تشهدُ دول العالم، منذ بدايات 2007، زحفاً تضخمياً، لم تعهده من قبل. وتواجه راهناً، أزمة مستجدة كانت كامنة منذ أكثر من عقد. المصارف المركزية الكبرى في العالم، في حيرةٍ بين خفض الفوائد الأساس، التي يتطلبها النهوض الاقتصادي من الأزمة العالمية، وتحفيز الانتعاش في العالم، وبين كبح جماح التضخم، وهو يفرض اعتماد مستوياتٍ عالية للفائدة. ففي الولايات المتحدة، حيث تقلّصت القدرة الشرائية للأسر، يتم خفض الفائدة من جهة، وتُعادُ إلى المكلَّفين حصصٌ من الضرائب. فالقدرة الشرائية هي عصبُ الاقتصاد الأميركي. 71 في المئة من الناتج المحلي يتكوّن بفعل الإنفاق. تعزيز الإنفاق يعتبرُ قارب النجاة للاقتصاد الذي أغرقته أزمة الرهن العقاري العالي الأخطار.
في الاتحاد الأوروبي، يعاندُ البنك المركزي احتمال خفض الفائدة، فهوامش التضخم تبـــدو قاتلة. وفي روسيا يــسعى المركزي إلى رفع الفائدة بدوره، بيـــنما اعتمدت الصين، مراقبة أسعار المواد الغذائية، ونوّعت آليتها. وتسعى دول الخليج، لا سيّما دول في مجلس التعاون، إلى اختيار آلية للتصحيح، فزيادة الأجور، قد تمتـــص إيجابيات عائدات النفط. فالمملكة العربية الســعودية، وعلى رأسها خادمُ الحرمين الشريفين، تسعى إلى زيادة الأجور تدريـــجياً على مدى ثلاث سنوات، مع مفعولٍ رجعي لها، مع ما يكلّف الخزينـــة من أعباء إضـــافية تفوق 15 بليون دولار في قياس الزيادات خلال السنة الثـــالثة. فيما تبحثُ بقية دول الخليج منفردةً ومجتمعة، عن سبيلٍ لتحرير عملاتها من عبء الارتباط بالدولار. لأنها تدفـــع ثمــــنه ارتفـــاعاتٍ قياسية في معدلات التضخم. وفي المغرب خفّضت الرســـوم الجــــمركية تلافياً لمزيدٍ من زيادة الأسعار.
لذا يبدو التضخم معضلة عالمية غير مباشرة، أفرزتها أزمة الائتمان العقاري غير المحصّن، وانخفاض قيمة الدولار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والأولية. « ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أشارت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو)، إلى ارتفاع الأسعار وتمدّد معدلات التضخم في العالم. وأظهر مؤشر المنظمة في أيلول (سبتمبر) ارتفاع أسعار المواد الغذائية 37 في المئة على مدى عام، في مقابل 9 في المئة فقط في 2006. وذكر بيانٌ لها، «نادراً ما عرف العالم انشغالا عاماً في مواجهة تضخم أسعار منتجات الغذاء، كالذي يشهده حالياً، وخوفاً يغذّي الصراع حول الخيار المستقبلي لأسعار المنتجات الزراعية في البلدان المصدّرة والمستوردة معاً، سواء غنية أو فقيرة».
ولا يعزى ارتفاع أسعار هذه المواد، إلى تغييرات مناخية، فقط، بل أن أسباباً كثيرةً أسهمت في زحف الأسعار صعوداً، نتيجة للطلب العالمي المتزايد. فالدول الناشئة، مثل الصين والهند، شهدت ازدياداً في الطلب. شريحةٌ كبيرةٌ من السكان تحسَّنَ دخلها بفضل النمو المحقق، وباتت ميسورة، فأوجبت تعديلا في النظم الغذائية وزيادة في الطلب. ولتلبية حاجاتها من اللحوم مثلاً يحتاجُ إنتاج كيلوغرام منها إلى 8 كيلوغرامات من القمح. كذلك غيّر تحويل الزراعة إلى إنتاج المحروقات «الخضراء»، المعطيات. هذا الإنتاج يستهلك 50 في المئة من موسم قصب السكر البرازيلي، و20 في المئة من محصول الذرة في أميركا و50 في المئة من الكولزا (اللفت) الأوروبية.
كذلك يوجد رباط وثيق بين الدول الناشئة والضغوط التضخمية، يترجم بالشره تجاه المواد الأولية. مؤشر «ذا إيكونوميست» (The Economist) لأسعار المواد الأولية بالدولار، سجل منذ سنة، ارتفاعاً بنسبة 26 في المئة. مؤشر المواد الغذائية ارتفع 50 في المئة، سعر البترول انفجر ارتفاعاً بنحو 80 في المئة. هذه الزيادات تشكل الأسباب الرئيسة للتضخم العالمي. وعلى عكس الانكماشات السابقة في اقتصاد الولايات المتحدة، التي سحبت أسعار النفط وغيره من الموارد نحو الأدنى، فإن الأزمة الحالية تصعدُ بها بجنون. وربما تصمد الاقتصادات في مواجهة انكماشٍ أميركي، لكن يجب على النمو الكلّي، ألا يزيد سرعته، وأن يبطئ الطلب على المواد الأولية.
فهل يجب تجنّب القلق حول التضخم؟ ليس كلّياً بالطبع. فالتضخم الواقعي، أي المنزّه عن العوامل الاستثنائية والمناخية والطبيعية، ينمو أيضاً، ممهِّداً لأن ينتقل الضغط على الأسعار، إلى منتجات غير المواد الأولية. ويتعلّق الأمر بدرجة التضخم التي يسهم بها المستهلكون، ما يشكل قلق البنك المركزي الأوروبي.فمساهمة المستهلكين في التضخم على المدى البعيد كانت مستقرّة بمعدل 1.9 في المئة سنوياً، في الأعوام الخمسة الماضية. لكن مساهمتهم في 2008 ارتفعت بقوّة. ورغم أن معدل البطالة ضعيف، تطالبُ النقابات، من ألمانيا إلى إيطاليا، بزيادات جوهرية على الأجور. وزيادات الجور لا تسمح بتفادي خطر حصول تضخم لولبي، في منافسة تصاعدية بين الأجور والأسعار، ما يفسّر المواقف القتالية للبنك المركزي الأوروبي تجاه معدلات الفائدة.
يشبه التضخم جسماً مهيّأ للانتفاخ باستمرار، الاثنان مؤهلان للتمدّد. أسعارُ الاستهلاك تتصاعد يومياً. وبينما تتعايش الولايات المتحدة مع الانكماش، تشير إحصاءاتٌ إلى أن أسعار الاستهلاك ارتفعت 4.1 في المئة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستوى 3.1 في المئة، المستوى الأكثر ارتفاعاً المسجل منذ إطلاق العملة الموحدة في 1999. المعدل الصيني للتضخم بلغ 6.9 في المئة، وهو لم يكن بهذا الارتفاع منذ أحد عشر عاماً. وبحسب مؤشر غولدمان ساتش، سجّل معدّل التضخم في العالم مستوى 4.8 في المئة. تاريخياً لا يوجد في هذا المستوى ما يُقلق، لأن معدّل 5 في المئة ارتفاعاً في الأسعار، لا تنذر بالعودة إلى معدل تضخم من رقمين، كالذي شكّل كابوساً للدول الغنيّة في سبعينات القرن الماضي. مع ذلك، فتطور التضخم يثير التساؤل.
ويتهيّأ العالم إذاً، ليتأقلم مع التضخم الذي نسيه منذ 1990. ففي الواقع تجاوزت معدلات الأسعار، في أي منطقةٍ من العالم، المسارّ «الاقتصادي الصحيح» لمستوى 2 في المئة نهاية العام الماضي. وكان يمكن أن تكون الدول المنتجة للنفط في منأى عن هذا التضخم، لكن للأسف تأثّرت بالارتفاع ذاته، سواء في دول الخليج أو روسيا حيث تجاوزت معدلات التضخم 10 في المئة.
فهل يعاني الاقتصاد العالمي من تآكلٍ في معدلات نموّه، في جزءٍ بسبب الانكماش، وفي جزءٍ أهم بسبب التضخم، علماً أن توقع معدلات التضخم في بلدانٍ متطورة، أعلى من توقع معدلات النمو؟
|
التعليقات (0)