هجوم على بوفيه مفتوح

بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

كان مؤتمرا كبيرا نظمته جهة حقوقية، وفي فترة الراحة بين الجلسات تم فتح البوفيه المفتوح فهجم حضور المؤتمر هجوما وحشيا وجميعهم من النخبة والمثقفين، تراجعت خطوة للخلف لأقف بجوار المسئول عن الجهة المنظمة وانفتح حوار بدأ ساخرا وانتهى جديا عن سلوك المصريين في البوفيهات المفتوحة ودلالاته.
ويتكرر هذا السلوك في الأفراح بشكل أوضح والتهافت في هذه الحالات لا يكاد يستثني أحدا غنيا كان أو فقيرا. وللسبب نفسه فإن الناس تبالغ في كمية الطعام التي تأخذها لا تعبيرا عن جوع مبالغ فيه بل عن خوف مرضي. وفي الفنادق لا يختلف الأمر بل يكون أكثر إثارة للانتباه بمقارنة سلوكن بسلوك غيرنا من الجنسيات الذين يتصرف معظمهم بشكل مختلف تماما.
والظاهرة تكشف عن شيء أصبح يطبع الشخصية المصرية بغض النظر عن مستوى التعليم ودرجة الثقافة والوضع الاقتصادي، وهذا الشيء اسمه "ثقافة الندرة"، فنحن جميعا – تقريبا – في أعماقنا إحساس بالندرة وبأن المطلوب أقل بكثير من المعروض ولذا يجب علينا الهرولة حتى يكون لنا نصيب فيما هو متاح وبالتالي لا مانع من شيء من العنف الحقيقي أو الرمزي حتى لا نخرج من المولد "بلا حمص"!
وشيوع ثقافة الندرة في المجتمع المصري يحتاج إلى تفسير لأننا لسنا بلدا صحراويا يعيش أهله على تتبع موارد محدودة من الماء والعشب ولم تشهد بلادنا مجاعات متكررة شأن كثير من البلاد الأفريقية، ولذا فإن شيوع ثقافة الندرة وترسخها على هذا النحو لا يمكن أن يأتي عرضا. وبالطبع لا يعني هذا أن القناعة بفكرة الندرة هي قناعة واعية يستطيع أي شخص أن يشرحها أو يدافع عنها، بل هي نتاج عملية تربوية تتم بوسائل غير منظورة، لكنها تبلغ من القوة حد أن أحدا لا يستطيع الإفلات منها إلا من رحم ربي.
والأنظمة الشمولية كنظام مبارك تعتبر أن من أوجب واجباتها القيام بدور تربوي تعيد فيه هندسة شخصية المحكومين بشكل منظم وواعٍ، لتأكيد صفات ومحو أخرى. ولتربية المواطنين على ثقافة الندرة تستخدم وسائل عديدة تبدأ من ألعاب الطفولة وأوثقها صلة بثقافة الندرة لعبة تسمى "الكراسي الموسيقية". وانتهاء بأزمات الاحتياجات الأساسية للمواطنين هدفها الأول والأخير تعزيز فكرة الندرة، فهذه الأزمات تمتد قائمتها لتشمل: الخبز، أنابيب البوتاجاز، السجائر، البنزين...... وفي حالات كثيرة يكون واضحا تمام الوضوح أن التفسيرات المعلنة غير كافية لتفسير ما يحدث.
وفي رواندا قبل الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1994 وقتل فيها ما يقرب من مليون من المدنيين كان الإعلام العنصري شيع حالة من الخوف من "ندرة الموارد" التي تعانيها البلاد وتؤكد لأقلية الهوتو أن الحل الوحيد للحصول على ما يكفي من الموارد هو إبادة التوتسي!
ومن جرائم القتل بسبب الخلاف على مبالغ مالية تافهة إلى الصراع على موارد الرزق (وأشهرها القتل بسبب أولوية التحميل بين سائقي الميكروباص) تطل ثقافة الندرة برأسها من قمة المجتمع وقاعدته، صحيح أن تأثيرها بين الفقراء أوضح وأخطر، لكن المرض واحد.
وثقافة الندرة هي الأب الشرعي لثقافة "الكراكيب" والاحتفاظ بكل شيء مهما كان تافها تطبيقا لأمثلة من نوع: "يا مستكتر الزمن اكتر" و"من شال شيء قال له الزمن هاته".
وأخطر ما في شيوع ثقافة الندرة أنها تعزز قلة الثقة برب العزة سبحانه وتعالى وتشعر من يترعرعون في ظلها أن عليهم التسلح بأكبر قدر من ممكن من العنف والطمع والنهم والأثرة والأنانية.....إلى آخر الصفات التي تحول العالم إلى غابة بكل معنى الكلمة.
إن ما يحدث في البوفيهات المفتوحة مجرد نموذج لعمليات مسخ مخططة سلفا تعرض لها المصريون لسنوات، حتى تكاد الشخصية المصرية تتحول إلى مسخ، والحجم الهائل للتأثيرات السلبية للدور التربوي للدولة تستوجب فتح نقاش جاد حوله.
وبالتالي الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها:
فما المشروعية الدستورية والقانونية للدور التربوي للدولة؟ وما حدود هذا الدور؟ وما محتواه؟ وما وسائل تنفيذه؟ ومن القائم على تنفيذه؟ وبأية سلطات؟ وما الذي استباحه النظام السياسي من محرمات ليعيد "خلق" الشخصية المصرية وفقا لمعاييره؟ وما حكم الشرع في هذا الدور؟