عبد الهادي فنجان الساعدي
صدر للكاتب قحطان لطفي على كتاب في 300 صفحة عنوانه (هكذا بنوا الدولة العراقية ... لطفي علي مثالا)
يبدأ الكتاب بصورة التاج الملكي العراقي الذي يشبه الى حد ما التاج البريطاني لولا الصورة التي توسطته والتي تمثل نخيل العراق ونهري دجلة والفرات.
ثم بعدها يبدأ الاهداء... وهو كلمات جميلة وشفافه اختارها الكاتب قحطان لطفي ليشمل بها العائلة والاصدقاء وجميع شباب الوطن. اما المقدمة فكانت تحكي عن خطة الكتاب والمصادر التي استعان بها على اتمام هذا الكتاب.
لقد عرج الكاتب على مسألتين مهمتين الاولى هي الخدمة في الظروف السابقة ومقارنتها بالخدمة في الظروف الحالية حيث اوجزها بهذه الكلمات (مما دعى الى هرب وهجرة الكثير من العقول العراقية الجبارة من العلماء من الاساتذة الجامعيين والاطباء والمهندسين والمسؤولين السابقين الذين اكتسبوا خبرة وكفاءة نادرة لا تتعلق بانتماءاتهم الحزبية والسياسية اطلاقا وهذه هي المؤامرة ولا زالت).ص7.
اما الايجاز الاخر الذي اعتبره شخصيا ايجازا مهما وخطيرا وهو السبب الذي ادى الى النتيجة التي نعيشها حاليا بالرغم من مرور اكثر من ثمانية عقود من الزمن حيث (اعتبر كل عراقي يحمل الجنسية العثمانية اعتبارا من 16 اب 1924 وكان ساكنا العراق تزول عنه الجنسية العثمانية ويعد حائزا على الجنسية العراقية) ص9.
قبل إن نبدأ بنقد الكتاب ارتأينا إن نعطي صورة عن طريقة الكتابة في هذا المجال استطعنا العثور على هذه الكلمات التي توجز طريقة الكتابة والاسلوب الذي اتبعه الكاتب في هذا الانجاز الوطني (إن هذه الصفحات التي اسطرها ليست بحثا اكاديميا او دراسة علمية جامعية بل هي جمع معلومات من مصادر عديدة مختلفة تثبت باسلوب سردي تاريخي اقرب منه الى الكتابة الصحفية لنقل حقيقة هذا الرجل الاداري النشيط الذي كان يهتم بالصفوة الكبيرة من اجل تطوير المدينة التي كان مسؤولا عنها مما اثار اعجاب ابناء المدينة وخاصة المثقفين ومنهم الادباء والشعراء والشخصيات الاجتماعية) ص12.
لقد استطاع هذا الرجل إن يشغل مناصب عديدة في الدولة العراقية فهو اداري من النوع النمطي الذي استطاع إن يتكيف مع كل المناطق التي عمل بها الا انه استطاع إن يعطي صورة مصغرة عن الانسان العراقي الذي يستمد وعيه وعناصر كفاحه من اعماق التاريخ القديم فلقد استطاع هذا الانسان إن يبني حضارة من الطين في الوسط وفي الجنوب كما استطاع إن يبني حضارة اخرى بالحجر وما يتوفر من مواد في شمال العراق. اما عناصر الحضارة الاخرى من وسائل الكتابة والثقافة فقد استخدم الطين وعرف كيف يعالجه بالنار والمواد الكيمياوية المتوفرة لديه ليجعل منه مادة تبقى لتشهد على حضارته وتقدمه على مدى القرون.
اما هذا الرجل فقد استطاع إن يبني ويطور المدن التي حل بها موظفا مسؤولا (فكان في جميع اشغاله الادارية يعرف كيف يتعامل مع المواطن باستنباط روح القوانين والانظمة الملائمة للبلد وما يتطلبه من اصلاح وعمران في جميع مرافق الحياة مراعيا احوال اهالي المدينة الاجتماعية والاقتصادية والادارية متمسكا بمبدأ (العدل اساس الملك).
لم تكن بيديه اموال طائلة كما كانت يد الانسان العراقي القديم خالية الا من الطين فاستطاع بهذا الطين إن يبني ويعمر ويسوس الناس وكذلك كان لطفي علي خالي اليدين ولكنه كان يمتلك ذهنا متوقدا استطاع إن يستعمله للتفاعل مع الناس ليلبي لهم ما ينفعهم وقد اصبح مسؤولا عن سبعة عشر قضاء او ناحية وكانت اهم الاعمال التي يبدأ بها هي ما تسمى اليوم بالبنية التحتية حيث ينشئ داراً للحكومة ومستوصفا ويعمل على غرس الاشجار في الشوارع ويوزع الاراضي على الفقراء و ينشئ مجزرة صحية اضافة الى الخدمات الاخرى التعليمية والثقافية مثل انشاء مدرسة اولية ومدرسة للبنات وردم المستنقعات وتحويلها الى حدائق عامة ومشروعا للكهرباء وكان يتدخل في الامور المهمة التي تهم اقتصاد البلد فيحاول مساعدة الفلاحين على التوسع في زراعة الشلب وفي مناطق اخرى كان يبني ناديا للموظفين اضافة الى المستوصف او المدرسة او دار الحكومة وكل ما تقدم من مشاريع: كما انه كان يشارك في تنظيم الحياة العامة والحياة المعاشية وذلك بتقسيم الاسواق وتنظيمها حسب الاختصاص فيعمل على بناء سوق للسمك وسوق للخضروات وكان يولي الامور المهمة جانبا من خططه العمرانية وهو التأكيد على بناء مدارس للبنات اضافة الى روضات للاطفال وملاعب رياضية كما انه كان يهتم بتشجير الشوارع في كل مدينة يعمل بها. هذه من اهم الظواهر الحضارية، اضافة الى مشاركته في الاحداث السياسية والاحداث التي تندلع في المدن التي يكون مسؤولا عنها حيث انه كان يرتبط بعلاقات وطيدة مع مختلف شرائح المجتمع ورجالاته فكان يجتذب كل الشخصيات المؤثرة في المجتمع ويوطد علاقاته مع سائر طبقات المجتمع من خلال اعماله التي تمس واقع الناس وكان ينزل الى ميدان العمل فيرفع الصرائف ويبني مكانها دورا حديثة لاصحابها الفقراء ويوزع الدور والاراضي خارج محيط المدينة ليوسع من مجال استغلالها ويمنح المدن رئات جديدة وأفقاً مستقبلياً جديدا.
إن المتتبع لاعمال هذا الرجل يجد بأنها اعمال من واجب كل موظف يكون مسؤولا.. ولكن التساؤلات تتسع وعلامات الاستفهام تكبر... اذن لماذا لم يكن كل اولئك المسؤولين بهذا المستوى من الجد والعمل المثمر؟!
إن هذا الكتاب.. وهذا الرجل.. وهذه الاعمال البسيطة.. كلها دلالات عميقة ولا يمكن استيعابها الا من خلال فلسفتها او مقارنتها بما يجري الان.. فهناك كان الطين .. الطين فقط والانسان .. وهنا النفط والمليارات .. اما الانسان فيقبع في احياء التنك والمدن التي تحمل اسماء الابطال دون إن تعرف الى أين تتجه خارطة الطريق.. اما الفارق فهو في هذه الروح الانسانية التي تمتلك العمق الحضاري من خلال بساطتها وقدسية المعاني والدلالات.. فمن المهم إن يساهم هذا الرجل في المكان الذي يعيش فيه ابناء واحفاد الانسان العراقي بعكس الرجل الذي يساهم في اسكان اباءنا وابناءنا و اخواننا في المقابر الجماعية وفي الغربة.. الفارق كبير ولكنه غير مرئي... في يوم ما تجد انك تسير في سيارة من احدث الموديلات في قرية نائية .. وكان قد بلط شارعها الوحيد لطفي علي.. إن الافا من السيارات مرت على هذا الشارع ولكن احدا لم يسأل : من الذي بنى هذا الشارع الذي جعل منه سداً يدرأ به الماء عن المدينة .. فهو شارع ذو وظيفتين تصور بكل تلك البساطة في التعليم والحياة... ولكنه يفكر بان يجعل من أي مشروع يقوم به يؤدي وظيفتين... فهو يردم المستنقعات ليحولها الى حدائق... ويرفع الصرائف ليحولها الى بيوت جديدة ليبدأ هؤلاء الناس الفقراء حياة جديدة، يهدم البيوت ليوسع الشارع وليعط المدينة رئة تتنفس بها ويوزع على هؤلاء الفقراء الذين هدمت بيوتهم ارضاً خارج المدينة ومبلغا تعويضيا.. وعند المقارنة نجد فعلا بأننا امام احد الرجال الذين ساهموا في بناء العراق وليس الدولة العراقية فقط... فالدولة زائلة ككيان سياسي ولكن المدارس والمستشفيات ورياض الاطفال باقية كهيكلية اجتماعية وكمكمل للبنية الاساسية للمجتمع.. ومن هنا يبدأ الطريق الذي اختطه السومريون لبناء الحضارة... ولطفي علي هو احد السومريين الذين مروا على العراق ليتركوا بصماتهم واضحة على جدران المدارس والمراكز الصحية والشوارع التي ساهمت في درء خطر الفيضانات ردحا من الزمن.
هذا الكتاب يحمل وثائق ذات جذور حضارية بالرغم من بساطته وقد رأيت إن اضع بعض النقاط التي تسهم في تحليل هذا المطبوع الجميل ونؤشر ببعض النقاط التي رأيت من المهم تثبيتها لتساهم في تحليل هذا العمل الشيق والمثير للشجن ومنها:
1) إن معظم التواريخ تبدأ من السنة وتنتهي في اليوم وهذا بعكس المتعارف عليه في العربية حيث يبدأ باليوم والشهر ثم السنة.
2) كان من الافضل لو ان الكتب الرسمية تطبع بعد تصويرها في الصفحة المقابلة لتأت الكلمات واضحة ولتسهم في اغناء الموضوع (انظر صفحة 86، 106، 108...الخ).
3) من الملاحظات المهمة هي كثرة القصائد الشعرية والمقالات المطبوعة التي تمجد هذا الرجل واعماله وهي من الامور التي تدل على اخلاصه في العمل. كما إن هناك دلالة اخرى وهي بقاءه دون منصب المتصرف أي (المحافظ) بالرغم من إنه كان يشغل هذا المنصب – اغلب الاحيان – وكالة، لأن ذلك المنصب خاص بالسياسيين ولاعلاقة –هنا – للاخلاق والنزاهة به والا لكان هذا الرجل اولى بهذا المنصب من غيره.
4) من الملاحظات المهمة الاخرى إن هذا الرجل كان يأخذ من الدولة ما يخصص للمواطن وبما إن ذلك لا يكفي لانجاز المشاريع فكان يمزج بين هذا المبلغ وبين خيرات الوطن من الاراضي والامكنة الفارغة ليوزعها على المواطنين او لينشئ عليها مشاريع بما يتوفر من اموال الدولة او من تبرعات المتمكنين لهذه المشاريع التي يبنيها لاعمار مدنهم.
5) دليل اخر على اخلاص هذا الرجل واصالته هو كثرة الانواط والاوسمة التي حصل عليها في سني خدمته من جهات عراقية او اسلامية في مجال الخدمة العامة.
6) الكتاب يحتوي على صور وثائقية نادرة تبعث على الشجن وتعتبر مجموعة تحف وثائقية كانت خاتمة رائعة لهذا الكتاب البسيط والشيق الذي يعتبر بحق رد اعتبار لهذا الانسان الوطني الرائع.. وبالرغم من بساطته الا انه نموذج حي وعظيم الدلالة على الوطنية التي لا تعرف الغنى او الفقر.. انما تعرف الاصالة.. والوطنية نعمة ربانية يهبها لمن يشاء ليتزين بها الفقير والغني.. واعتقد بأن هذه المجموعة من الصور التاريخية الرائعة بالخصوص التي في الخاتمة تمت بصلة القربى لمجموعة العبقري والظاهرة الانسانية والحضارية قحطان الملاك الذي يضع خبرته في ايدي الشرفاء.. وهو ذلك الشجر الذي لا ينبت الا في الارض الطيبة.
التعليقات (0)