مواضيع اليوم

هذه بضاعتنا...

قفصة تونس

2009-08-04 17:04:53

0

هذه بضاعتنا !!

 

هذا كتابٌ لن يُكْتَبَ لَهُ الرَّواج، ولن تُقَدَّرَ لمحقِّقه الشُّهرة؛ لأن سبيلَهما غير سبيله، وإنْ حدث أيٌّ منهما، فهو من الشذوذ غير المتوقع لما تثبته التجارب، ويؤكدّه الواقع، ويشهد به الماضي والحاضر، ولا أظن فيما سيكون إلاّ أسوأ مما كان. وليس ثمة شؤم ولا طيرة، فما تصير إليه الأمور سنةٌ قد خَلَتْ، ولن تجد لسنته تبديلاً.
فالكتاب يعالج (رذيلة) وَقِحَة تَفَشَّتْ في أمّةٍ مريضة، فاستساغت الكذب على نبيّها (ص)، وهي التي زعَمَتْ أنّها آمنتْ بهِ وبرسَالَتِهِ، ولو كَانَ الأمرُ حَقيقَةً لاكتفَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ، ولما أضحى الكذبُ عليهِ (عِلْكَةً) في حَنَكِهَا، فلا يفتأ المرءُ يَطْلُبَ مِنْ (هَذا) أنْ يكُفَّ عن الكَذِبِ، إلاّ وأَصَمَّ أُذنَهُ افْترَاءُ (ذَلِكَ) وتلفيقُ (هَذِهِ) وتَزْويرُ (تِلك)! فإذا به وحيدٌ حَزينٌ، لا يَجِدُ لِصوتِه صدى!
ولعلّ المؤلّفَ الذي توفّي في بدايات القرن العاشر قد عانى شيئاً ما من هذه الحالة حين أُجبر على أنْ يؤلِّفَ كتابَه هذا. وهو ما يستبين من خطبة كتابه المُوجَزة.
والناس لا ترغب فيما يؤلّب عليها قناعاتها الموروثة، فما بالك بمن يؤلب عليها أخبارها التي ابتنت عليها قناعاتها، فيجتثها من جذورها، فتستحيلُ أثراً بعد عين. ويشترك في ذلك العامة والخاصة، فـ (العامةُ) يطرَبونَ للكذبِ ولا يميلونَ للنقد وإعمال العقل، ويستمرئون الأخبار أياَ كانت، والحواديت المسلّية كيفما اتفقت، ولا يفرّقون في القراءة بين سيرة النبي (ص) وأقواله في كتب التراث الديني أو سيرة (السندباد البحري) في كتب التراث الأسطوري!
أما (الخاصة) فهي طوائفُ عدّة تتفق جميعاً في مقدماتها، وتختلف في نتائجها، ولا غرابة في ذلك، فالمنطق الأرسطي يمكنك أن تفعل به ما تشاء، ولا يخدعنّك أن اسمه (المنطق)! وجميعهم يكرّث للكذب لأن وجودَه مرتبطٌ به، فهو إما (حبرٌ متزمت جداً) يقتات من الكذب بقدر ما يبقيه في نظر العامة (حبراً) موسوعياً يجد إجابة لكل شيء في أيِّ وقت، وهو إذ يركن إلى الصدق فلن تتاح له هذه الموسوعية المزيّفة، وإما (مثقف متحضر جداً) اتخذ من الكذب المنتشر بصورة فاحشة متكأً للتجديف على الشريعة، ومسوّغاً للخروج عليها والسخرية منها! أو حتى اعتبار الدّين أسطورة صنعها الإنسان، وأنشأها بعبقريته كما فعل الإنسان اليوناني والإغريقي واصطنع وثنيته! وهذا الفريق لا تروقه أيضاً هذه الكتب، فهو يريد أن ينطلق عابثاً في لعبته مع التراث لا يصدّه منهج ولا يعيقه عائق!
وبين (الحبر المتزمت) و(المثقف المتزمت) أطياف وفرق وأشكال وألوان... لكنّ جميعها تتفق على عدم اتخاذ منهج واضح للحكم على الأخبار، وما يندرج تحتها من سير وتاريخ ... أو فقه وأصول... أو عقائد وتفاسير.
وهناك شيء (مُنفّر) من هذا الكتاب أيضاً، هو أنه ينتمي لفترة زمنية (متدنية) إبداعياً –علماً وأدباً-، هي العصر المملوكي، الذي لم يكتف فحسب بما فعله بالتراث من إضاعة معالمِ أيِّ لمحةٍ منهجيّةٍ مضيئة عبر الإسهاب الممل في الحواشي والتفسيرات والتهذيبات والاختصارات، حتى شرع من تصدّى فيه للنقد المنهجي للآثار يُفسد كثيراً من قيَمِهِ العِلميّة الواعية التي اعتمدتها عقولٌ ناضجةٌ فذَّةٌ فَريدَةٌ. لكن (الكتاب) على الرغم من ذلك يقيمُ الحجّةَ على أهلِ عَصْرِهِ وخَلَفِهِم، بأنَّ ثَمَّةَ باباً للصدق لم يَلِجُوهُ مع سَبْقِ الإصْرَارِ والتَّرَصُّد!
ولن يكون من الإنصاف أن يروَّجَ للكِتَاب -تجارياً- على الطريقة التي ينتهجُها المحقّقون والناشرون، فيكيلون المدائح للمؤلِّف وعصره، ومنهجه وإتقانه، والكتَابِ وعبقرية تأليفه؛ فلم يكن (نور الدين السّمهوديّ) إلاّ رجلاً فَاضلاً في ضوء ظروف عصره... لا أكثر من ذلك ولا أقل!
والمحقّق يدرك ذلك جيداً، ويعي أن جلّ من تصدى للعلم واتُّصِفَ بِهِ في تلك الفترة، كان يلجأ إلى الكتابة والتأليف والنساخة على أنها بضاعة رائجة، وليس لدينا دليل على خروجِ (السمهوديّ) عن هذه القاعدة التي تثبتها قراءة العصر المملوكي وما حوله –عموما- وتؤكدها روحُ التكلّف لدى بعض المصنِّفين لتمتلئ خِزَانَتَهُ بمؤلَّفٍ جَديدٍ في بابٍ جَديد، ولا يهم إن كان نسخة مكرورة من سابقيه، أو مشوهة منه، أو... أو...
غير أن ما يحسب لهذا الكتاب هو جُهد محقِّقِه الجَهيد، ودقته في مقابلة النُّسخِ المخطوطة، وبيان اختلافاتها، ودأبه في الوصول إلى (النصوص) الأصلية، والعودة بها إلى جذورها في بطون المصادر الرئيسة، وفق منهجٍ واضحٍ جداً، ومفيد جداً، لا يقوم على الحشو المتكلّف في الحاشية بإضافات باردة، أو نقول مطوّلة من مصادر بعيدة وقريبة، وهي الخصال (المقيتة) التي يتلذذ بممارستها كثيرٌ من المحققين المعاصرين إذ يشيّدون على الصفحات المخطوطة القليلةِ مُجلّداً ضخماً. وقد وقفتُ على ذلك عن كَثَبٍ حين قمتُ بمشاركة المحقّق القراءةَ والمقابلةَ لبعضِ صفحات الكتاب. ثم قراءة النسخة المحققة كاملة قبيل دخولها المطبعة.
وإذا كان التحقيق يُعني بإعادة نشر الكتاب القديم على أقرب صورةٍ قد نظنّ أن المؤلّف سوفَ يرتضيها، إذا كان حياً بين ظهرانينا؛ فإن القاريء المدقّق سيعلم أن هذا التحقيق وفوائده – غير المتكلّفة- أضاف للكتاب ولمؤلِّفِهِ، حتى خَرَجَ بِصُورَةٍ أفضل مما كان يأمل (السمهوديّ) أن تصير إليها.

 

(من مقدمتنا لكتاب : "الغماز على اللمّاز" لنور الدين السمهودي)
تحقيق: وليد متولي
مكتبة الفاروق- القاهرة - 2009  (تحت الطبع)

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !