هذه المدينة لا تعرفني
قصة قصيرة لسعيف علي الظريف
في الفجر خرجت جنّية كنت أراها كل يوم في لحاف جديد ،
و رأيت معها أربعة رجال رفعوا ستار الليل وأكلوا مكنستي .
عم حمادي الكنّاس عندما سألوه لماذا أضاع المكنسة .
لم أستطع النوم البارحة .ضل جوف الليل يقلبني ذات يمين وذات شمال .كانت الوساوس و الجوع يمخران فيا وتقبل الهواجس كأنها اللعنة .حاولت أن أغالب كل العنف الذي يأججني و يترنح لهيبه في أوصالي، لكني لم استطع أن أظفر حتى بإغفاءة صغيرة .كنت أعود مدحورا إلى ربقة السهاد.كانت حرارة جسمي تزيد هذه اللعنة انغماسا و صلفا ،كانت تارة ترتفع وتارة تنخفض كأنها تلاعبني .كنت ادفع الغطاء عني تم أعيده إلى كتلتي الأسيرة الموبوءة .
الليل طويل و جوفي كأنه بئر عميقة لا يتلالؤ في مائها غير سراب غريب للأنوار المزيفة . ...اى لعنة تأسرنى و أى جسد يضعني على عتبات الهاوية ويطحنني .كنت كالهوس الدامي وكنت في فراشي كان المرجل يستعذب فيا رائحة الحريق .
الليل طويل كأنه نفق بلا نهاية .نفق ليس فيه إلا الرحيل و الوجع .كانت الضلال المرسومة على الحائط المقابل للنافذة تسمعني ترتيلا غريبا و تجوب أمامي كأنها رؤوس مقطوعة .لم يكن بإمكاني أن أغلق لوح الشباك لأنه لم يكن موجودا أصلا ولأني لم أكن أقوى على الحراك .كانت الساعة الحائطية تنخرط هي أيضا في لعبة السهاد .كانت تتوارى عني ثم تعود لتنبهني إلى انغماس الليل في طول قاتل ...العاشرة ...العاشرة وعشرة دقائق ...العاشرة و واحد و عشرين دقيقة ...العاشرة و خمسين دقيقة...الحادية عشرة ....الحادية و ثلاثون دقيقة...الواحدة بعد منتصف الليل ....الواحدة و الربع ....الواحدة و ثماني عشر دقيقة....الثانية بعد منتصف الليل ...
كان تفكيري المشوش يزيدني تشضيا .لم أكن استطيع أن اجمع فكرة واحدة تبعدني عن عقال الوساوس وتنسيني غول الوقت وزبانية الدقائق وتخرجني من الشقة .كنت عاجزا عن الإمساك بخيط واحد أستقيم به ويشد من أزري ويستقيم بي و يبعدني عني و يوغل بي في صفاء و رتابة بسيطة تعيدني إلى النوم لكن ذاكرتي كانت بلا باب يولج.كانت كالعماء .
لازالت الساعة تلاعبني و تخرج دقائقها ببطء و تمسكني.كانت تعود بلعنتها و تعود بالليل إلى طوله.....الثانية والنصف بعد منتصف اليل ....الثلاثة بعد منتصف الليل ... ...... ..... .... ..... ......
جاء الفجر أخيرا عند شباكي ..كان نوره وضياءه الكسول مريبا . كل ما كان يفعله هو أن يتسلل في ببطء و يوارب الشباك بضوء خفيف مضطرب يزيدني إحساسا بالكارثة .لكنه يكاد بدوره أن يقتلني.ثمة حقا من يضغطني و ينفخ في أوداجي و يكورني .إني أكاد أن اجن و أكاد أن امضي في البكاء بلا تردد لولا أني كنت دائما أقف عند الأعتاب و التمترس عند الحافات و الوقوف على خطوط النهايات دون أن أتخطاها أو أهفو عنها.وكانت تلك بعض من لعنتي .
الفجر عندي . ولا أضنني سأظفر عنده بالطمأنينة و لا بعض من النوم الذي بحثت عنه ليلة كاملة.لم يكن في لائحة النور المتثاقل مع صلف الظلمة المتبقي و لا لتلاشي تركيزي رجاء ولا أمل في أن أستريح من هذه الزلزلة و هذا التململ.كان الفجر يقرر براءة الليل من علة السهاد و يستمر في الإعلان عن خطيأتي و عن خسارتي .
لم يعد بإمكاني المكوث في الشقة .وضعت رأسي تحت الصنبور وجعلت أتلذذ الماء البارد وهو يلامس شعري الخفيف و وجهي الجامد .كنت أود بحق أن استرجع بصقيعه بعض توازني .لم تكن في وجهي قطرة حياة واحدة أو دفقت نور صغير في عيوني المتعبة.و
كانت المرآة المترهلة تزيد هذا الإحساس الفاضح.
كنت بحاجة إلى منبه قوى يعينني على الوقوف و ربما إلى قطع من السكر تفتح ما استغلق في ذهني وشوشني.كنت بحاجة إلى أن ادفع عني الاكتئاب الذي وضعني عند قدميه و كتب ارقه في أجفاني المكتحلة بسواد التعب .و جعل أنفاسي لهاثا .كنت بحاجة أيضا لان أوقف تبرمي الدائم و المرضي و أن ابتعد عن الإحساس بالفاجعة و الإحساس بالكارثة و التهمة و أن يغمسني في الحياة بالكلمات البسيطة و بالأسماء الموجودة في المعاجم.ولكني شقي في كل هذه الكتلة الدابة على الأرض و المعلقة إلى غير سماء، والى غير شيء.كيف يمكن أن تعيش داخل الفاجعة وان تضحك أو تغني بصدق و أن تصل بالحب إلى قلب يؤويك .
دخلت المقهى متعبا و اتجهت إلى الكنتوار.نظرت إلى عم مصطفى
عم مصطفى من ".صباح الخير . اكسبريس شديدة الضغط . فضلك .أين السكر .أريد ثلاثة طوابع .لا تنتظر أن أعطيك النقود.لقد خرجت على غير هدى .نسيت حتى حقيبتي .هل رأيتني قبل بدونها .لايمكن .لايمكن أن أكون أنا . قلي بربي أترى يكون الطقس غائما و ممطرا.لا أريد أن اضطر للعودة إلى الشقة .لا أريد اضطر أن أعود إلى هذا الحي .لن أعود حتى ولو أمطرت كل السحب على رأسي ."
كان عم مصطفى ينظر إلي و دون أن يكلمني كعادته أو ينبس بحرف واحد.كان يعمل في صمت لا يغير غير معالم سحنته ليعطيك الانطباع انه يتابع معك الحديث.دفع القهوة أمامي في حركة ميكانيكية أنيقة و دفع معها السكر.
كانت الشمس تشير إلى بعض الدفء الذي ينتظر المدينة.كانت الحركة قد بدأت تدب فيها..عادت الأصوات المختلطة إلى الشارع الرئيسي بعد أن أطبق السحاب وأطبق المطر عليها لمدة أسبوع كامل .أصرت النشرات الإخبارية و النشرات الجوية على فوائدها الجمة على موسم فلاحي طيب. كانت تريد أن ترفع المزاج العام وان تبرر حتى التفاؤل .كان كل شيء يبدو مبللا ولامعا . كنت أسير و أنا أحاول أن أجاهد لتجنب البرك التي احتلت حتى الأرصفة فقد كان الإجهاد يمنعني حتى من محاولة القفز.جعل الوهن يراقصني و الماء و الترح ولا يقفز فيا إلا الجفاف .كنت امشي كسكران بلا نشوة و لا غياب ولا كلمات نسيان . كنت أمشى على غير هدى . اطا الأرض واسمع لوجيبها .
إني أكاد أن اجن.احس تنتقل حركة المدينة إلى رأسي. كأن أذناي قمع لكل الخليقة التي تتجول حولي.تترادف كل الأصوات فيها و تتكاثف.أصوات السيارات وأصوات العجلات وهي تمخر البرك و تضع للماء صوتا وأصوات الباعة و أصوات التحيات الصباحية وأصوات الأحذية النسائية المدببة و صوت الصداع الذي بدأ يشتد . يكاد رأسي أن ينفجر و قد أصبح بحق مثل قوقعة تحتفظ بهدير البحر .تكاد الهواجس أن ترفسني و تربطني إلى التوجس والى الخيفة و الخلط و الوهم وأكاد لا اذكر غير أسماء قليلة ممن اعرفهم و يعرفون أني أصبحت أحب الصمت .
" لا احد يعرفني في هذه المدينة.لا يعرفني في هذه المدينة احد. صدقني يا صالح لقد أصبحت غريبا مثل كل حجارة هذه المدينة الآسنة بالأبخرة و الكذب ".جذبني صالح إلى الكرسي المنثور على الطريق، بعد أن سمحت البلدية للمقاهي ان تخرج فتنة الجلوس إلى الأرصفة .ضغط على يدي و هو يبدي تعاطفه مع نبرة اليأس التي كانت كل صوتي .كان يقول كلاما كثيرا و عظيما مليئا بالحكمة .كان يبرر أن القلق دليل الحياة و أن التعب و اليأس هي الأكثر قسمة بين البشر".الراحة معنى ،أبدي و السعادة كذلك ليست إلا غفلة عن المعنى الحقيقي للبشرية .لا تحزن وانغمس في الهيام بشيء تحبه .هل تريد أن تشرب شيئا .أنا أريد أن اجلس إليك".دفعت يدي إلى كتفه و قلت شكرا وأنا انسحب في سرعة".أراك يا صالح لاحقا .قلت لك أن لا احد يعرفني في هذه المدينة."
لا يمكن أن صدق ما جرى. لا يمكن أن استوعب أني أضعت الفرصة لدخول سلك الأساتذة الجامعيين. كنت سأرضى فقط بخطة ملحق بأحد المعاهد العليا .كان الحنق ينتابني و أنا أواجه الأساتذة المكلفين بالانتداب .لم أستطع أن أتمالك نفسي أمام استهزائهم بالنتائج التي توصلت إليها في رسالتي و اتهامي بالسرقة وعدم الأمانة.
كان كل ذلك يحفزني أول الأمر على الإطناب في تحليل النتائج و الدفاع عن أطروحتي لكن تعنت الدكتور غريب أوصلني إلى فورة من الغضب القصوى لم أعد معها قادرا على كتمه .كنت مطالبا بأمر خارق .كان على أن أتكلم وان أكظم الجموح الذي يكسوني حتى أخمصي لكني لم استطع أن شد على نفسي .كان العرق بتصبب من كل جزء في جسمي .
كان الأمر مستحيلا.
"لا يمكن لكم محاكمتي. اختلاف المنظور و التصور ليس أمرا طارئا في التحليل العلمي سيما إذا كان الأمر متعلقا بعلم إنساني كعلم الاجتماع .لقد لقنتمونا طول السنوات الأولى للطلب أن تجميع السند العلمي لا يكفي من دون تحليل كاف وان النتيجة مرهونة بعمل الترتيب والحفز العلمي لعناصر دون أخرى .وليس من صميم البحث أن يشاكل أو يطابق التحاليل التي تندرج في الموضوع نفسه أو تاطره .أنا بحق آسف لعدم مطابقة نتائجي لنتائج أستاذنا الكبير ولكني برهنت على ما توصلت إليه .وأحب أن أقول إذا أغفلت أن اذكر أطروحتا ما فلخلل في تداول المعلومات في مكتبات الجامعات التي زرتها والتي أذكركم أني زرت جلها .أنا بحق لا استطيع أن افهم ...."
لم استطع أن أكمل الحديث. أبلست وكان الصمت يقتسمنا لبرهة حتى بادرت الدكتورة سكينة "اللجنة تأسف لعدم قبولك في هذه الدورة لكن بإمكانك أن تمدنا ببحث مستقل جديد في المرة القادمة . تأكد أننا سنعتمده إذا كان جادا وعلميا" كانت أعينهم كالفراغ وكنت نارا تلظى .خرجت متبرما وغير متحسر على صفاقتي وأنا متأكد من أن اللجنة تتهكم و تسخر مني .
هذه المدينة لا تعرفني .تهرسني و هي تلفظني مثل علكة رخيصة بعد أن تلوكني و تزيد يقيني بالعجز.أحسست أني بحق كنت اكتب طلاسم وألغازا لا تحل منذ انخراطي في البحث الجامعي .خربشات مثل التي كتبها صبية بطبشور احمر على حائط قديم شرعت أتبول عنده و أنا انظر يمنة و يسرة .كنت بحق خائفا من يخرج احد من إحدى الدور القليلة في هذا الزقاق غير النافذ.
سعيف علي الظريف
صيف 2009
التعليقات (0)