه صوت أخيه : عم حنفى مش عايز يدينى العيش و الحلاوة على النوتة ، كما نلاحظ واقعية التعبير و بساطته و عمقه فى التعبير عن البيئة المعاشة 

ثالثا : الحب و الموت و صراع الذات : 

يأخذنا الكاتب إلى الموت الحقيقي فى قصصه : " إعتراف – الإنحدار إلى أعلى – القدر المحتوم " و الموت عنده يأخذ منحنى جديداً ، فليس الموت موت الجسد فحسب ، بل الموت موت الروح و فقدان الذات و الضمير ، و الحب – عند كاتبنا – هو المقدمة الأولى التى تستدرجه للصراع النفسي ومن ثم نهايته : " ليلة العرس اتضح لى أننى أكبر مغفل 00 فلقد كانت فاقدة بكارتها " و تتجلى هذه المأساة فى انتقاله من حالة السعادة المتمثلة فى حلمه بالزواج إلى كابوس مزعج يلاحقه ؛ إنه موت نفسي للذات الحالة 0 

و يتجلى الموت بعد ذلك فى قصته " الإنحدار إلى أعلى " التى تحمل اسم المجموعة – بالقتل و الندم و تأنيب الضمير فرأينا حمدان يقتل شقيقته و يندم و يلاحقه ضميره الذى يؤنبه : " حمدان ما الذى دهاك " الليل أمامك و لا أرى خلفك غير صحراء واسعة مليئة بالعواصف و الضباب 00 لا يمكن أن تكون قطعة جليد تحارب خيوط الشمس الحارقة " و نراه فى " القدر المحتوم "" ينظر متأملاًُ ذلك العجوز الذى يخرج مبكراً ليشترى جريدة الصباح ، ثم نرى التحول السريع إذ تصدم العجوز سيارة مسرعة فيموت و لا يجد امامه ما يغطى به الجثة سوى جريدة الصباح ، إن الموت عند كاتبنا لا يأتى إلا مع الحلم ، فحلم الفتى فى الزواج تقابله صدمة فقد العذرية ؛ و حلم حمدان فى جمع المال تقابله صدمة قتل شقيقته و حلم العجوز تقابله صدمه السيارة ، فترى الحب ممزوجا بالصراع مع الذات و الذى يؤدى فى النهاية إلى الموت 0 




و على الرغم من الجانب الفانتازى المتجلى فى واقعية السرد إلا إننا نلمح تضافر عناصر فنية ثرية كالحلم و الغربة و الحوار الغنى بالمفردات ذات الجرس المتناغم علاوة على الاهتمام بسيكولوجية المعنى المتمثلة فى محاولة إنسلاخ الذات من هموم الواقع توقاً للتحرر و الحرية و لو جاء الموت محققا لهذه الأمنيات الذاتية 0 



رابعاً : علاقة الذات بالموضوع : - 

إن حميمية العلاقة بين الذات و الموضوع تتجلى – على مهل فى مناطق كثيرة و ربما يحتد الصراع بينهما ، فالذات تمثل الفكر و الوجدان بينما الموضوع يحيلنا للواقع و متغيراته المادية و المعنوية ، و يتجلى ذلك فى التشكيل الفنى للعمل و فى قصته " شبح سعد " يتناول موضوعا غير مطروق كثيرا ً فى الأدب و هو تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان و الحيوان بين أسماء و خروفها الذى أسمته سعداً و التى تداعبه كل يوم و تعتليه و تقدم له الطعام و كانت الصدمة فى ذبح سعد يوم العيد : " استيقظت أسماء يوم العيد فلم تسمع له صوتا ، أخذت تفتش عنه فى كل الحجرات و تصرخ فى وجهى أين سعد ؟ أين خروفى يا خال ؟ " 

إن هذا الموقف المؤثر يجعلنا نفيق إلى الصدمة التى تعرضت لها الصغيرة التى سببت لها مشكلة بعد ذلك فى هروبها كل عيد إلى بيت عمها و تظل تبكى و كلما آتى خالها تسأله أين سعد يا خال ؟ و نرى عقدة الذنب و تحول المشكلة فمنذ أن ذبح الخروف و هو يؤنب نفسه و لا يأكل اللحم فإذا راى لحما فإنه يتقيأ و يهرب و يتذكر سؤال الصغيرة فيترك البيت إلى بيت عمه ، أحس الجميع بالمشكلة و أمسكوا بالخال و غمسوا يديه فى دماء خروف العيد و جاء أحد الشيوخ و قرأ عليه آيات القرآن و همس فى أذنه بكلام كثير و بعد مدة آفاق الخال و نراه يطلب اللحم بنفسه : " أخذا أفتش عن جدتى و أطلب منها بإلحاح نصيبي من لحم سعد و

أضحك وجدتى تمد يدها فى القدر و تدعو لمولانا : " ومازلت اهضم و أضحك ومازالت الصغيرة أسماء تسألنى و تصرخ و أنا لا أستطيع الجواب و لا أجرؤ على قتل حبيبتى أسماء " 
إنها قصة تحمل فى طياتها أنبل معانى البراءة الإنسانية و تدل على مدى شفافية الحب و الوفاء 00 إنها عاطفة سامية نجح الكاتب حسن غريب أحمد فى أن يصورها لنا فى ثوب جميل رائع 0 

لقد نجح كاتبنا حسن غريب أحمد فى خلق فضاءات جديدة للقصة و إن أعتمد على الواقعية إلا أنه اتكأ على هموم العصر فعزف عليها اوتاره و نقلها لنا بصورة فنية رائعة ، مما تجعلنا نعيد النظر إلى الواقعية بصورة أكثر جدية وثقة فى قدرة الكاتب على خلق عالم جديد قوامه الحب والجمال 0 


انتهت 


الفن الرؤيوي وجمالية السرد في رواية
حنظل الشمال
للروائي /حسن غريب أحمد
بقلم : فؤاد حجازي
روائي وناقد مصري
الأعمال الأدبية التى تدور حول الإنسان المصري فى الأماكن المنعزلة البعيدة عن الوادى تثرى الأدب المصري و العربي بوجه عام ، و تنفى العزلة عن تلك البيئات عندما يزيد وعينا بالإنسان النوبى كما فى أعمال محمد خليل قاسم و حجاج أدول و يحيي مختار 

و غيرهم ، و بإنسان أسوان كما فى أعمال عبد الوهاب الأسواني و أحمد أبو خنيجر و غيرهم 000 و ها هى رواية ( حنظل الشمال ) لــ ( حسن غريب ) تأتينا من سيناء 00 نافية عن إنسانها غربته ، و عن بيئتها عزلتها ، و مضيفة لوعينا الإنساني مزيداً من الإحساس بالجمال و البراءة 0 


تدور أغلب حوادث الرواية فى قرية الضهيرية مركز الشيخ زويد ، فنجد أن القرية لا تختلف عن قري الوادى فى هذا الوقت من حيث استغلال الباشا ( الإقطاعى ) هو الحقيقة الملك الكبير فلم تعرف مصر الإطاع بالمعنى الأوربى، وهو ملكية الإقطاعى للأرض و من عليها ونجد أن هذا الباشا00يستغل أهل القرية و يستبيح نسائهم 0

و بالطبع يقاومه أهل القرية ، فينجحون ناجحاً باهتاً ، قبالة من تسنده الشرطة و السلطة 0 و الزمن فى الرواية ، يكاد يكون إسطورياً ، لولا إشارة عن الصول { سمعان } أنه يرتدى ( بالطو ) هدية جمال عبد الناصر ، فنعلم إننا نعيش فى عهد ، غير ببعيد عنه و إشارة أخرى ، قرب نهاية الرواية تتحدث عن الإصلاح الزراعى الذى حد من الملكية فى القرية ، و بالتالى بدأ الناس بعد أن تحرروا من ذل العيش عن المالك الكبير ، ينزعون للتحرر المعيشي و الاجتماعى 0 

و الجنس فى الرواية ، موظف بحيث يخدم مضمونها ، براءة الإنسان السيناوي ، و مدى شعوره بالقهر و كذا معمقاً للدلالة الجمالية فالكاتب يستخدم اللهجة السيناوى التى تسمى عضو الذكورة { الإحليل } و لاحظ اشتقاق اللفظ من الحلال 000 أى أن الجنس حلال للمرأة أو أنه الشىء الطبيعي ، لذلك لا نستهجن أو نندهش من سؤال سلمى عن ماهية الجنس ورد الخالة بكلمات صريحة نستشف منها أن الأمر عادي ، و نستشف مدى براءة ( رابحة ) التى لا تؤهلها البيئة أو الثقافة أن تعرف شيئاً عن هذا الأمر و يجعلنا هذا بين مدى بشاعة أن يغتصبها الباشا فيما بعد 00 أى يختال البراءة 00 و نعلم مدى المأساة أن تدفع ثمن براءتها فيقتلها أبوها وهو يعلم إنها بريئة 00 بل لقد ساهم بتواطؤ خفى بتركه لها تعمل عند الباشا وهو يعلم عنه ما يعلم من سوء فى السلوك والسمعة حيال الفتيات والنساء وهو ما لم نكن نحبه للأب ، فقد كان عليه أن يقاوم قليلاً أو يؤنب نفسه أو يلومها قبل أن يدفع بابنته بسهولة لتعمل عند الباشا لقاء مائة جنيه فى الشهر وهو مبلغ كبير فى هذا الوقت كان حرياً به أن يجعله يتساءل لماذا يدفع الباشا مبلغاً كهذا وهو لم يعرف عنه الرفق بالفقراء إن لم يكن من أجل غرض فى نفسه 0

ويستمر الجنس محركاً للأحداث فى هذه الرواية ، سواء عن طريق العلاقات المحرمة أو العلاقات المشروعة كالحب والزواج وليست 

مصادفة أن يستخدم الكاتب لفظ " الإفرنج " لعضو الأنوثة فليس اللفظ تحريفاً لكلمة " الفرج " الفصحى بمعنى الفتحة او الشق بقدر ما هو للدلالة على الفرج 00 أى التفريج بعد أزمة أو شدة أو ليس الجنس فى بيئة مغلقة لا ترى فيها النساء الرجال بشكل طبيعى أو يتلاقون بشكل عادى سوى أزمة تبحث عن الفرج سواء فى العلاقات المشروعة أو غيرها 00فها هى الخالة " سعدية " تفك أزمة مصطفى الموظف الوافد من الوادى للعمل فى سيناء ، وفى الوقت نفسه تساعده فى الزواج من " معزوزة " لاحظ الاسم 00 من العزة وما تومئ إليه نهاية الرواية من زواج مصطفى ابن الوادى 00 من العزة 00 بنت سيناء ونفى عزلتها 00 ومن جهة أخرى ، إيذاناً أو بدء عهد جديد 00 انتهى فيه الخوف من أبناء الوادى وعدم انغلاق القبائل على نفسها وزوال الحذر من الوافدين إلى الوداى سواء بسبب أفعال بعضهم الفاضحة كسرقة أحدهم لمصاغ عروسه والهرب ، أم للتقاليد البالية لانغلاق القبيلة على نفسها وعدم المصاهرة من خارجها ، وما يعنيه هذا من الدوران فى حلقة مفرغة وعدم إضافة دماء جديدة وعادات جديدة وبالتالى خلق إنسان جديد أكثر ذكاء وأكثر وعياً ، والأهم من ذلك ، ميلاد جديد لسيناء ، ولابن سيناء ينهى عزلتها ويجعل احتلالها من قبل أى عدو خارجى كالصهاينة مثلاً غير قابل للتكرار 0
ويستمر الروائى " حسن غريب " وبصورة رائعة العزف على وتر الجنس فها هو " حسان " ابن الشيخ " جمعة " وريث الباشا بعد أن كان يعمل عنده دلالة على المستغلين الجدد بعد أن قُلمت بعض الشىء أظافر الملاك الكبار وهو سليل لصوص وأوباش 00 لكنه أصبح " رئيس القرية الجديد " ليواصل ما كان يفعله سلفه من اضطهاد وقهر طبقىٍ ، وإن يكن تحت مسميات جديدة " رئيس القرية " وها هو ابنه رسمياً وفعلياً هو ابن الباشا ، لاغتصابه لأمه قبل الزواج من الشيخ " جمعة " أى أنه استمرار جينى لما كان يحمله الباشا من رغبة فى التسلط والاغتصاب 00 

ولكن الأيام والتطور يفعلان فعلهما وها هو الحب يخفف من غلواء " حسان " يبعده عن التجاوز فى حق الناس ويحصر همه فى التعلق بـ " هيام " النورية أو الغجرية 00 ويهرب معها ليحقق ذاته فى حبها بعد أن رفض أبو الزواج منها متمسكاً بما يليق ، وما لا يليق ، وهو اللص والقواد السابق 00 لكن النورية وقد هربت من " حسان " 00 والتقت ببنى جلدتها فى مكان آخر ناحية بلبيس 00 تطمع فى مال " حسان " وتحن إلى بنى جلدتها 00 إشارة إلى أن التطور لم يعمل عمله معها ، ومع قومها ، المستسلبين دوماً وإشارة إلى أنه لابد من القضاء على سليل الباشا " حسان " 00 ربيب الشيخ " جمعة " أيضاً 00 فيقتل " حسان " 00 " لكن " هيام " لا تنجو بفعلتها فيلاحقها الشيخ " جمعة " حتى يقضى عليها وعلى من عاونها 00 أى يفتك الشر ببعضه بعضاً ولابد من تطهير البيئة حتى ينمو النبت الجديد 00 حب معزوزة 00 التى بدا أنها تتخلص من ميراث أبيها " الشيخ جمعة " فهى لا ذنب لها فيما اقترفه 00 فهى المولودة فى سيناء بنت البيئة الجديدة والتى تزداد حدة كل يوم بعد تحريرها من ربقة المالك الكبير وبعد تحريرها من دنس الاحتلال الإسرائيلى وقدوم الشباب من واد النيل للعمل بها 00

تقنيات 

ولقد وفق الكاتب " فى تقديم جو روايته وتقديم شخصياته بحيواتهم البسيطة وأمالهم المتعلقة فى الانعتاق من قهر الحاجة والتحقق فى الحب 00تزيد قليلاً 00 عندما جنح "حسان " و "هيام " إلى السويس أو معاشرة " هيام " 

لولد سويسى من مدمنى المخدرات فلم يقدم هذا جديداً لجو الرواية يدفع أحداثها وكذا لم يعمق أو يقودنا إلى منحى فى شخصيتى " حسان وهيام " لم تكن نعرفه من قبل كما قدم سائق الباشا ابنته " زينة " بسهولة إلى الباشا وكأنه لا يعرف ماذا يحل بها 00 وكان أخرى به أحرى به أ، يصطنع الحيلة من أجل تقديمها إليه0

كما لجأ الكتب إلى القص المباشر المنبئ لصفات الشخصيات وأطفالها وكان بإمكانه أن يلجأ للمواربة فى الدفع بالصفات 00 والاستطراد الناجم من تدافع الأحداث وكان فى إمكانه أن يحد من المبالغة فى تصوير فظاظة أبناء الوادى فهاهى أم ترى ابنتها تمارس الجنس فتقول لها " قومى يا بنت الكب لما أخذ دورى أنا بأه " وألا يعتمد على المروى 00 وأغلبه تشنيع وبهتان 00وأن يعتمد على ما يجده هو وما هو متأكد منه ، ولا يعتمد على السماع 000وكان الكاتب موفقاً عندما لم يعتمد على الشعار ووصف بنات سيناء بالقشف ورائحة العرق المنفرة طبعاً بسبب حياتهن البائسة 0

واخُتتمت الرواية بمقطع " دوام الحال من المحال " على طريقة القص الشعبى 00 يحدث فيه سيادة التألف والتعاون بين الناس والترحاب من نساء سيناء ورجالها للزواج بأبناء وبنات الوادى 00 لم يكن هناك داع لهذا المقطع 00 وقد أنبأت الرواية بذلك فعلاً ، بل إن ما صارت إليه حوادثها أخبرت أنها أى سيناء وأبناءها لم يعودا حنظل الشمال 00 بل هما معزوزة الوادى والشمال معاً 0 


موسيقا من الشمال

الأدب و المجتمع

( دلالات فنية و موضوعية )

قراءة فى مجموعة : " امرأة تعزف على الأسلاك الشائكة "

للأديب / حسن غريب احمد 

بقلم : هيام محمد علي 

كاتبة وناقدة سورية 

ثمة موسيقا من الشمال تعزف الآن ، يمسك بأوتارها شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره ، يطالعنا كل حين بقصة جديدة تحمل دلالات و مضامين مختلفة لتطلعنا على صور الحياة بمختلف ألوانها ، يأخذنا عالم حسن غريب إلى آفاق أكثر رحابة ، و إلى فضاءات متشعبة و متناغمة كأنك تفتح كتاب البحر لتقرأ عن عالم ملئ بالصخب و بالهدوء ، بالتعاسة و الهناء ، بالحزن و الفرح ، و هذه الثنائية تغلفها موسيقا حزينة متناغمة تصل إلى الروح من أقرب طريق ، فنراه يربط بين أجزاء النسق فى صورة كلية عامة ثم ينتقل بنا إلى جزيئات الموضوع ، من الكلى إلى الجزئي ، ومن العام إلى الخاص بأسلوب سلس ، ممتع و هادئ بعيداً عن التشكيلات اللغوية المعضلة ، و التركيبات الأسلوبية المعقدة ، فكأنك تقرأ لوحة تشكيلية لغوية بسيطة فى التناول لكنها ثرية فى الموضوع و بالتالى فإن الأحداث تتنامى تدريجياً لتصل إلى ذروتها مما يجعلنا نعيد النظر إلى الرومانسية بصورة مختلفة مقارنة بالمدارس الحداثية كالتركيبية و التكعيبية و التفتيتية و السلوكية و الشكلية و الأنجلو أمريكية بالإضافة لللمدارس القديمة التى اهتمت بالفلكلور و الأسطورة كالمدرسة الميتولوجية و الإنثوجرافية و الوضعية ومع التقاء جوهر هذه المدارس بل و انبثاق بعضها عن الرومانسية إلا إننا نلمح جنوح كاتبنا إلى مدرستين بعينهما و اعنى الواقعية و الرومانسية ، و هو هنا يمزج الواقع بالحلم و العقل بالوجدان و يأخذ من كل جانب بطرف ومن كل طرف بخيط و يشكل ذلك كله بأسلوب بسيط تلقائى عفوى لا تشوبه معضلات و لا تغلفه رموز لذا خرجت قصصه بسيطة فى أسلوبها ، قوية فى بنائها ، مما يذكرنا بتيار الوعى و الذات الحالمة و العودة إلى الموروث الغنى بالأحداث و التفصيلات ومع انه يجنح إلى ما هو ذاتى خاص إلا أن هذا الخاص يقودنا إلى الموضوعى العام و نلمح ذلك من خلال النسيج اللغوى المتشابك فى معظم قصصه كما نلمح قدرة الكاتب على التشكيل و التشخيص و التجسيد و على إجراء التغير و التحريك فى الحدث و الشخصية من خلال تناوله للموضوع بصورة أكثر شمولية و اتساعاً و أعنى بذلك تنامى الحدث تدريجياً ثم صعوده و هبوطه المفاجئ ثم العودة إلى الهدوء التدريجي من خلال الأحداث و المعالجة للموضوع و على رسم الجو العام سواء أكان اجتماعيا أو نفسياً و اتكاءه على الفنون و استفادته منها : كالفن التشكيلي ، و الشعر و المونتاج ، و الموسيقا 0 وكاتبنا حريص على الإستعانة بالحياتى المعاش من طقوس يومية و ذكريات شخصية ، و شخصيات نمطية و حكايات شعبية ، و تشكيلات جمالية تحمل طابع المفارقات و التعارض الثنائي كما يعتمد على لوازم أسلوبية و تركيبية تنتشر فى ثنايا قصصه 0 


و فى قصته " امرأة تعزف على الأسلاك الشائكة " و التى تحمل اسم المجموعة يحاول الكاتب ان يوظف الإضطرابات النفسية التى تعانى منها المرأة التى لا تنجب و تخشى ذهاب جمالها ، و انصراف زوجها عنها إلى أخرى تقاسمها زوجها ، و كذلك حرمانها من أجمل شئ فى الحياة ألا و هو الأمومة : " ثمة كآبة تدخل صدرها ، ضجيج البحث يسرى بنبض متسارع ، متاهات لا حصر لها ، تضع تفكيرها أمام خيارات مجنونة ، إن لم أنجب سيتزوج علىَّ ، ستكون لى ضرة ، سأحرم من كلمة " ماما " ربما يطلقنى " و هذا الاضطراب النفسى يجعلها فى أزمة و حيرة فتصاب بالوهن و الخوف من المستقبل و لكنها لا تدرى ماذا تفعل ، فهى كالتى سقطت من مركب فى البحر ، تصاب بالهلع و تتعلق بقشة أو قطعة أملاً فى النجاة ، و يأتيها الأمل فى نصيحة جارتها للذهاب لأحد المشعوذين يقال له الشيخ أبو سالم : " الراجل مجرب و بيخاف ربنا ، كل نسوان المنطقة بيروحوا عنده ، بيفك العقده ، و بيزيد المحبة ، و بيكشف المستخبى شغلانة مش هتكلفك أكثر من ألف جنيه " ومع اقتناع المرأة بأنه مشعوذ إلا أن التعلق بالأمل يجعلها تذهب صاغرة و تنفق المال فى سبيل تحقيق هذا الأمل و تمضى الأيام و تكشف كذب الدجال مرة أخرى فلن تتحقق رغبتها وفقدت المال كما فقدت الأمل فى الأمومة ، إن هذه المفارقة النفسية و حالات من الحزن إلى الأمل إلى الفرح ثم إلى الحزن مرة أخرى تجعلنا نشعر بمدى المعاناة التى عانتها فقد تنامى الحدث ووصل ذروته و لكنه عاد و تبدد و رجع إلىالحالة الأولى من جديد فى دائرة حزينة تؤكد الأبعاد النفسية لهذه المرأة الحزينة : 

و فى قصته " الشيطان يبحث عن وظيفة " نراه يصور الواقع المرير للحياة تصويراً جميلاً من خلال بعض الاسقاطات الدينية و السياسية و يغلفها بإطار اجتماعى من خلال عدم وجود عمل للشاب الذى هو نفسه إبليس و الذى لا تروقه الأعمال الحكومية فى مدينته الشيطانية خاصة أنها لا تناسب مهنته الخبيثة و هنا تبرز الثنائية الحقة و الاسقاطات الاجتماعية فالشيطان يمثل الشباب غير الواعى المنقاد وراء الحداثة بفوضويتها ، كما أنه شاب متحرر يرفض قيود العمل الحكومى بما يعتريه من بيروقراطية و روتين كما أنه لا يجد القدوة ، حيث خفت دور المسجد لذا نراه يحاول أن ينشر العدل و يدعو للإصلاح الدينى و لكن هذا الإصلاح ليس من أجل الصالح العام و إنما لوجود فكرة خبيثة شيطانية ألا و هى إغواء هؤلاء من جديد ، فلا يكتفى بحالة الضياع و التشتت التى يعانى من هؤلاء إنما يصلحهم ليغويهم من جديد و هكذا دواليك فى دوائر متتالية 0 

كما نلاحظ طرافة الموضوع فى قصته " المفاجأة " فقد وجد فى حجرة الفندق بنطالاً جديداً فارتداه و ذهب مع صاحبه للتنزه فاذا بفتاة تخبره بأنه بنطالها فيرتبك و لا يدرى ماذا يفعل ، و على الرغم من الجانب الفنتازى فى هذه القصة إلا أنها تدل على المستوى الاقتصادى المتدنى لهذه الشخصية التى قبلت أن ترتدى البنطال حتى و إن كان جديداً ، كما تعكس مدى ضآلة تفكير صاحبها عندما ارتداه و مع ذلك تبقى لمحة الطرافة فى الحوار بينه و بين صاحبة البنطال 00 عن أسلوب الكاتب هنا يتسم بالسلاسة و الوضوح و يتجلى ذلك فى أغلب قصصه ، كما تلاحظ الدقة فى اختيار عناوين قصصه و التى لا تنفصل عن السياق السردى بل هى جزء فى نسيج العمل ذاته ، بل أن بعض القصص قد تشى لك بالمضمون مثل القرار الصعب – يقظة و حلم – السقوط – شجرة النخيل – غربة – الولد المعلون – العودة – الحقيبة – معاناة بعد مكالمة تليفونية – فنجان قهوة – الضحك فى يوم عصيب – المطر الأسود – الشعاع الشارد – لهيب الإنتظار – توالت الذكريات – الظرف الأخير – الهاوية و غيرها 0 و عندما ننظر إلى هذه العناوين فإننا نلاحظ خيطاً خفياً يجمعها فى بوتقة واحدة تدل على مدى العلاقة المتشابكة و ذلك الحزن الخفى الذى تتصف به قصصه و فى قصته " لهيب الانتظار " يصور لنا لهفة انتظار الأب و الأم لإبنهما الذى خرج منذ يومين و لم يعد ، و يصور لنا الكاتب الصدمة النفسية للوالدين و ذلك يتلقيهم نبأ استشهاد ابنهما الذى انضم للمقاومة الشعبية لمحاربة اليهود فنرى الأب و قد وقف مبهوتاً أمام الشباب الذين حملوا ابنه كيلانى ملفوفاً بالعلم المصرى ، و نرى صدفة حبيبة الشهيد وقفت و قد اقتلعت خصلات من شعرها فى ثورة غضب حاملة على يدها المنديل المعطر الذى كان لفه على رقبتها آخر مرة رأته ، ثم نذهب إلى الأم التى وقفت فى مفترق الطرق مشدوهة كمن يبحث عن طريق فى مفترق طرق ، و نعود للأب الذى خاطب زوجته بصوت خافت زغردى يا أم كيلانى ، لقد عاد عريسنا ، ألم أقل لك انه سيعود ؟ ّ زغردى يا أم كيلانى 00 زغردى يا ام كيلانى " 0 

و نرى تكراره للفعل زغردى مع ان الموقف موقف حزن إلا أنه بذلك يؤكد على مدى الحزن على فقدان الابن و لكنه فى نظره لم يمت لأنه مات شهيداً 0 

ومع أن قصصه تتسم بالكلاسيكية المغرقة فى السرد الوصفى المتكرر للمشهد اليومى و الحياتى إلا أنها كلاسيكية تحمل فى طياتها مضامين الحزن و النبل و الشجاعة و الثبات و يتجلى ذلك فى موقف الأب الذى يتسم بالشهامة و الوطنية و رباطة الجأش و الصبر بل و الاعتزاز بفقد الإبن من أجل الوطن 0 

أما قصته " الرائحة " فإنها تكشف عن شخصية كاتب له سمات التمكن و المعرفة الجيدة بالقصة و أبعادها ، فنراه يتحدث عن المعاناة النفسية التى يعانيها المستأجر فى إصلاح المرافق باليت فها هى الرائحة الكريهة المنبعثة فى أرجاء البيت تنتشر لكنه لم يرد أن يفسد جمال القصة فاستبدل الرائحة الكريهة بالعطر الذى ينتشر فى أرجاء البيت حتى لا يشعر القارئ بالتأفف و الإمتعاض و هذا أسلوب ذكى من الكاتب ، ومع فداحة الرائحة إلا أنه تعود عليها و لم تعد تمثل له أية مشكلة بل و الأدهى من ذلك فإنه يفقتد رائحة هذا العطر إذا ذهب لعمل أو خرج من البيت ، إن هذه العلاقة التلازمية أصبحت جزءاً منه فبات غير قادر على فراقها ، حتى عندما ركب الأوتوبيس و اشتم عطراً آخر فإننا نجده يقارن فوراً بين عطره المنزلى و بين ذلك العطر و الذى أطلق عليه العطر الرخيص لأنه لا يضاهيه عطر 0 


إن هذا الأسلوب الساخر الفكاهى الذى يتسم به كاتبنا جعل لقصته رائحة ذات نكهة خاصة و موضوع جديد يتسم بخفة الظل و نلاحظ أن أسلوب السرد سلس و متدفق ينساب كموسيقا لغوية متناغمة و لكن صبره على الرائحة الخبيثة قد نفد فنراه ينزل من الأوتوبيس و يركب أتوبيساً آخر و لكن الرائحة تلاحقة فيتوالى نزوله و هبوطه لأكثر من أربع مرات و مع ذلك تلاحقه الرائحة فكلما قابل أحداً من زملائه يشتم نفس الرائحة فيهرب إلى حجرة المدرسين فتلاحقه أيضا ، فيجلس فى ثورة فلما قدم له أحدهم كوباً من الماء ليهدئ من روعه اشتم فى الماء نفس الرائحة فنراه يثور بعنف : " دخلت العاملة 00 قدمت إليه كوب الشاى الذى طلبه لكنه اشتم نفس الرائحة فى الشاى و فى العاملة و فى الزميل و فى جميع الزملاء ، كاد يجن 00 ترك غرفة المدرسين إلى غرفة السكرتارية شم الرائحة فى جميع الموجودين 00 تركها إلى غرفة المعمل ثم إلى غرفة مديرة المدرسة 00 تماماً كما فى الأوتوبيس 00 إنها مؤامرة 00 لقد اتفق الجميع عليه فتعطروا بذات العطر الجهنمى 00 لِمَ لا يستعملون عطره الثمين الرائع ؟ ! " 

إن هذه الثنائية فى المقارنة بين عطره و الآخرين جعلته يدور فى دائرة أحادية حتى إذا خرج منها لم يستطع مسايرة غيرها فنراه يعود إليها بل و يدافع عن عطره الثمين ، أى أن المعادل المادى أو المتوازى لحالته بإقتناعه بعطره جعلته يرفض عطر الآخرين فى ثنائية تتناقض بين الفعل و القول بين الظاهر و الباطن و يتجلى الأثر النفسي الواضح بداخله فهو أساساً يرفض هذا العطر و لكنه يدافع عنه لأنه ألفه و تعود عليه فإذا قدمنا له عطراً آخر فنراه يكاد يجن إذ ينعكس الأثر النفسي للكراهية الداخلية غير الظاهرة لديه كمعادل موضوعى مادى ملموس بموازاة العطر الجهنمى 

إن هذه الصورة السلبية و النفسية لهذا الشخص جعلتنا نأسى للحالة النفسية التى أصبح عليها فكأنه يدافع عن شئ يرفضه و ينسحب ذلك على كل ما هو شبيه بحالته النفسية إن هذه الصورة المتداخلة و المتشابكة لهذه العلاقة النفسية تجعلنا نوقن أن هذه الشخصية ليست بسوية و إنما اندمجت و انجرفت مع تأثير الحدث / الرائحة – لتحدث أثراً نفسياً طغى على عقله فبدلاً من رفضه لهذه الرائحة و كل الروائح الأخرى نراه يدافع عنها بل و يعتز بها فى حميمية و يدعو لها حينما سأل نفسه : لماذا لا يستعمل زملاؤه عطره الثمين ؟ ! إنها صورة تبعث على الشفقة على هذه الشخصية غير السوية و التى جعلته يدور فى علاقة دائرية متشابكة و متناقضة فى آن واحد 0 

نلاحظ هنا أن هذا الشخص قد خلط بين الذات الرافضة للحدث نفسه و بين الذات المدافعة عن الشئ المرفوض ، و كان المنطقى و الطبيعى أن يدافع عن شئ تقبله النفس و لا تعافه و ترفض هذه الثنائية ، و نرى أن التناقض فى هذه الشخصية تجعلنا ننظر إليها باستغراب ، بل و الأدهى من ذلك فى سمة التحول غير الطبيعى لهذه الشخصية ، فلا تكتفى الشخصية برفض الأحداث الأخرى – الرائحة الأخرى – بل و تدعو الآخرين لاستعمال عطره المفضل الأثير لدى نفسه ، و هذا الكاتب قد جمع بين الإيهام النفسى للذات المتقبلة للحدث أو للفعل " الرائحة " و بين الدعوة لإيهام الآخرين باستعماله لهذا العطر بدلاً من عطورهم الرخيصة0 0 إن هذه الشخصية المتناقضة بل و الغريبة تعطينا إيحاءا بأن هذه الشخصية على درجة من السخرية تسمح لها بالانسحاب و التأثير على الآخرين بشكل فكاهى ساخر أو إنها مريضة و تريد من الاخرين تصديقها حتى تصبح فعلاً عاماً و يكتمل الإشباع النفسي لهذه الشخصية غير السوية و لكن الراجح ان الافتراض الأخير هو الذى يفرض نفسه بدليل أن هذا الشخص عندما ترك المدرسة و ذهب للمنزل استراح نفسيا لأنه اشتم رائحته المفضلة ، و لا يكتفى الحدث عن هذا الحد بل يبدأ الصراع من جديد فما أن دخلت عليه زوجته حتى أشتم الرائحة الجهنمية التى لا يرتاح إليها : " ما أن دخلت عليه زوجته حتى شم ذات الرائحة الجهنمية 00 جن جنونه 00 حتى أنت ؟ ! كاد يصرخ فيها ، فتح فمه ليسألها و لكنه قبل أن ينطق نطقت ! كل سنة و أنت طيب ، نظر إلى يدها 00 الممتدة بزجاجة عطر حديثة 00 ما هذا ؟ 00 هدية عيد ميلادك 00 يا للسخرية لقد اشترت إذن العطر الجهنمى وتلك هى الرائحة الفتاكة 00 إليك بها عنى إننى لا أغير عطرى " 

و مما يدل على مرض هذه الشخصية أنه فرض استنشاق تلك الرائحة على زوجته حتى رأيناها تفكر فى طلب الطلاق من هذا الزوج لنفورها من الرائحة بعد ان سكنوا هذا البيت الملعون 00 إن هذه القصة تجعلنا نقف فى حيرة و دهشة من أمر هذه الشخصية فّاذا اخذنا الجانب النفسى فإننا نحكم علية بأنه مريض نفسيا و إذا اخذنا الجانب الاجتماعى فإنه مدرس و مركزه مرموق بل لأنه يدرس للطلاب الحق و الخير و الجمال و أبسط سمات الحياة العادية العيش فى جو صحى آمن و كذلك المحافظة على المستوى الاجتماعى العام ، و إذا نظرنا إليها من زاوية الإبداع فإننا نجد أن هذه القصة من الأدب النفسى – كمصطلح – الذى يميل إلى الغوص فى أعماق الشخصية للوصول إلى سير أغوارها و اكتشاف عالم الشخصية المختفى بعيداً فى أعماق النفس 0 

إن هذا النوع من القصص لا يقدم حلولاً بدليل أن كاتبنا ترك نهاية القصة مفتوحة و بالتالى فالعلاقة المحورية فى القصة تتركز فى الحدث و ما يحمل من دلالات و أثر نفسي على الشخصية و التى تنسحب بدورها إلى المحيطين به فى مجال الأسرة و تنسحب على المحيط العام فى المجال الاجتماعى : " الشارع – المدرسة – الأصدقاء " 

إن هذه القصة تحاول أن تنهض بالواقعية لتصورها بصورة أعمق و تمزج بينها و بين الأدب النفسى المستشرف لعالم الحلم و المثالية و تخلط كل ذلك بفنتازيا ساخرة مهزومة تحاول أن تجد لها مكاناً فى عالم الواقعية الذى يعتمد على المألوف و الحياتى 00 إن كسر الحاجز النفسي و الدخول إلى أغوار الشخصية و الحدث تجعلنا ننظر إلى هذا الكاتب بعين مختلفة لأننا أمام كاتب وضع بصمته على مناطق غير مطروقة خاصة فى الجانب النفسي و ما يتبعه من وشائج و علاقات نفسية و اجتماعية تشكل السياق العام و التى تميزه عن غيره و أحسب أن هذه القصة تشكل بصمة جديدة – فى مجال القصة النفسية – لزوايا النفس و أبعادها المختلفة 0 

أما قصته " توالت الذكريات " فإنها تأخذنا إلى عالم ىخر ، عالم الواقعية بهمومه و أحداثه اليومية و بساطته المتناهية ، ذلك العالم الملئ بالهموم و الأحزان و الفقر ، عالم تشقيه لقمة العيش 0 إنه العالم الحقيقي للإنسان الذى يعيش على الحافة فى وسط عالم آخر صاخب يساير الحداثة و التقدم اى أنه عالم ملئ بالمتناقضات ، فالأم تشعر أن ولدها هو جسر البيت الذى تعبر عليه الأسرة لنجاتها من الحرمان و التشرد و الجوع ، فهو المدفأة و الحضن الحنون و مع هذا ينتابه التمرد و الرفض لأن يهاجر ليبحث عن دور آخر 0 

و الهجرة الشخصية هنا هى هجرة إلى أعماق النفس الإنسانية داخل النفس و خارج حدود العقل إنها الصراع الكامن فى لواعجه ، هى هجرة هروب من الواقع ومن الحياة المتدنية إلى الهموم المترسبة داخله فهو يهرب من الهموم إليها ومن الواقع المرير النفسي المرير ، إنه هروب إلى لا شئ ، حتى عندما أراد ان يفتح المذياع وجد المغنية تغنى قائلة : " خليك هنا و بلاش تسافر " و عندما فتح التلفاز وجد ندوة عن أخطار الهجرة على الشباب و المجتمع ، فأغلق التلفاز و امسك بالجريدة فوجدها من الواقع و تكرار عدد المغتربين ، و كأن الدنيا اجتمعت عليه فمزق الجريدة بل و أحرقها ، إن هذا الهروب من الواقع و تكرار ملاحقة الواقع له يجعلنا نشعر ان الدائرة تدور به و هو يدور بداخلها فكلما خرج منها دخل فى دائرة أخرى إلا أنه يكتشف انها نفس الدائرة ، وهذه المستويات 
المختلفة للحزن تجعلنا نستشعر مدى المعاناة لإنسان العصر و هموم الواقع حتى عندما أراد تغير هذا كله بأن يقلب النظر فى البوم الصور و مفكرته وجدناه يقلب فى ذكريات قديمة و إن كان بعضها مبهج إلا ان هذه البهجة ترتبط بالحزن أيضا فأمه عندما نجح فى الشهادة الاعدادية قدمت له دراجة و مع ذلك فإنه يرى أن هذه الدراجة عادية ، ثم نراه يقلب ورقة أخرى فإذا بها تذكره باللقاء الأول مع حبيبته سلوى : " يومها قال لها أحبك 00 قالت : و انا أكثر 00 ابق إلى جانبى قال : و الله 00 ثم انسالت دمعة تحت الجفون 00 بتاريخ الخامس من الشهر السابع عام 1991 عاد المدينة قالت له ولدى لا تغادر أنت جسر البيت 00 شئ ما لمع تحت الجفون 00 نظر إلى الأفواه الجائعة 00 حمل الحقيبة و مضى 00 و نلاحظ هنا سمة الحزن القديمة ، فعندما أراد الهروب من كلمات امه بألا يغادر نراه يصطدم بالهموم القديمة فالدراجة التى قدمت إليه دراجة عادية لم تبهجه فهو حزين و إن كان فرحاً فى الظاهر ، و سلوى محبوبته التى الحت عليه بالبقاء إلا أنه يرفض و الدموع تكاد تفر من عينيه و أمه المتوسلة التى تريده حتى لا يهدم الجسر الذى يصل هذا البيت بالحياة نراه يتركها و يضرب بكل شئ عرض الحائط و يسير مبتعداً و لكنه لم يفق إلا بعد فوات الآوان فقد حمل له البريد برقية تخبره بموت والدته 0 عندها اغرورقت عيناه بالدموع بعد أن جحدت طوال فترة طويلة ثم توالت الذكريات 0 

إن عالم هذا الكاتب يتسم بالآهات و الوجع النفسي و لكنه مع ذلك يحيلنا إلى الوجع اللذيذ مع مرارة الأوجاع تكون اللذة و كما قالوا : " قمة الوجع تساوى قمة اللذة " إلا أن هذه القاعدة قد تصدق أحيانا و قد لا تتحقق كثيراً ومع ذلك يبقى الكاتب مداوياً لأوجاعنا و مطلعنا على خبايا جروحنا و مكنون ما يجيش بصدورنا من خوف و هلع و حب و استشراف لعالم النفس الرحيب 00 

ثمة موسيقا تعزف الآن لحن النهاية لرحلة فى أغوار عالم كاتبنا الممتد ، فلنتعرف معه على اوتار موسيقاه الخالدة 



انتهت 



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات