هذا الصباح ... رابح التيجاني
هذا الصباح ، ألوذ بكم أحبائي ناعيا لكم عودي المأسوف على كيانه وزمانه ، عودي الذي انكسر بفعل فاعل مجهول من الدرجة الأولى من صبيان العائلة لاشك ، ولا أحد يقر بهذه الفعلة الشنعاء ، ويقسم بأغلظ الأيمان بأنه بريء ، ولكن لابأس ،فإذا كان المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته فالبريء عندي متهم إلى أن تثبت إدانته، كسروه ، لم يتكسر ، يستحيل أن يضع حدا لوجوده وصموده طيلة عقود وعقود هكذا بمفرده وبمحض إرادته ، فجأة وبدون مقدمات ، وهو المرح المنشرح دائما والطروب كل آن وحين والصبور على الشدائد والملمات ، فكم سقط أرضا وتحامل على ذاته ونهض برشاقة وخفة ليواصل مشواره بكل جلد، أواه يا أحبائي أنعيه اليوم وفي الحلق غصة وفي القلب حرقة وفي الروح لوعة ، أين مني عودي الذي أصبح في خبر كان ، أي لي بجليسي وأنيسي بعد عشرة عمر كنا فيها سمنا على عسل أو عسلا على سمن ، لا أدري من شدة الارتباك والهول وقوة الصدمة ، لا أنا تخليت عنه ولا هو تخلى عني حيثما كنا وأيا كانت الظروف ، أذكره صداحا في الأفراح والولائم ، مواسيا في الأتراح والمآتم ، واليوم هاهو ككل كائن يعانق الفناء فآه وآه وها أنا ألجأ إلى مواساتكم وسندكم له ولي ، ادعوا له واذكروه بخير واستحضروا تلويحاته وسرحاته وتذكروا ، فالذكرى عمر ثان ، حسرتي لا أطيق فقدانه ليتني كنت مكانه ، كيف لي بترميمه وهل للكأس ، مجرد كأس فارغ كي لا تذهب بكم الظنون أي مذهب ونحن في موقف الحزن هذا ، هل للكأس أن يستعيد بلوراته وقد تناثرت شذر مذر ، إني أرى جثمانه مسجى أمامي بأضلاعه وسنمه وعنقه ويده وأوتاره بتجويفه ولوالبه ، أراه جثة هامدة وكأنه ما دندن يوما ولا غنى، أراه في أتون النار لابديل عنها ، فما أسلف ليس بالقليل وما قصر تقصيرا ، عفوا بل قصر حد ماشاء ويالها من قصارات ، أراه بين ألسنة النيران في جهنم فران أو حمام، أرى نهايته احتراقا واشتعالا والتهابا إلى أن يتفتت رمادا تذروه الرياح ، خاتمة الابداع الجميل ، ذلك وعده وعهده وديدنه منذ كان الفن رديفا للألم والمأساة ، والوعتي عليك ياعودي ، من لي بعدك في هذا المدى الأصم الأبكم ، ولمن تتركني ، للكمان أم للناي أو للغمغمات تترى تباعا والآهات ، ذاك قدرك ياحبيبي ، لا مفر من النار ولا مهرب ، فما عشت إلا لاهيا سادرا سارحا، تسبيحك ياليل وياعين وصلاتك مواويل ، رافقت الندامى والسكارى والضالين ، آمين ، وما فكرت يوما في أمداح أو أناشيد تاركا ذلك للدفوف والبنادير والطرور ، وهل أقوى حتى على التأوه بعد هذه الضربة العاتية القاصمة للظهر ، طول عمري ما بدلتك ولا استبدلتك رغم تواضعك وسوقيتك وتدني محتدك خشبا وصنعة ورونقا وصوتا ومظهرا ، أعرفك رخيصا في قيمتك محدودا في قدراتك ومؤهلاتك ولكنك كنت اختياري، بديعا ورائعا في نظري ، والعتب على النظر ، أعرفك كما أنت وتعرفني أيضا ، أخفي فيك ضعفي وأختفي وأحتمي بك كلما استهجن السامعون العزف ، أقول واثقا لكل الدنيا بأنك السبب وليس تدنيا في مهاراتي ومستواي أو نقصا في تكويني ، معاذ الله والحق يقال ، الحق أبلج والباطل لجلج، كنت أجد العذر فيك والمبرر أنت ، فأنت سبب رداءة أو تواضع ما نغنيه معا ،وليس أنا ، ولم تبد يوما امتعاضك مني ، كنت حنونا رؤوما رؤوفا خروفا دائما وأنا أحضنك وأنقرك وأخربش على أوتارك وأدغدغ أضلاعك ، فوداعا وإلى النار تطهرك وتعمدك ، وإني لفي حزن أليم وكرب عظيم ، لا عزاء لي في فقدانك ولا سلوى ، لن أستعيض عنك بأي عود كيفما كان ، مصنوع أو منقوش من صنع محلي أو مستورد من تركيا أو سوريا أو العراق أو لبنان ، بحثت في السويقة والمنال وسألت أصحابي وأصحاب الحال أين ألقى شبيهك ومثيلك ونظيرك أين ألقاك أنت وأنت بالذات ، يالفداحة خسارتي، لن أجد عنك بديلا أيها المرتعش الأخرس المتضعضع ، فالحب للحبيب الأول وليس سهلا ولا هينا أن يحتل مكانك بين أضلعي أي خشب كان مهما كانت جودته ونغميته ، جلت يومي وصرفته هدرا بين دكاكين باعة آلالات الموسيقى وما أثارني ولا شدني أي مشقوف رغم بهائه ، لا أراك إلا أنت ، ولا يخطر ببالي إلا نضالك في هذه الجلسة أو تلك وشاربا لعتمات الدخان وسكرانا نشوانا مع الندمان وممتلئا بزعاريد النسوان متحرشا بهن بغمزاتك ، مرافقا لي في كل مكان وكأنك أنا وكأني أنت وحتى أيام الكساد وانصراف الناس وانصرافي عن الموسيقى كنت تظل قابعا هناك بجلبابك الوقور الذي اقتنيته لك قبل أن أقتني لنفسي جلبابا وما حسدتك وما غرت منك ، بل غبطتك ، جلبابك الذي سيبقى لي أثرا يذكرني بك ويعزيني فيك مهما عشت أيها الرفيق الذي لا حيلة لي في فراقه،، صباح وأي صباح ، قضيت الأمس نهاره وليله مهموما بك ومتحسرا عليك ، وأفقت على ذكراك ، فأكرم بك وبأيامك ، وأحبب بصمتك وبأنغامك ، وعزاء لأهل الطرب في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الرزء القاتل والخطب الجلل الذي لن يدرك مرارته وحدته وفداحته إلا الراسخون في الموسيقى ،العارفون بأفضال الآلات وأصولها وأصالتها المدركون لإنسانيتها وروحانيتها وجوانياتها ، أحم أحم .
التعليقات (0)