هجرة سعيدة
كلمات في وداع الطيب صالح
السموأل محمد أحمد
مثل كل جرح يُفتق جرحا جاء رحيل صاحب الهجرة ليفتح جراحا ماكان لها ان تندمل، ينكأها هذا الساكن فينا ،عاش غريباُ ومات غريباُ فطوبى للغرباء ،غربة دثرها بعطاءه وفكره لتمنح الناس دفقاً من روح إعتادت ان تعطي دون ان ترجى نوالاً وان تحب لان الحب أسمى درجات العرفان،وأن تبدع وتبهر في تواضع جم وادب نادر.
رحيل الطيب صالح مثل كل خطب جلل تٌرزأُ به الانسانية في اشخاص هم أكبر من أمة واكبر من وطن ،فالعظماء في عطائهم تدفق يتجاوز الحدود ويعبر القارات ،حتى يصبحوا رمزاً او أسطورة وينحتوا اسماءهم وإبداعهم على صخر التراث البشري الذي يبقى ما بقي الانسان.
لم يكن غريباً ان تُثبت "موسم الهجرة إلى الشمال "كواحدة من أعظم مائة عمل ادبي عرفتها البشرية ،بعدما كُتب عنها وماسوف يُكتب ،عمل صنعته غربة الروح في أسمى تجليات عبقريتها ،التشظي بين الأمكنة ،وطن تسكنه ووطن يسكنك ،عالم تحيا فيه وعالم يحيا فيك ،في ان تكون بين أناس يعطونك ماتستحق قدر المستطاع وبقعة تنتمي إليها وتبقى جذوتها مشتعلة فيك تمنحك هذا التوهج الذي يدفي روحك في بلاد يكسوها الصقيع ،ذلك ماتصنعه المسافة في قلب يعي وخيال جامح.
لم يكن عبقري الرواية العربية عبقرياً لأنه كتب موسم الهجرة إلى الشمال وحدها فلقد تبدت عبقرية الرجل في كل ماكتبه ولم يكن الأديب صاحب العمل الواحد الذي طغت شهرته وقتلت صاحبه دون أن يموت مثلما فعلت "دون كيشوت"مع سرفنتس أو "الخبز الحافي " مع محمد شكري وكثيرون غيرهم ولكن كان بالإمكان لحظ العبقرية حتى في القصص القصيرةالتي كتبها الطيب صالح "حفنة تمر" في دومة ود حامد إذا أمعنت فيها النظر دلتك على عبقرية فذة تسكن خلف هذا النص الصغير ،فليس غريباً ان يتبوأ الطيب صالح هذه المكانة عالمياً رغم قلة اعماله الابداعية بعدد الصفحات وليس الابعاد ، ربما يمنحنا بعضاً من قبس لاستكشاف رؤى الطيب صالح وقلتها إفتتانه بالشاعر العربي "ابونواس" واندهاشه بفلسفته التي هي جزء من فلسفته ووضعها في مقدمة مريود :
غير أني قائل ما اتاني من ظنوني مكذب للعيان
آخذ نفسي بتأليف شئ واحد في اللفظ شتى المعاني
قائم في الوهم حتى إذا رمته رمت معي المكان
لم تكن مفارقة ان يكون مسرح اعماله الابداعية كلها - "عرس الزين" ،"دومة ودحامد"،" موسم الهجرة الى الشمال"و" بندر شاه" بجزئيه "ضو البيت" و"مريود"- تلك البقعة الصغيرة ودحامد القرية الوديعة على ضفاف النيل التي تعم حياتها الرتابة ،ليجعل منها بؤرة صراع كونية تموج بكل تلك الاحداث عازفاً بصورة فريدةعلى وتري الزمان والمكان- اللذين ماهما الا خيطي عنكبوت حبس بهما الانسان- ليعطينا دنيا متكاملة تعج بكل العواطف الانسانية التي تسير حياتنا ،وهو ذلك "المنتمي الغريب "ابن هذه البيئة التي شكلته وصاغت شخصيته ،مزيج من ابن بلد أصيل ظلت سودانيته اول مايوسم به بعد عالميته رغم تطاول الزمان بغربته بدنياً عن وطنه ،وذلك المثقف الكوني الذي اينما ما وضعته لم تلحظ نشاذاً ولاغرابة ،منسجما مع روح عصره وخلاقاً ومحبوباً حيثما حل ،هويته المركبة - مثل سائر أهل بلده- لم تخلق في ذاته انفصاماً مثلما فعلت ببعض مثقفينا، فكان أنموذجا للعربي الافريقي والتي كانت تختصر ب"سوداني" قبل النكوص الى عصر القبيلة.
لقد وظف الطيب صالح غربته واستطاع من خلالها ان يصنع شخصيته فاحال حنينه الى معاناة إبداعية ، الغى الحواجز بالانسلال عبر المتخيل والكتابة الواعية ،كان نتاجها ان قدم لبلده أضعاف ماقدمته وزارة الثقافة منذ تأسيسها ،وعززت روح الانتماء لاجيال طالما هامت بخيالها في شتى بقاع العالم وهي تقرأ "همنغواي" ،"تولستوي"و"جورج أمادو"ولكنها ترى صورتها لاول مرة وهي تتابع خطوات الزين وحكايا ود الريس ،ا ترى ذاتها بين دفتي عمل ادبي تصدر الاعمال العالمية ، وهو دور وطني خفي وقوي الحضور في نفوس القراء ومن الادوار الطليعية للثقافة في تقوية الانتماء وصهر الامة وتوحيدها وسياج ناعم للمواطنة.ولطالما أهملنا الجانب الثقافي في تشكيل الامة وتم الرهان على السياسة واهواء الساسة التي ينسخ بعضها بعضا ،فليس من المستغرب ان تؤول بلادنا لما آلت اليه وهذا هو تعاطينا مع مبدعينا وعلماءنا ومثقفينا،وأشد ما أحزنني أنه بعد ان نعى الناعي أديبنا العالمي الطيب صالح ونقلت النبأ الحزين معظم وكالات العالم والقنوات الفضائية لم أجد قناة سودانية أعارت النبأ اهتماما وواصلت قنواتنا العزيزة بث برامجها من كرتون و اغاني مملة وكأن شيئا لم يكن في حين اعطت الطيب صالح حقه قناة (البي بي سي) البريطانية واستضافت ملحقنا الاعلامي بسفارة السودان في لندن د.خالد المبارك ليتحدث عن العزيز الراحل وقطعت قناة النيل الثقافية المصرية برامجها ونعته وبثت حلقة مطولة لمقابلة أجريت معه سابقا، حزنت مرتين في تلك اللحظة لأن الموت غيب الطيب صالح، ولأنه كان سودانيا وسودانيا حتى الثمالة.
ومثلما في كل مرة يسقط فيها قمر في الغربة يطفر على ذاكرتي بيت شعر كتبه العلامة الراحل عبد الله الطيب في رثاء شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب وكان حينها أستاذا في جامعة محمد الخامس بالمغرب قال فيه :-
وكانت بلادي تقبر الناس قبل أن يموتوا وكم فيها النفيس غبين
صدقت ايها العلامة فكم لدينا من نفيس غبين ولعل عبدالله الطيب كان في تلك اللحظة يرثي نفسه لا ابن عمه ورفيقه المجذوب ، فالرجل كان يعرف قامة المجذوب الشعرية كواحد من رواد التجديد في ديوان الشعر العربي و الذين عمت سمعتهم الآفاق. هنيئا لك في غربتك الطيب صالح التي تجرعت كأسها حتى الثمالة فقد تحللت من أسر الزمان و المكان وظلم ذوي القربى .
كثيرون كتبوا ان الطيب صالح اتى الى بلاده من الخارج وهذا قول يؤكده الواقع حتى اليوم فنحن لم نعرف ان نقدم احدا الى العالم، الذي إحتفى ايما احتفاء باعمال الطيب صالح بكتاباته الدورية ومحاضراته، وأُلفت العديد من الكتب النقدية التي حاولت ان تٌشرِح إبداعه وتسقصي جمالياته، ورغم اننا نعرف العديد من الكتب النقدية التي تعرضت لاعماله، لكني اجزم ان قلة قليلة هي التي اطلعت على كتاب (قراءة جديدة في روايات الطيب صالح) الذي الفه الدكتور عبد الرحمن الخانجي وهو سوداني تخرج من جامعة الخرطوم وطبعت الكتاب دار ام درمان الاسلامية للنشر عام 1983 عندما كان عميدا لكلية البنات في الجامعة، ورغم اعتقادي بانه من أعظم الاعمال النقدية التي تناولت ادب الطيب صالح الا أنه بقي معروفاً لدى قلة من المثقفين السودانين ، فهي الدراسة الوحيدة –على حد علمي- التي تناولت روايات الطيب صالح كوحدة فنية متكاملة كما ذكر الكاتب في مقدمته اهتمت بدراسة (الفكره أو الموقف) كما تمثله شخصيات عامة ومما أعطا الدراسة نوعا من المنطقية أن الشخصيات في كل الروايات واحدة تعيش في نفس البعد الزماني والمكاني وعلى مسرح واحد هو(ود حامد) واضاف الناقد(تبرز الدراسة ان الطيب صالح خلال هذه الرحلة في مسار (الرواية الكبيرة) قد اكتسب خصائص فنية محدودة فصفى صوته وانصقلت أدواته وتطور تكنيكه حتى بلغ قمة العطاء الفني في (مريود ) و التي ستلحق بها رواية اخرى- في تقدير الكاتب – تسدل الستار على موقفه الفكري والفني كما طرحهما في الرواية الكبيرة ) كل ما أتمناه أن تصدق نبؤة د.الخانجي فيكون الطيب صالح قد كتب رواية أوصى بنشرها بعد موته ليشغل الناس حيا و ميتا .
ألا رحم الله الطيب صالح بقدر ما قدم وأحب أهله ووطنه.
التعليقات (0)