عين دار ..
عند منتصف الطريق انحرفت السياره وسلكت طريقا ترابيا متعرج، تحف جوانبه نباتات الهرم،فسمع احد الركاب يقول .. وصلنا عين دار، فكان زيد متأهبا للنزول في اي مكان تتوقف فيه السياره، تلافيا لمركز التفتيش والذهاب الى الاحساء، نزل احد الركاب فتبعه زيد، فقال له السائق الحساوي وينك رايح يباه هذي عين دار تونا على الحسا ..! خلاص انا ابا انزل هنا.. اجل تعال خذ نصف الاجره .. ما في داعي تستاهلها، فسرّ السائق الحساوي وابتسم بتعجب.! بينما وجد زيد نفسه تائها وحيدا مطاردا في يوم بارد من ايام المربعانيه، فقصد الدكان الوحيد في القريه الذي يبيع حبال وعصي ودلال وبعض الملابس الباليه .. سأله صاحب الدكان العجوز .. وين وجهتك يا ولد .. عابر سبيل يا عم متجه للبحرين لابحث عن عمل .. تحدث معه زيد عن بعض السلع التي يبيعها، وعن اقيامها ومن اين يأتي بها، فوجد الرجل ان لدى زيد خبره في البيع والشراء فاستأنس بالحديث معه، فبعد ان تمكن زيد من ملاطفة الرجل سأله .. يا عم ما تشغلني عندك صبي وإلا تخبر لي عمل في قريتكم .. ؟يا ولدي الشاب في ديرتنا اذا نهض فإما أن يعمل في ارامكو أو يجلس يرعى الحلال مع اهله .. كما أن دكاني صغير لا يحتمل صبي … جلس زيد على دكة الدكان يرتجف من البرد ويتضور جوعا، فمد له صاحب الدكان ثلاث قطع من الاقط في كفه، شكره زيد والتهمها في ثواني، فشعر بعدها بالحموضه وببقايا الاقط المحشور في حلقه، فاطفأه بجرعه من الماء، ثم التفت الى صاحب الدكان وقال : يا اللحية الغانمه ذبحني البرد، ما القى عندك بشت وبر دافي..؟ عندي كوت من الاكوات الخضر الطوال، يسمونها اكوات هتلير، تراه دافي وقيمته ١٢ ريال٬رفع زيد ثوبه واعطاه المبلغ من كمر يلفه حول وسطه، ولبس الكوت بعد ان نفض عنه الغبار. حضر زبون الى الدكان في سياره وانيت قديمه لها صندوق جوانبه خشبيه٬قال له صاحب الدكان يا ابو مشيع إن كان عادك تدور على راعي قد ربي ساقه لك مشيرا الى زيد ، فالتفت الى زيد ووسلم عليه باشاره من يده، ثم جلس الرجلان يتحدثان بصوت منخفض شعر بانهما يتهامسان حوله. فبعد مشاورات ومداولات وتردد قبل ابو مشيع بان يجرب زيد، فانطلقت السياره بهما باتجاه الغرب سالكة جاده في الصحراء، فطاف به ابو مشيع صوب المراعي القريبه لكي يتعرف عليها، فاشار بيده نحو موقعا لمعركه يسمى الرياحيه، ثم انعطف جنوبا باتجاه مرعى بالقرب من مرتفع يُعرف باسم شداد، ثم اتجه غربا الى مكان يسمى البراعين، وشاهد زيد قطعان الابل القادمه من الجنوب متجهه شمالا طلبا لبواكير اعشاب الربيع. لم يكن ابو مشيع بدويا قُح بل نصف متحضر، قد تجاوز الستين لكنه صلب ومستقيم، كلامه ومظهره يوحي بانه حَسن المعشر، ثم توقفت السياره امام بيت من الشعر نُصب في حيّز ممتد بين سفوح مغطاه بأعشاب الربل والحربث والغريره، وبشجيرات الرمث والثمامه، واشجار متفرقه من الغضى. بجانب بيت الشعر ظهر خليط من الضأن السود والماعز العوارض وكلبا حراسه كانا قد بسطا ذزاعيهما متوجسان٬نزلا من السياره فقال له ابو مشيع .. حياك الله في جوف بني هاجر، فلفحت زيد رائحة مختلطه من دمن غنم وصوف مبلل من اثار امطار البارحه، بينما قطع الصمت نهيق حمار كان موثقا بوتد قريب من الخيمه. اعدت زوجة ابو مشيع مكان الجلوس، ونظفت الموقد من الرماد واشعلت النار باعواد من نبات الرمث، جلسا حول النار فنادا ابو مشيع زوجته التي كانت تتأرجح جيئة وذهابا بين الخيمه ومكان الغنم .. تعالي يا هويه ان كان ودك تاخذين علوم الراعي .. قالت: إن شاء الله ذا الرجال الي معك راعي ! ذا شيفته شيفة ولد شيوخ .. ! ومنذ متى صار الرعي معيبه يا مره .. ! النبي قد رعى الغنم وهو اشرف واعز من كل شيخ على وجه الارض .. ثم اقبلت وبيدها دلتان وبالاخرى طاسه من اللبن وجلست معهما، كانت معصوبة الرأس ولها عينين وديعتين تُطل بهما من خلال البرقع، ترتدي ثوبا داكنا تحته سروال اسود ظهرت اطرافه فوق القدم، ممتلئة الجسم طويله وجذابه، فقالت لزيد من وين انت ؟ انا من الطف في نجد .. عندكم حلال ومراعي ؟ الله الله .. مراعينا في الخبوب والمسايل .. ويش ينبت عندكم .. ؟ ينبت عندنا الربله الي يخلي الحلال يدر الحليب والسعدان يكسّبها شحم والخبيّز عند مجاري السيول والخزامى بعد هطول المطر واشجار الغضى والطلح والسدر وغيرها من النباتات .. ثم اثقلت عليه بالاسأله التي تتعلق بالاسباب التي دعته للمجيء الى عين دار، فاثارت ردوده وتيرة الشك لديها. لم تطيل الجلوس معهما بل انسلت الى الخيمه لاعداد العشاء .. فقال له ابو مشيع ملطفا الجو .. حريم البدو ثرثارات وتظهر عليهن علامات المشاكسه والعبوس دون سبب واضح .. هي ماهيب من جماعتنا انا هاجري وهي زعبيه .. على قول المثل .. لا تركب إلا عمانيه ولا تتزوج إلا زعبيه، والظاهر ان ركوب العمانيه ابرك من الزوجه الزعبيه قالها ممازحا وهو يضحك .. حلّ الليل واشعلت هويه السراج في النهايه البعيده من الخيمه، ثم قدمت لهما العشاء، رز ايدامه السمن وبضع حبات من التمر المغموس في الزبد، قال ابو مشيع :انا اعرف يازيد انكم في نجد على العكس منا تفضلون اكل الخبز على الرز، وهذا امر طبيعي فانتم تزرعون القمح بينما الرز يأتيكم من الخارج. فرغوا من العشاء فأعد له ابو مشيع مرقدا في مجلس الخيمه وقال له اذا ما كفاك اللحاف تغطى بالزوليه. لم يكن يفصل زيد عن ابو مشيع وزوجته سوى ساتر. فسمعها قبيل الفجر تناجي زوجها..ابو مشيع .. ابو مشيع .. ويش عندك يامره ؟ حلمت حلم شين .. اللهم اجعله خير .. حلمت بان هناك ريحا قويه ازاحت التراب عن قبر وقذفت بجثة صاحبه في العراء تنهش فيها الضباع .. تعوذي من الشيطان ونامي .. اعوذ بالله بس انا حلومي ما تخطي .. ثم تحدثت اليه بلهجه مشوبه بالشك،معبرة له عن مدى قلقها من تسرعه في استضافة هذا الرجل الغريب ..! لم يسمع زيد تحاورهما جيدا ولكنه فهم مضمونه، فامضى ليلته يفكر شاخصا ببصره للاعلى وذا بنجم سهيل يلعج في السماء، وحالما بزغ الفجر رفع زيد الاذان، ثم كبّر لصلاه فسمعه ابو مشيع فلحق به وصلى وراءه .. قرأ زيد .. الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاه فيها مصباح المصباح في زجاجه الزجاجه كأنها كوكب دري .. كان صوته عذبا وسلسا خاشعا متضرعا لله .. سلّم ولاحظ أن ابو مشيع ينظر الى موضع سجوده وعيناه قد امتلأت بالدمع، فالتفت اليه وقال: اريد ان اعود الى الطف لقضاء بعض اللزوم ثم ارجع بعد عدة ايام .. بسرعه كذا يا ولدي يعلم الله ان ما ودي انك تتركنا واني حبيتك من كل قلبي، بس اكرام النفس هواها .. ربّت زيد على ركبته قائلا .. تسلم يا عم وانا نفس الشيء لكن للظروف احكام، .ثم اتجه ابو مشيع الى الخيمه وهو يمسح دموعه بغترته، فقال لزوجته بأن زيد يريد ان يرحل ولا اظنه ينوي الرجوع .. ليه ما لزّمت عليه يجلس يا ابو مشيع ..؟ لم تتركي لي مجالا يامره، فانا وهو قد سمعنا منك كلاما واحلاما تنفر منها الحجر والشجر.. تكفى حاول فيه يا ابو مشيع فلقد رق له قلبي عندما سمعته يقرأ القرآن في الصلاه .. نظر اليها نظرة استغراب وعتب ثم صد عنها، واخذ زيد على الفور الى المكان الذي تقف عنده سيارات الاجره في عين دار، فركب زيد سياره متجهه الى الرياض .. فودعه ابو مشيع قائلا .. ترى الوجه من الوجه ابيض .. فهم زيد مغزى العباره ولم يكترث، فهو لم يكن ينوي الرجوع اصلا . . فغادر عين دار بلا هدف ليواجه مصير غير معروف ..
التعليقات (0)