جَرَس .. جَرَس ..
دخل زيد ذات مساء مكتبه في حي الملز، فبذكائه وفطنته اسسا هو وعمه الثري شركة قابضه عملاقه، تضم مجموعه من الشركات تعمل في عدة نشاطات. امسك زيد بالولاعه المعدنيه من نوع زيبوز، فاشعل سيجار كوهيبا حجم ربيستو، ثم فتح الراديو على اذاعة لندن، يستمع الى اعاده لبرنامج . . قول على قول لحسن الكرمي، فدخل القهوجي النوبي، يحمل ملف وكوب قهوه فوضعهما على الطاوله وانصرف بهدؤ . ثم دقة ساعة بيق بين مجلجلة .. الثانيه بعد منتصف الظهيره واليكم نشرة الاخبار يقرؤها عليكم ماجد سرحان، انباء عن الحرب العراقيه الايرانيه والمعارك الدائره حول الفاو، ايران تشن موجات متتاليه من الحشود البشريه من اجل احتلال الفاو، تساندها مدفعيه طويلة المدى يصل مداها الى البصره، بينما العراق يتقهقر ويقاوم باستماته، مستخدما المروحيات والطائرات المقاتله التي تقصف المواقع الحيويه والسفن الايرانيه بغية قطع خطوط الامداد. زيد كأي مثقف عربي، يعرف تماما بان اذاعة لندن تدس السم في العسل بمهنيه، إلا انه يميل الى الاستماع اليها،بدلا من الاخبار الايجابيه الممله للاذاعات المحليه، التي دأبت على انكار المسلمات ونفي المفضوح وتصوير الاحداث وفقا لما يتمنون ان تأول اليه. العراق مستعد لايقاف الحرب بينما ايران ترفض، فانغمست السعوديه في الديون من جراء الحرب وانهيار سعر البترول الذي وصل الى ٨ دولار. . اغلق زيد الراديو ثم بدأ في تصفح الفاكسات القادمه من العملاء والموردين، وكان من بينها رساله من مدرسة وينزير في بريطانيا، تفيد بأن منصور قد تعثر في الدراسه، بسبب الاهمال والغياب بالاضافه الى ان مستواه في اللغه الانجليزيه لا يمنحه القدرة على الاستمرار، وان وجوده بات مضيعة للوقت والجهد والمال. . فأحس بالتعاسه والكدر وبدأت تتحرك شبهات الخوف بداخله،فاتصل باحد اصدقاء منصور، شاب رائع خلوق ومتدين اسمه فواز، سأله ان كان قد اتصل على منصور مؤخرا، فأجابه فواز بحذر وشح كمن يحاول اخفاء شيء ما ..! ثم اتصل بجيمس نايت الذي كان على علم بالموضوع، إلا ان جيمس ابلغه بعد تردد، بأن هناك امر اخطر من كل ما ذكره تقرير المدرسه،فبادره زيد سائلا : عن اي شيء تتحدث يا جيمس ؟ اوكي .. لم اتعود يا زيد ان اصدم احدا من اصدقائي، لكن احيانا لا بد مما ليس له بد، ان السبب وراء اخفاق منصور هو تعاطي الكيف ..! هل انت متأكد يا جيمس ..! لو لم اكن متأكدا لما قلت لك .. لكن كيف عرفت ؟ سألت المدرسه نفس السؤال فقالوا : بان هنالك سلوكيات تظهر على المتعاطي، منها مثلا : الانعزال والخوف والاغراق في النوم، شحوب وضيق في حدقة العين والنفور من الاضواء، كذلك جفاف في الشفايف والانف .. إذن ما العمل يا جيميس ..؟ لا ادري ..! ما رأيك لو ارسلناه الى كيمبريج لتعلم اللغه الانجليزيه ثم يعود، على الاقل يتعلم انجليزي ..؟ زيد انت تخمن وتسألني وكأننا نجلس حول طاولة قمار .. ! على اي حال، تستطيع ان تجرب حظك وحظه .. مع بداية الصيف ودع منصور مدرسة وينزير وانتقل الى معهد للغه الانجليزيه في كيمبريج وسكن مع عائله. استمر منصور في مقارعة دروب الشيطان في ميادين مختلفه، يدوسه باقدامه التي لا ترحم، متسكعا في تلك الازقه الضيقه والمظلمه،يتعاطى الهبايب . . فادمن على نوع من المروانه الصناعي يسمى ثيكسرونيك، له تأثيره قوي، اذا سلطت عليه النور تنعكس منه نجوم تلمع ، ضل منصور يهيم على وجهه في الطرقات بيعينين لا ترى سوى الاشياء الشهوانيه، يقضي معظم اوقاته خارج بيت العائله المكتوم، الذي اختلطت فيه روائح النوم مع روائح الاثاث والموكيت الكريهه ، افراد العائله مكون من زوج وزوجته وكلب بولدوغ وقح ومدلل، يتسكع في ارجاء المنزل، ويحملق في منصور بعدوانيه.الزوجان قد تجاوزا الاربعين، تم تسريح الزوج من عمله بسبب الكساد الاقتصادي الذي كان سببه سياسات عامه اتخذتها الدوله في عهد مارجيريت تاتشير من اجل الحد من التضخم، فأثر ذلك سلبا على الدخل الكلي للبلد، فانخفض دخل الاسره بمعدل الثلث، لذا فضلا ان يفسحا المجال لمنصور خشية ان يخسرا الدخل الذي ياتيهما عن طريقه. عاد منصور الى البيت متأخرا في ليله بارده قادما من احد البارات بقميص خفيف، فلفحه الهواء البارد، فشعر بألم مخيف لم يستطع وصفه بأي شكل، فدخل على إثره المستشفى، كشف عليه الطبيب وقرر اخذ عينه من النخاع، فغرس ابره طويله في ظهره،فصرخ منصور من شدة الالم حتى كاد ان ينقطع نفسه. علم زيد بمرض منصور واصرت حصه على ان يذهب الى بريطانيا وان لا يعود إلا ومنصور معه، فعاد منصور الى الرياض سليما معافا بعد ان امضى ستة شهور في كيمبريج، وعلى الفور رتب له والده وظيفة كاشير في احدى البنوك. فدخل عليه البنك ذات يوم صديق دراسه اسمه ياسر، كان يريد تحويل رواتب الخادمه، ياسر شاب دائم الابتسامه حنطي يميل الى السمار، ذو ملامح خشنه، مكتنز البنيه له انف ووجه كبير، وله عينان صغيرتان فيهما نظرات انتباه لا ذكاء، درج اصدقائه على تسميته . . طعس . . هو ابن عائله متواضعه تسكن في حي السويدي، والده رجل عركته الحياة، بدأ حياته خوي لاحد الامراء ثم تحول الى مقاول من الدرجه الرابعه، يأخذ اعمال تشطيبات وبناء ملاحق وتسوير اراضي بيضاء. نهض منصور من الكرسي وادخل يده في فتحة حاجز الزجاج وسلم عليه .. فرد عليه ياسر قائلا : كيفك منصور .. ماشي الحال .. انت شغال هنا من زمان .. لا والله مالي إلا اسبوعين . . بس اسمع يا ياسر ترى حوالات الخدم عن طريق بنك الراجحي ارخص واسرع .. انتظرني انا طالع لك برا . . اوكي .. خرج منصور ليتحدث مع ياسر في زاويه فيها ظل امام البنك، اسهبا في الحديث معا، بغية تجديد علاقتهما القديمه، كان ياسر كمن يتحدث من ذاكرته، يفرك انفه كلما اراد ان يقرر او يعقب اثناء الحديث،فلاحظ منصور الاصفرار في اظفري الابهام والسبابه .. فعرف ان ياسر من اصحاب الهبايب .. ! فتجرأ وبادره بالسؤال وهو على وشك الانصراف قائلا : اقولك .. لحظة .. لحظة يا ياسر . . انا لتو رجعت من بريطانيا وبصراحه خرمان وودي اصمخ لي زقاره بس ما اعرف احد .. ما حولك هبايب .. ؟ عندي مصدر لكنه اشوي بعيد ولا عندي سياره .. بعيد يعني فين ..؟ في الدخل المحدود .. ما فيه شيء بعيد .. المهتوي يقطع المستوي .. متى ودك نروح .. بكيفك يا منصور، انا ما عندي مشكله شوف الوقت الي يناسبك وانا حاضر .. شرايك نمشي الان يا ياسر .. ؟ الان .. تقدر تترك الدوام .. ؟ ما عليك ما احد يقدر يقول شيء، ابوي يعرف العضو المنتدب وهو الي وظفني .. زين عندك سياره يا منصور .. ايه عندي .. فوق عليه .. انطلقا في سيارة منصور باتجاه الدخل المحدود .. على فكرة يا ياسر .. منهو مصدرك ..؟ ويش بيكون يا منصور ..! في الرياض اما افغاني من عمال الدخل المحدود، او يماني راعي دكان في سوق المرقب، او سواق تكسي باكستاني عند مستشفى الشميسي، بس انا احب اروح الدخل المحدود عند الافغان علشان المكان صاد اشوي، توقفت السياره بين بيوت مرصوصه تحت الانشاء، ثم نزل ياسر يسأل العمال عن شخص، فاختفى بين العماله والبيوت، ثم عاد وركب السياره وقال لمنصور يالله مشينا حرك،اخرج ياسر من جيبه قطعه في حجم نصف الكف لونها كُميت تمري، مغلفه في بلاستيك شفاف، قال منصور : كفو يا ابو اليسر .. كم عطيته ؟ ٢٢٠٠ ريال رواتب الخادمه الضعيفه، لا يهمك انا ادبر لك المبلغ، بس يبي لنا ورق بفره .. موجود .. من وين تشتريه ..؟ من سوبر ماركيت السيف وي .. غريبه يبعونه علنا .. ! ما في شي غريب في هالديره يا منصور، هم يقولون انهم يبعونه للناس الي يدخنون زقاير اللف،بينما اكثر من يشتريه رواعي الهبايب مثلي والحبل مثني. اخذ ياسر قطعه منه في حجم الاظفر، فتها وخلطها مع التبغ ثم لفها في ورق البفره، اشعلها واخذ موشين ثم اعطى منصور الذي فعل نفس الشي، فدارت الزقاره بينهما فارتخت الاعصاب وحلوت السواليف .. في لحظة تجلي التفت ياسر الى منصور وهو يهز رأسه ويضحك .. ضرب الهبايب يخلي العقل سايب .. فجأه تجاوزهما جيب الدوريه فسكت ياسر وعينيه ترف بوجل، بينما تشبث منصور في المقود وهو يحملق في الطريق، ثم عاودا الحديث تدريجيا بعد ان اختفى الجيب تماما .. طيب يا ياسر .. ظنك من اين تأتي كل هذه الهبايب .. ؟ من عدة دول، من افغانستان ولبنان وايران واسرائيل والمغرب، الخير واجد يا ابو رفق .. طيب يا ياسر اذا شحت الهبايب وما لقيت لا عند الافغان ولا اليمانيه .. ويش تسوي ؟ بيني وبينك اذا انقطعت مرة، اجيب من عند واحد يقول انه سوري اسمه فؤاد ابو اظفر يسكن في شارع الخزان، انا اشك انه سوري . . اجل ويش يطلع فؤاد .. ؟ اظنه يهودي، لهجته وملامحه غريبه، في احد المرات كان فاتح القميص وكأني لمحت تاتو لنجمة ديفيد على كتفه ..! انا اعرف اسمه الاول فقط، ولكني اسميه ابو اظفر، له اظفر طويل في اصبع السبابه، الظاهر يستخدمه لشم الكوك .. اجل تكفى يا ياسر عرفني عليه .. ليس لدي اتصال مباشر معه، عرفته عن طريق رفيقنا ماجد الذي كان يدرس معنا في مدارس الرياض .. ذاك الحقنه .. تتذكره .. ؟ ايه تذكرته اثره ما هوب سهل .. اي سهل يا منصور، ماجد طلع اخطر من الخطير، ولا يسوي شي بلاش كل شي بحقه .. اجل كيف تقابل فؤاد يا ياسر .. ؟ ماجد يتواعد معه على طريق الدمام، يلبق السياره في مكان بمحاذات الشبك ثم يأتي فؤاد بسياره جيب من خلف الشبك، ويسلمنا البضاعه ويستلم الفلوس.. شعر ياسر بالامان والروقان فاشعل زقاره ثانيه، واستمر في الحديث بصوت مستريح النبرات .. اما منصور فكان يقود السياره بتأني وحذر شديد، فتوقفا عند بوفيه في شارع انكاس، طلب ياسر له ولمنصور نيس كافيه سكر زياده مع الحليب وقال : روق يا منصور ترى النس كافيه له طعم خطير مع الزقاره .. استوت وزانت لهما الرفعه، فصار كل واحد يذب ويعلق على الثاني في جو ملعلع فيه مرح وانبساط، فعلى الرغم من ان ياسر خبير في امور الهبايب، ويتمتع ببرود اعصاب وقلب ماكر، إلا أن منصور بدى مبادرا ومهيمنا على الحديث، تسعفه خفة الدم وموهبة حس الدعابه،فانصاع اليه ياسر بشكل تلقائي، وبذلك وضع منصور شكل وقواعد التعامل الذي سوف ينشأ بينهما فيما بعد . . وبالفعل صار ياسر يريد الاقتراب منه اكثر ويعرض عليه المزيد من الخدمات فقال : اذا جاء على بالك تقضم حبوب تجدها عند سائقين التريلات الواقفين عند محطات البنزين، اقترب منهم وقل للسواق .. تكفى يا راعي التريله ابي اعزاز .. يفهما على طول، اذا عنده بيقول لك ايش تبي .. قل له حبه بيضاء وإلا كيبتكون او رهيب نويل او راعي الجريات .. انا لا افهم هذه الطلاسم يا ياسر .. الآن تقول عنها طلاسم، لكن مستقبلا سوف تعرفها عندما تنتشر على اللسنة الشباب، ترى اهل الكيف مقبلين على البرشام بقوة هذه الايام، عندها سوف تصبح الهبايب دقة قديمه. يا ياسر خلنا في الهبايب انا ماني راعي حبوب ولا اعرف حتى اساميها . طيب يا منصور اذا ما تبي البرشام ولا انتب راعي تقضيم، وصار وقتها الهبايب متوفرة، فيه طريقه سهله للحصول عليها، تروح شارع بن فريان القريب من الحله، تتمشى على هونك .. اذا سمعت احد الماره ينادي بصوت منخفض ويقول .. جَرَس .. جَرَس .. اعرف انه بياع هبايب .. رد عليه وقول .. جَرَس .. جَرَس ..
التعليقات (0)