حزن كل أهل القرية عند سماع الخبر، أما صديقي أحمد فقضى شهورا من الحزن على فراق أبيه.
لم يستطع أحمد مواصلة دراسته ليس لحزنه أو ضعف إرادته بل لسبب آخر، إنه مرض أصيب به جراء ذلك الماء الآسن الذي شربه في الصحراء أثناء سفره إلى أبيه... أصبح أحمد لا يستطيع النطق بسهولة فقد أصيب في حنجرته.
هكذا، فارق أحمد المدرسة وتفرغ لخدمة عائلته ولتحمل المسؤولية كاملة بعد أبيه، ولا تنسوا أن صديقي لازال في سن الثانية عشرة.
اشتغل أحمد في الزراعة وتربية الماشية، مكافحا مجاهدا لأجل إخوته ووالدته، لكن سنوات الجفاف بدأت تتوالى فلم يعد العمل في الزراعة يؤمن العيش، فقرر أحمد أن يسافر ليعمل في البناء تماما كما فعل والده، لكنه لم يحدد وجهته بل خرج متجولا في كل القرى المجاورة لهم والبعيدة كذلك، يبحث عن العمل.
اشتغل أحمد في عدة قرى، وكان يكسب جيدا...
وعندما بلغ سنه الثامنة عشر قرر أن يجرب حظه في أن يصبح جنديا، وبالفعل دخل إلى هذا الميدان لكنه لم يكمل سنة حتى خرج منه، فأحمد لا يحب الظلم والحكرة وهذا الميدان كله ظلم.
عاد أحمد إلى عمله القديم وهو البناء ليس كحرفة ولكن كأجير مياوم، وبقي صديقي مدة طويلة على هذا الحال حتى كبر أخوه عبد الله فانخرط في الجيش كجندي، وقد كان كسولا كما ربته أمه فهو الإبن الأصغر المدلل.
أما إخوته فقد زوجهن أحمد، الأولى في سنها الثالثة عشر والثانية في سن السادسة عشر.
وبعد أن بقيت أمه وحيدة قرر أن يتزوج هو كذلك ليأتي بامرأة تساعد أمه، وبالفعل عاد إلى القرية وتزوج من إحدى فتياة القرية، لكن زواجه لم يدم طويلا فقد أجبرته أمه على أن يطلق زوجته ففعل ذلك. وبعد سنة تزوج مرة أخرى وهذه المرة كان زواجه بالموازاة مع زواج أخيه الأصغر.
كانت زوجة أحمد الجديدة امرأة فطنة وحكيمة فهي من عائلة نسبها شريف. صبرت على أمه القاسية ومعاملاتها اللامنطقية فهي تفضل زوجة أخيه. رغم أن هذا الأخير لا ينفع عائلته بشيء فهو يصرف كل راتبه على نفسه .
رزق أحمد بطفل ذكر وصفه لي بإنه غاية في الوسامة، سموه عبد العزيز، لكن عبد العزيز لم يعش إلا سنة واحدة لينتقل إلى ربه. وبعد سنة رزق بطفلة جميلة سماها فائزة.
لازال أحمد يشتغل خارج القرية لكنه لا يبعد عنها إلا بعشر كيلومترات فكان ينتقل على الدراجة بين العمل والبيت. وبعد سنتين من ولادة فائزة قرر أحمد أن ينتقل بعائلته إلى مكان عمله وهي مدينة صغيرة بالقرب من القرية. بالفعل أقنع أمه بالفكرة وزوجة أخيه وأخته كذلك فقد كانت تعيش أخته معهم بعد أن طلقت ومعها طفل صغير .
إكترى أحمد منزلا ورحل إليه هو وعائلته، وبدأ حياة جديدة ومتميزة قليلا عن السابق فقد كان يشتغل في شركة تنقيب عن المعادن وهي شركة فرنسية، وكانت زوجته كذلك تعمل معه فقد كانت تعد وجبات الغداء لكل العمال، هكذا استطاع أحمد أن يجمع المال ويشتري قطعة أرضية. وفكر أن يبنيها لكن بمساعدة أخيه الجندي، بالفعل وافق أخوه وشرعو في البناء، وقد أخبرني صديقي أنه لم يخسر كثيرا في البناء فقد كان هو البناء أما العمال فهم زوجته وزوجة أخيه فقط.
بنى احمد بيتا من أربع غرف، وحفر بئرا بالبيت فلم يكن أنذاك شركة لتوزيع المياه، كانت المساحة التي بناها هي نصف الأرض التي كان قد اشتراها.
كان يسكن في البيت أربع نسوة، بمعنى آخر كان البيت دائم النزاعات، وهذا ما دفع أحمد وزوجته بالتفكير في العيش لوحدهم، لكن ما هو الحل الأنسب؟
ترك أحمد الأمر لأمه لتفصل في الأمر...فكان اقتراحها أن يأخذ أخوه وزوجته نصف البيت المبني والنصف الآخر تسكن فيه هي وأخته، أما صديقي فاقترحت عليه أن يبني له بيتا في نصف الأرض المتبقي.
كان أحمد مطيعا لوالدته ولا يعصي لها أمرا فوافق على اقتراحها رغم ان زوجته رفضت هذا الحل.
لم يتردد أحمد في بناء بيت له فلم تنتهي السنة حتى أصبح أحمد وزوجته وابنته مستقلين في بيت جديد.
أصبح وضع أحمد أفضل من السابق فهو يكسب جيدا، أما أخوه فقد خرج من الجيش بعد أن ضبط بحيازته مخدرات. وطوال هذه الفترة كان أحمد يهتم بأخته وأمه ويلبي كل حاجياتهما بكل سخاء، وكذلك يساعد أخوه.
تزوجت أخت أحمد وأنتقلت إلى منزل زوجها، بعد أن أصبح إبنها رجلا بأخلاق حميدة تعلمها من خاله أحمد.
رزق أحمد بطفل، فرح به كثيرا وسماه محمد، زاده هذا الطفل رغبة في الحياة وفي مزيد من الجد والاجتهاد في سبيل تربية أبناءه وتعليمهم.
وبالفعل كانت نعم التربية، فكما علمه أبوه الصلاة منذ صغره كذلك فعل مع ابنيه، فكانا بارين بوالديهما.
مرت الأيام، ولم يعد أحمد يعمل في الشركة بل عاد إلى عمله كمياوم، وهو لم يدخر مالا من عمله السابق فقد كان يصرف على عائلته بكاملها وحتى أخوه وأبناءه. وأصبح مجددا يرتحل من مدينة لأخرى للبحث عن عمل، فقد كان يغيب أحيانا عن عائلته سنة كاملة، لكن رسائله لم تكون تغيب عن أبنائه.
كانت فائزة نجيبة في دراستها، لكنها لم تكمل السنة الثالثة إعدادي حتى تزوجت لأنها لم تكن ترد أن ترهق والدها بمصاريف دراستها.
أما ابنه محمد فقد أكمل دراسته بعد أن عانى معه صديقي أحمد، فقد ارتفعت أسعار المواد الغدائية وكذلك الكتب المدرسية، وأصبح توفير لقمة العيش صعبا.
وقبل أن يغادر محمد للدراسة بعيدا عن البيت، توفيت أم أحمد وحزن عليها ابنها كثيرا.
وهكذا لم يعد في البيت إلا أحمد وزوجته وحيدين بعد أن بلغ الستين سنة، ولازال صديقي أحمد يقاسي صعاب الحياة فقد أصبح لا يقدر على العمل، هذا الآخير الذي لم يعد يتوفر كل يوم.
أما الآخرون فكل واحد إنشغل بحياته؛ أخت أحمد أصبح إبنها أستاذا واهتم بها، أما اخ أحمد فقد مات بمرض خطير أصيب به في الكبد، لكن أبناءه أصبحوا موظفين واهتموا بوالدتهم...
أما أحمد فلازال يعاني.
وقد أختصرت قصة صديقي أيما اختصار لأنه كان يعاني كل يوم وكل ساعة بل كل دقيقة وثانية.
وسأختم قصة صديقي هاته بإحدى لحظاته الصعاب وهي حين مرض يوما وكان بعيدا عن أهله فأدخل إحدى المستشفيات وانظروا إلى معـــــــاناته فقد كان يعاني من شدة المرض وشدة الحزن فهو في غرفة ومعه بعض المرضى الذين يزورونهم أقرباؤهم كل يوم لكن أحمد لا يزوره أحد، فهو غريب في تلك البلدة ولا أحد من عائلته يهتم لشأنه وإذا وجد من يهتم لأمره كزوجته فهي لا تقدر أن تسافر لتراه... ويحكي لي صديقي أنه قضى عشرين يوما في المستشفى وهو يبكي من شدة الحزن لا من ألم المرض...
ولازال صديقي صابرا محتسبا أجره عند الله تعالى، ويحمده على كل حال.
حفظك الله صديقي ورزقك العفو والعافية والمعافات الدائمة في الدين والدنيا والآخر وأطال في عمرك وعوضك في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى...
التعليقات (0)