من اقاصي الذاكره ومن كهوف التاريخ، تروى حكايات وحكيات فيها اسرار٬ رُسمت بريشة فنان وهو مُغمض العينين٬ تحكي عن بلد حالمه٬ مختلفه في كل شيء٬ ظلت شاهد عيان٬ كلما اجتاح السيل وادي الرمة،او سقطت اشعة الشمس الحارقه٬ على كثبان النفود واغصان الغضاء .تصحو وتنام٬ على قرع القوافل وضجيجها و همس القوافي ونظمها. القادم اليها يسمع بعبارات الترحيب .. اكثر من اي مكان اخر .. ويلحظ التوق المعرفي المتجذر٬في قلوب أناس٬ يشكلون نسيجا خاصا٬ وتوليفه متميزه من العوائل العريقه في قلب نجد. يتمتعون بخواطر ذكيه٬ فيها دفيء وود وانسانيه٬ هي اقرب الى التسامح والانفتاح٬ منها الى الجدل الديني العقيم. لم يكن زيد الثريا كبيرا بما يكفي٬ لكي يكون شاهدا على كل ما يجري٬كما لم تمهله قدماه مدة طويله٬للسير في بساتينها الجميله٬ وبين جدرانها الطينيه٬ وازقتها المغطاه بالتراب٬حلمه وطموحه كان لا يزال يحبو٬ ولكنه قد سمع آنذاك٬عن رجال اشداء٬ قادتهم اقدامهم الى خارج المكان. لم يتجاوز زيد حينها العاشره٬مع ذلك كان شغوفا بالقراءة والاطلاع٬ تحدوه الامال الكبيره وهو في مقتبل العمر٬ يجالس الوجهاء والكرماء في مجلس ابيه٬ فينعشون لديه حب الكمال والمغامرة . فلا غرابه في ذلك٬ فهو سليل اسره٬برز منها الوجهاء والتجار والشعراء٬عبر تاريخهم الطويل٬ فذاع صيتهم في الطف وما حولها. كان يعرف بان والده كان كريم اليد قليل المال ٬على الرغم من ان جده كان من اكثر اهل الطف مالا وأعز ولدا٬إلا ان حظ والده في انتقال الثروه اليه٬ كان اشبه بقوس الربابه . رحل عن الطف تاركا الاهل والاحباب٬طلبا للعلم والتجاره٬ يضرع المكان والزمان واماله العريضه تلهث وراءه٬لم تكن الكويت ولا الزبير٬سوى محطتان صغيرتان نائمتان في خط سيره٬لم تشبعا نهم الروح ولا الحواس٬لدى صبي في العاشره من عمره. بعد بضع سنين٬عاد الى الشرقيه فسمع حينها صدى لصرخات من هنا وهناك٬قادمه من نفس المكان الذي جاء منه٬ ولا يدري الى متى سوف يستمر الناس في سماعها٬مع ذلك قرر ان يتأقلم معها بغية الوصول الى ما يصبوا اليه. فاتصل زيد بقريب له من اهل الطف يدعى ناصر٬الذي وفر له سكنا معه في شقه قريبه من شارع الحب في الدمام٬ اطلق هذا الاسم على هذا الشارع٬ كرمز لملتقى العشاق في زمن استثنائي .التحق زيد على الفور بثانوية الدمام والتي كانت مرتعا للعلم٬ وايضا للمنشورات والكتب الممنوعه المسربه آنذاك٬من مصر والعراق والشام. جلس ذات يوم عاكفا على كتبه٬ يقرأ على ضوء سراج ابو فتيله٬ استعدادا لتقديم اخر ماده في اختبارات المرحله التوجيهيه٬ فدخل عليه ناصر متأبطا نسخه لملزمه مكتوبه باليد٬سلم عليه وجلس امامه واضعا الملزمه في حجره٬في مشهد فيه دعوه واغراء الى ما تحتويه الملزمه٬ رمق زيد عنوانها وهو منهمك في القراءه .. صرخه من جوف الكعبه .. عنوان صادم ومغري٬ يحمل في طياته دلالات وافكار صارمه٬ افقده القدره على مواصلة التركيز .. تصفح زيد الفهرس٬ ثم قرأ المقدمه وهو في حاله من الاندهاش والتلهف .. اسمع يا ناصر .. هذا الكتاب لو عرف عنه احد٬ يدخلك السجن مدى الحياه .. اعرف ذلك .. يقالك جايب لي خبر جديد ..! انا مدرك تماما بان ما امارسه من اكثر الاعمال محظوريه واشدها خطرا٬مع ذلك فانا لست خائفا٬ بل انني اعيش في حالة سعاده من جراء الشعور بهذا الخوف٬ وانا متأكد اذا قرأت هذا الكتاب سوف يكون لديك رأي اخر٬لا داعي لقرأة هذا الكتاب فهو باين من عنوانه٬ ولا تنسى باني متمرس على القرأه منذ نعومة اظفاري٬ واستطيع معرفة مضمون الكتاب بمجرد القاء نظره سريعه عليه٬ولقد تعودت على قرأة هذ النوع من الكتب٬التي تعج بها المكتبات في الزبير٬فتعلمت بان لا ابحث عن شيء٬ إلا اذا اتضحت لي منفعته ٬وانا لا اعول كثيرا على تعلم معرفه من هذا النوع .. وهل تعتبر ان التخلص من حال القهر والتخلف الذي نعيش فيه٬من المعارف التي لا تفضي الى اي مصلحه٬ لذا لا تستحق التضحيه ..! لا ..لا .. ابدا انا لم اقل هذا٬ على العكس فالتضحيه عنصر مفيد في تاريخ الشعوب والمجتمعات٬ ولكن اسمح لي .. إن ما تسميه انت تضحيه هو في حقيقة الامر اسم اخر للتهور .. سمه تهور او سمه ما شأت يا صاحبي .. بس قلي بربك .. هل اكون متهورا اذا اعترضت على ان يسكن عمال ارامكو من السعوديين في عشش يسمونها براستي٬ بينما نظرائهم من الامريكان ينعمون في سكن السينير ستاف المرفه ..! اسمعني يازيد .. انت لديك طموحا شاهقا وهدفا نبيلا تريد تحقيقه ولا تريد مجرد التفكير في غيره ٬وانا اسمح لي ان اقول لك .. انتظر يا عزيزي حتى يأتيك التغيير عن طريق المداهنه والمراهنه على الزمن٬ اما انا فعلى العكس منك تماما٬ اريد الاعراض كليا عن هذا الحال الذي نعيش فيه٬ واستبداله بوضع اخر لا يمت اليه بصله .. ايه يا ناصر الله يعينك .. كلامك فيه من الاماني اكثر مما فيه من المنطق٬ تتحدث وكأن البلد ليس فيه دين وسلطه قويه ولا بترول ومصالح غربيه٬ انت صاحب مشروع ضخم تحمله على ظهر سلحفاء٬تسير به اتجاه بحيره من الوهم٬ اما انا فحلمي ان التحق بجامعة بغداداو القاهره العام الدراسي المقبل. وانا ايضا احلم بذلك٬ ولكن ليس من اجل الدراسه٬بل لكي ارحل من هنا٬فلم اعد احتمل هذا الخوف والحياه المتوتره٬ولا هذا المكان المشبع بالرطوبه والرجعيه والاستبداد٬اريد الرحيل الى عالم اخر تقدمي يهتف طوعا باسم الحريه لا كرها باسم الحاكم .. اين هو هذا العالم الذي تبحث عنه يا ناصر ..! انا للتو جأت من احد تلك العوالم التي تتحدث عنها٬ ولم اسمع هناك سوى ترديد شعارات٬ جميعها تحاكي ما تردده انت هنا. تمدد ناصر على الارض وحط رأسه على وساده محشوه بالليف٬ ثم التفت الى زيد بنصف التفاته وقال .. معليش انا جاني النوم وللحديث بقيه .. نفخ زيد نفختين واطفأ السراج٬ ثم تمدد وادار ظهره لناصر٬ وخلد للنوم على وقع نباح الكلاب الضاله في الخارج ..
التعليقات (0)