بعد اغتراب دام 32 عاما كانت الزيارة الأولى لبلدي, سعادة ما بعدها سعادة, رؤية الأهل والأقارب وأصدقاء الطفولة والدراسة, ومن بقي على قيد الحياة من المعارف والجيران. وتفقد الأماكن التي كانت, ومازالت, محفورة في القلب والذاكرة.
لم أكن أعلم أن حبي الكبير والشوق اللامحدود لرؤية الوطن يقابله حب أكبر ورغبة جامحة في قلوب الكثير من أبناء هذا الوطن لمغادرته إلى أية جهة كانت وبأية طريقة, ومهما تكن النتائج . رأيت أن حسدي للمقيمين في وطنهم وبين أهلهم وذويهم يقابله حسد أكبر لي لكوني بعيدا عنه , يا للغرابة !!!.
لقد كان ينفرد بي البعض, كلما سنحت الفرصة, ليثني علي أولا, ويغرقني بعدها بالأسئلة التي لا تنتهي عن إمكانية السفر والهجرة إلى فرنسا أو إلى أي بلد أوروبي. وحين كنت اشرح له الطرق القانونية للسفر والهجرة ــ حسب معرفتي التي اعتقد أن مجال عملي واهتمامي يسرا لي الإطلاع الكافي على قانون دخول وإقامة الأجانب في فرنسا, وكنت قد كتبت حوله مقالات عديدة ــ كان, بينه وبين نفسه, يندم على الإطراء الذي خصني به في بداية الحديث. وكأني أنا شخصيا من وضع هذا القانون وأقام العقبات قي وجه طالبي الهجرة.
احدهم, في الخامسة والأربعين من العمر, يريد الهجرة بأي ثمن. طلب مني أن أوجه له عند عودتي إلى فرنسا بطاقة استضافة ( certificat d’hébergement ) لزيارة تمكنه من الحصول على تأشيرة دخول لهذا البلد. وهو يتدبر أمره فيما بعد. أخبرته أن مثل هذه الدعوة لا تعطى اعتباطا, وبدون أسباب وجيهة, وشروط محددة, يجب توفرها في المستضيف والمدعو للزيارة. كما أنها غير كافية إذ أن القنصليات الفرنسية في الخارج تطلب لمنح تأشيرة الدخول توافر شروط أخرى زيادة على بطاقة الدعوة. منها وجود حساب مصرفي. وضمان صحي. وضمانات تقنع بالعودة بعد انتهاء مدة الزيارة. وصلة طالب الزيارة بموجه الدعوة.. وللقنصل بعدها سلطة تقديرية في المنح أو الرفض دون إلزام بتعليل قراره.
أمام حيرة سائلي, وعدم يأسه, وجدته يفكر بالأسلوب المتداول في التغلب على الصعوبات الفعلية والمفتعلة, ودون أن يذكر الرشاوى بالاسم لمح إلى إمكانية دفع أي مبلغ لأي مسؤول يساعده في ذلك. ولماذا يلام في ذلك أليس هذا هو السائد عنده. أليس هذا ما يلجأ له الجميع تقريبا, أو ينصحون باللجوء إليه, لمواجهة أية مشكلة كبيرة كانت أم صغيرة في بلادنا؟. فكيف إذا كان الأمر متعلقا بهجرة وتامين مستقبل !!.
وقال أخر انه يسعى للحصول على تأشيرة سياحية إلى أي بلد أوروبي. وبعد انتهاء مدة التأشيرة لا يخرج. ولما لا يفعلها هو وقد فعلها غيره ؟. وسأل عما يترتب على ذلك من الناجية القانونية. أخبرته انه سيصبح عندها مقيما إقامة غير شرعية, وهذا يعاقب عليه قانون دخول وإقامة الأجانب في فرنسا. ويعرضه للتوقيف عند أي طلب لإبراز أوراق إقامته. ويترتب عليه اقتياده إلى الحدود. و سجنه في حالة رفضه لذلك, لخرقه للقانون المذكور. ثم يسفر بالقوة بعد إنهاء مدة عقوبته. ومنعه عندها من دخول الأراضي الفرنسية لمدة سنة أو أكثر, أو لمدى الحياة. ( مقالنا بعنوان الاقتياد إلى الحدود).
ولكن آلا توجد إمكانية للسفر والإقامة في فرنسا أو الدول الأوربية؟ كنت أجيب إن ما أعرفه يتعلق بفرنسا وحدها. نعم إمكانية الدخول والإقامة أصبحت محصورة فقط بما يعرف بالتجمع العائلي, ولم الشمل (regroupement familial ). أو الدراسة. أو العلاج. أو اللجوء السياسي. هذه الإمكانية الأخيرة كانت تثير رعب وفزع السائلين, أبعدنا الله عن السياسة ومشاكلها. لا نريد حلولا تأتينا من هذا الاتجاه, تغرقنا وتغرق أهلنا ومعارفنا, وأولادنا من بعدنا, في جحيم أبدي.
الدراسة إذن. ولكن بعضهم تجاوز سن الدراسة منذ زمن طويل. لا يهم فلتكن دراسات عليا. وهذه لا يشترط فيها السن, فكثيرا ما يأتيها (طلاب) يكبرون أساتذتهم بسنوات عديدة . هل الدخول( للدراسة) مقيد؟. نعم أنه كذلك.لأنها تحولت لباب من أبواب الهجرة, ترتب عليه, للأسف, حرمان أعداد كبيرة من طالبي العلم الحقيقيين من الدخول للدراسة والبحث العلمي. فأصبح على الطالب الحصول على قبول أولي من إحدى الجامعات الفرنسية. وهذا سهل حين توافر الشروط العلمية, كمعادلة الشهادة, ومستوى الجهة المانحة لها. أي انه من الجانب التعليمي لا توجد مشكلات تذكر. والدراسة مجانية لا تتطلب سوى دفع رسوم التسجيل والضمان الصحي, وهذا في مقدور الجميع. ولكن المشكلة إدارية. أي تعود للجهات التي تمنح تأشيرة دخول للدراسة للطلاب غير الممنوحين. حيث تفرض شروطا مالية صعبة. كدخل ثابت وحساب مصرفي وتوافر سكن..ومراقبة جدية طلب طالب الدراسة. أي إذا كان قادم فعلا من اجل الدراسة. كما تقيد حقه في العمل ب 19 ساعة ونصف أسبوعيا. كأي طالب فرنسي. وتعليق منحه إقامة طالب على قبول تسجيله السنوي. وفي حال عدم التسجيل لا تجدد إقامته. كما انه لا يستطيع تحويل إقامته كطالب إلى أي نوع من أنواع الإقامة, التي تعطي الحق لحاملها في العمل والإقامة الدائمة, مهما طال به الزمن.
أما ما كان يستهوي طالبي الهجرة بأية طريقة, غير طريقة اللجوء السياسي بطبيعة الحال, فهو التجمع العائلي. فليكن. أنا مستعد للزواج بفرنسية أو أية مقيمة تحمل بطاقة إقامة في بلد أجنبي, أكد لي أب لخمسة أطفال.
ــ وزوجتك وأولادك؟
ــ لا يهم قد توافقني زوجتي على ذلك فالزواج سيكون في المهجر, ومن أجل إرسال الدراهم لمساعدة أولادنا وأمهم.
نظرت إليه باستغراب ولم ألمه لوما كاملا, رغم خطورة ما أسمع, فاللوم الحقيقي على من أوصل أمثاله إلى هذا التفكير.
ــ أدفع أي مبلغ لمن تقبل بذلك وترسل لي أوراق زواج.
ولم يكن مرتاحا حين أخبرته إن القانون يحارب مثل هذا الزواج المسمى بالزواج الأبيض ( mariage blanc ou mariage de complaisance ). ويعرض طرفيه للعقوبة والغرامة. والقانون الفرنسي يعاقب تعدد الزوجات. وانه قد يقع ضحية ابتزاز زوجة المستقبل التي قد تقبل بذلك. والتي تكون بمجرد قبولها مشكوك في سلوكها وأمانتها. وباني كنت أرى في المحاكم شبابا من أصل عربي مصحوبين (بزوجات ) تكبرهم بسنوات عديدة, وتثير استغراب ودهشة القاضي الذي لا يستطيع إلا أن يسأل عما إذا كان الزواج قائم فعلا بينهم.
كما أن قانون دخول وإقامة الأجانب لا يفرض فقط موافقة الطرفين على الزواج, وإنما عقده بشكل رسمي, ومراقبة الزوجين لمدة 3 سنوات في بيت الزوجية. والعيش المشترك الفعلي. ومن المخاطر التي قد تنتج عن هذا , وضحت لسائلي, انه عند أي خلاف أو خصومة, أو تغير مزاج الزوجة لسبب أو دون سبب, كثيرا ما تنتقم من زوجها بالادعاء بأنه تبين لها لاحقا أنها كانت ضحية زواج أراد منه الزوج تسوية وضعه الإداري والحصول على إقامة فقط,. ولم يكن قصده الزواج الشريف. عندها يصار إلى سحب إقامة الزوج وطلب مغادرته فرنسا. وتتفاقم المشكلة في حالة وجود أطفال ولدوا من هذا الاقتران.
لم ييأس سائلي مما سمعه, واعتبر أن الحظ قد يلعب دورا في ذلك. والتوفيق من عند الله . وأكد علي أن أسعى له جاهدا لدى فتيات فرنسا لإيجاد زوجة صالحة, تراعي مصالحه ومصالح زوجته وأطفاله في بلده الأصلي, مقابل رجولته وفحولته المتعطشة غير المشكوك فيها, و وعد صادق منه بأنه سيكون زوجا صالحا مخلصا شرقي النخوة والالتزام, إن شاء الله.
لم تكن دهشتي كبيرة مما سمعت, والذي لم أذكره هنا أغرب بكثير. ما ألمني ما وصل إليه وضع أبناء وطني .
ـ كيف لا يفكر في الهجرة, وبكل الوسائل المشروع منها وغير المشروع, الأخلاقي وغير الأخلاقي, الموظف الذي لا يكفيه راتبه لمنتصف الشهر, المجبر على القيام بعمل آخر بعد نهاية دوامه الرسمي, إن وجده.
ـ كيف لا يفكر بالهجرة المواطن الذي يسعى ليلا نهارا لإيجاد عمل شريف فلا يجده, وان وجده, فهو لا يسمن ولا يشبع من جوع؟.
ـ كيف لا يفكر بالهجرة الطالب الذي لم يجد له مكانا في الجامعة, ويعرض عليه التعليم المفتوح, والجامعات الخاصة, وكل وسائل التجارة بالعلم, التي يعجز عن دفع جزء واحد من أقساطها.
ـ كيف لا يفكر بالهجرة الخريج الذي يقضي سنوات طويلة بعد إنهائه خدمته العسكرية دون أن يجد عملا لإعالة عائلته, أو وعدا به؟.
ـ كيف لا يفكر بالهجرة المواطن الذي تمتهن كرامته من قبل الموظف المرتشي في كل مرة يحتاج فيها لوثيقة إدارية؟.
ـ كيف لا يفكر بالهجرة من تحصى عليه أنفاسه. وتهدر كرامته إن تجرأ و ذكّر بأنه مواطن له حقوق, مثل كل مواطني الدول في القرن الواحد والعشرين.؟
ـ كيف لا يفكر بالهجرة من يجبر على الاستماع يوميا لمحاضرات مطولة في القيم والأخلاق والوطنية والاستقامة والشرف, ثم يرى, يوميا وفي كل مكان, بأم العين ان المحاضرين أنفسهم هم من يخالفها وينتهك قيم الاولين والاخرين؟.
ـ كيف سيحتمل, دون أن يفكر بالهجرة, سماع أغاني المجد والعزة المنبعثة, بمناسبة وبغير مناسبة, من وسائل إعلامه, المسموعة, والمرئية, مرددة دون كلل أو ملل: " كلنا للوطن للعلى للعلم".
د. هايل نصر.
التعليقات (0)