هزيمة المثقف العربي:
ليس هنالك تعريف واحد للثقافة! بل مئات التعاريف المعبرة عنها،لانها مفهوم يتضمن كل المعارف والقيم والعادات والتقاليد التي رافقت حركة الانسان في التاريخ، مما يعني ان كل التعاريف الجزئية او الكلية هي صادقة التعبير عن ذلك المفهوم الكبير والمثير في نفس الوقت...
وحامل الثقافة يطلق عليه بكلمة المثقف،وهو ايضا مفهوم متعدد الابعاد ولا ينحصر ضمن قالب واحد،وبما ان للثقافة مستويات متعددة ضمن فروع واقسام عديدة، فأن ذلك ينعكس على المثقف ايضا مما يعني انه ليس كل من يطلق عليه كلمة مثقف انه بنفس المستوى من الكم والنوع مع المثقف الاخر،بل قد يكون الفارق كبيرا الى درجة قد يوصف اصحاب المستويات الدنيا بأنهم جهلاء ومتخلفون اذا ما قورنوا بقربهم للطبقات الجاهلة او بعدهم عن المستويات العالية التي يتصف اصحابها بالعبقرية والذكاء الحاد وسعة الادراك الواسع والشعور بالمسؤولية التي تنتج عن حمل ذلك الثقل الرهيب من النتاج المعرفي الغير محدود والمسمى ثقافة! او يكونوا بمستويات متقاربة،ولكن رغم ذلك تبقى للشهرة دورا ونصيبا كبيرا في ابراز المثقفين او اهمالهم وايضا نفخ من هو دون المستوى او تقزيم العمالقة! خاصة الذين تتعارض توجهاتهم مع الدولة والمجتمع ولكن والحق يقال ان الغالبية الساحقة منهم لم تحصل على الشهرة او حتى على اعتبار عال ضمن سياقات المجتمع المتعددة!...
والاختلاف بين ثقافات الشعوب هي حقيقة ثابتة ولكن بالتأكيد هنالك مشتركات عديدة ضمن بوتقة الحضارة الانسانية العظيمة...وبذلك يكون هنالك تمايز بين المثقف العربي عن المثقف الاخر في مساحة معينة ناتجة عن اختلاف المكان والزمان اللذان لهما دورهما الفعال في بناء المثقف الفكري التي تمنحه تلك الشهادة العالية في حياته بحيث ترفعه من حالة الجهل والتخلف التي تقود الانسان الى كوارث حقيقية...
وليست الثقافة حكرا على فئة دون اخرى بل يمكن ان نجد زمرة المثقفين ينتمون الى مختلف طبقات المجتمع وليس كما هو شائع من انهم العلمانيون فقط! بل قد نرى من رجال الدين والمتدينون من يفوقون الاخرين في ثقافتهم والعكس ايضا وارد في هذا الشأن! وكذلك يمكن ان نرى العامل والفلاح البسيط من اصحاب الثقافة والفكر الرفيع بينما يمكن ان نرى الزعيم او اصحاب المهن الرفيعة من الجهلاء المتخلفون الذين لا يملكون من الثقافة حظا!...
والثقافة ليست فقط المعارف المادية بل ايضا المعارف الروحية لان الانسان ليس آلة جامدة بل هو جسد وروح ويحتاج الى كليهما معا،واي تعارض فيما بينهما يكون اكيد ناتج عن خلل ما في البنية الثقافية.
اذا الثقافة سراجا ينير الدرب امام الانسان بل هو اقوى سلاح لمواجهة كل مصاعب الحياة وتحدياتها...ولذلك لا يحق للمثقف ابدا ان يفكر ويعمل بما يخالف ضميره المعرفي...نعم هو يكون في خدمة البسطاء ويكون قائدا حتى في تلك الخدمة وان يبذل قصارى جهده لانقاذهم وتنويرهم والدفاع عن حقوقهم ولكن لا يسير وفق منهج الجهلاء بل بمناهج الثقافة المتنوعة التي توصل الانسان الى الحقائق الكاملة ومن ثم الى السعادة البالغة،واي ابتعاد عنها هو خيانة ناتجة من هزيمة ذاتية لا يمكن نكرانها الا اذا كانت النيات صادقة ولكن حظ الاجتهاد هو الذي اودى به الى تلك النتيجة المؤلمة...
ولكن ماهو المقياس الواقعي لكون الشخص مثقفا؟...طبعا بعيدا عن الاجابة المفصلة والتي تبعد عن التقريب للاذهان! يمكن القول ان كل شخص يكون شعوره الذاتي الصادق بالطبع دالا له على امتلاكه ملكة معرفية ناتجة عن بذل جهد ذاتي مكتسب وموهبة فطرية تميزه عن الاقل حظا هو معناه انه مثقفا،وبعيدا عن الغرور الذاتي في التقدير فأن حجم تلك الملكة هو محل الاختلاف وكذلك يكون اعتراف الاخرين بفضله وعلمه احد الوسائل الهامة ولكن تبقى المفاسد الاخلاقية كالحقد والحسد والاحتقار والفقر الخ هي عقبات في التقييم الصحيح!...
منذ مايزيد عن قرن من الزمان والاعلام يبحث عن اسباب تدهور الثقافة العربية وبالتالي تدهور المستوى الثقافي للنخبة القليلة اصلا! بالمقارنة مع النجاح الباهر الذي حققته الثقافة الغربية ومثقفيهم في نهضة شعوبهم التي لا ينكرها احد...
في الحقيقة ان اسباب التدهور ونكسة المثقفين هي عديدة وقد ادت مع شديد الاسف الى تقلص كبير في الكم والنوع بينما المفروض مع اتساع حجم التعليم الى ازدياد حجم الكوادر المثقفة مع اتساع طاقاتها الاستيعابية للمعرفة التي تطورت بفعل العامل الزمني الذي يصاحبه التراكم المعرفي...
قد يكون عامل فقدان الحرية وحقوق الانسان في العالم العربي من ابرز العوامل التي ادت بلا شك الى سيطرة تلك النظم الحاكمة التي قيدت حركة المثقفين وجعلها محصورة ضمن افق ضيقة او دوائر مغلقة بعيدة التأثير عن المجتمع...فمع شدة الارهاب والقمع الحكومي والقمع الشعبي الموالي له! فقد المثقفون تاثيرهم البارز في قيادة المجتمع بل اصبحوا يعيشون عالة عليه بدلا من ان يكونوا منتجين من خلال تصحيح اخطاء مجتمعاتهم والدفاع عنها اذا تعرضت الى قيم وسلوكيات خاطئة، لقد ادت تلك الحالة الى حصول حالة من التنافر المتبادل بين المثقف والمواطن البسيط بدلا من ان يكون الصراع محصورا بين المثقف والطبقات الحاكمة التي لا تعمل وفق المعايير الثقافية التي تساعد على تطوير الشعوب وتنميتها...بينما في الغرب مثلا فقد نزل المثقفون الى الشارع وتعاملوا معه بشفافية مثالية وعاشوا معاناته وتقدموا الصفوف في النضال حتى اصبحوا مثالا للوطنية والصدق والاصرار على تطبيق مبادئهم وافكارهم كما ولا توجد لديهم صفة الاستعلاء على غيرهم بينما نلاحظ العكس في شيوع تلك الصفة القبيحة لدى شرائح واسعة من المثقفين العرب حتى اصبحت من السمات البارزة التي تبعدهم عن معاناة الشارع واستخلاص الدروس والعبر من كل مشاكله المستعصية.
كذلك ادت حالة التغريب الذاتية التي يعيشها غالبية المثقفون الى رفض واضح للتراث والمعتقدات والكثير من العادات والتقاليد،وغالبا ما يكون الرفض بطريقة مثيرة للمشاعر واستفزازية اكثر منها للاصلاح او لتقييم الصالح من الطالح بل حتى في غياب البديل المثالي العقلاني،وقد يكون ذلك ناتج من طبيعة السلوك الفردي للمثقف المؤثرة في شخصيته بحيث تطمس الدور الفعال للثقافة او حتى نقص فادح في الاستيعاب...
لقد ادت حالة اليأس من التغيير الى خضوع المثقف للمنطق الاستسلامي البغيض واللامبالاة وساعد على انتشار تلك الحالة الغريبة،تحول الكثير منهم الى ابواق ثقافية واعوان للسلطة ذاتها مما جعلهم تابعين بلا حول ولا قوة سوى الاستفادة من الفتات التي تقيهم من حالتي الجوع والخوف!بينما انشغلت البقية في صراعاتها الداخلية او انعزاليتها في كهوف الزمن المجهولة...وفي الحقيقة ساهمت الموجات الفكرية المتغيرة في تغيير الكثير من قناعات وآيديولوجيات وسلوكيات المثقفين،ففي الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية،سادت الافكار اليسارية والالحادية وشيوع الخروج عن العادات الاجتماعية مما يعني تحول ثقافي بأتجاه تلك الموجة دون ادنى توقف للبحث عن الذات بواقعية بينما انقلبت الموجودة مع شيوع المرحلة اليمينية بعد حرب 1967 ثم مرحلة النهوض الاسلامي التي بدأت منذ عقد الثمانينات وركوب بعض المثقفين للموجة الجديدة كعودة للذات دون تقييمها بشكل نقدي وتحديثها بشكل يلائم العصر، لا بل اصبح البعض دعاة للتكفير ورفض الاخر واتهامه بكل الموبقات والخروج من العقيدة الخ...
هزيمة المثقف العربي بدأت في التوسع منذ الخمسينيات وانتشار الافكار القومية واليسارية وتبني بعض الانظمة لها والتي استخدمتها سلاحا بوجه معارضيها،وبدلا من يقارع المثقفون ذلك القمع وتدهور القيم،نراهم بين داعم لها وبين خائف من سطوة راعيها،واختفت منذ ذلك الحين صورة المثقف الحر الذي يحمل الكتاب بيد ومشعل الحرية باليد الاخرى ويقود الطبقات المستضعفة ضد المستغلين لها او القامعين لحرياتها دون ان ننسى تضحية الكثيرون والتي اصبحت نادرة في عصر العولمة!،بينما بقيت تلك الصورة الجميلة سائدة في بلاد كثيرة بل واصبح عددا منهم زعماء سياسيون لبلادهم بينما كانوا في الماضي سجناء ومنفيون.
لقد صنع المثقف العربي بهزيمته الذاتية،الديكتاتورية والتخلف والتطرف وازدهرت صناعة الارهاب والتكفير والعيش على امجاد التاريخ المزيف! بل واصبح احد جنودها من خلال التنظير لها والدفاع عنها بتعصب وبدون تمحيص مما يعني انه وقع في مصيدة التناقض التي هي احد صور الانحطاط الفكري للمثقف بصورة عامة...
التناقض يمكن ملاحظته بسهولة من خلال العديد من الرؤى والمواقف الدالة على الجمع بين التناقضين في آن واحد...فمثلا يتهم الجميع امريكا بأن لها سياسة الكيل بمكيالين من خلال دفاعها المستمر عن اسرائيل بوجه منتقديها واعدائها،ولكن هل نظر غالبية المثقفين العرب الى تناقضاتهم المشابهة لحالة امريكا؟!وهل قاموا بعملية تصحيحية لها؟!...
الجواب: بكل تأكيد كلا!...فمازلنا نرى الكثير منهم يملئون الدنيا صراخا في معارضتهم لحاكمهم الطاغية ولكن في نفس الوقت يبذلون اقصى الجهد للدفاع عن طاغية آخر في مكان لا يعيشون فيه!!...وتلك الامثلة الساطعة في وسائل الاعلام تعطينا صورة واضحة لهذا التناقض الرهيب،فالكثير من المثقفين الحالمين بعالم خال من الاستبداد والارهاب دعموا انظمة استبدادية عربية حتى لو في فترة معينة،بل حتى فئة الشعراء والادباء الاكثر بعدا حسب معاييرهم الادبية عن القمع وقفوا بجانب طواغيت لا مجال لانكار جريمة بسيطة في سيرتهم الذاتية!...اذا عرفنا انه قد يكون للمال والجاه سطوة مؤثرة في تغيير المواقف فما بالهم في دعمهم المستمر لحركات الارهاب والتكفير بحجج واهية كالمقاومة والعودة الى الذات؟!...ليس هذا فحسب بل وصلت هزيمتهم الفكرية وخيانتهم الثقافية الى تزوير التاريخ والحقائق تحت مختلف الذرائع الزائفة!.
لقد اصبح التبرير سلعة رخيصة تتداولها الالسن في كل مكان بوقاحة منقطعة النظير! وليس غريبا في هذا الزمن المليء بالغرائب ان يتحول الجهلة الى قادة واثرياء يشار لهم بالحكمة والعبقرية ويتحول المثقف الى حمال يحمل مسروقاتهم او يحمل معولا يدفن فيه ضحاياهم بعد ان يلقنهم قبل الذبح!...
من الطبيعي ونحن امام تلك الحالة المأساوية ان يضعف تاثير المثقف في مجتمعه بعد ان اصبح كالطبال للراقصة في مخدع السياسي او قارئ بيان في كهف الارهابي المتخلف!...فهل يقبل احدا ان يقوده طبالا في صراعه الوجودي ؟!...
التعليقات (0)