حين تطأ قدماك هذه الجنة الاستوائية المطيرة ستشعر بأنك عدت من جديد إلى نقطة بداية الرحلة التي قطعتها. فأنت في كوبا نادرا ما تشعر بغربة المكان واختلاف البشر من حولك, فالتماثل المطلوب لطرد أحاسيس الغربة والاختلاف ليس شرطا أساسيا في هذه الجزيرة الواقعة في حوض البحر الكاريبي, فالابتسامة الصافية وشفافية المشاعر هما الوطن الذي يبحث عنه كل مغترب, وما دون ذلك مجرد تفاصيل يمكن التغلب عليها مع مرور الوقت.
شمس دافئة طوال العام وغيوم كثيفة تحجب الحرارة الزائدة في الوقت المناسب, عاصمة ملونة بعمائرها وسكانها الذين مزجهم التاريخ بغزاته ومهاجريه, وشعب ينبذ الغضب ويعشق موسيقى السلسا حتى الثمالة ويريدها دوما أن تتسلل إلى أذنيه من كل شارع وزقاق, وأخيرا تاريخ عريق من النضال ضد الاستعمار والهيمنة الخارجية لا يجد المرء بدا من الوقوف احتراما له.
إنها حقا بيئة محرضة على المكوث فيها. ولم لا? فآرنست همنجواي صاحب رائعة (العجوز والبحر) وقع أسير جمالها لعشرين عاما كاتبا وعابثا, ومن سلم من سحرها وقع في براثن سيجارها الفاخر مثل ونستون تشرشل أعظم سياسي مر على بريطانيا في القرن الفائت ولطالما قال (كوبا دوما على شفاهي).
العم سام في ضيافة العم فيدل
بعد خمس عشرة ساعة من التحليق غير المتواصل فوق قارتين ومحيط مهيب وصلنا إلى مطار خوسيه مارتي في العاصمة الكوبية هافانا, كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء مما يعني أن ظلام الليل سيحجب عنا مشاهدة ما تبقى من حياة المدينة ونشاطها, كنا نبحث عن المفاجآت منذ دقائقنا الأولى في البلاد التي حبست أنفاس العالم يوما وكادت بسببه أن تنشب الحرب العالمية النهائية بين العملاقين روسيا وأمريكا فيما كان يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية, ولم تمهلنا المفاجآت طويلا فما أن تسلمنا حقائبنا حتى علمنا أن الدولار الأمريكي مشرع الاستخدام في كوبا منذ عام 1993 ولا حاجة لتبديله بالعملة المحلية (البيزو). المفاجأة الثانية تمثلت في السياح الأمريكيين الذين يأتون إلى كوبا عن طريق دول مجاورة لها - مثل جامايكا - متحدين بذلك قرارات الحظر التجاري التي فرضتها حكومتهم على هافانا, وهؤلاء السياح لا تختم جوازات سفرهم لتسهيل زيارتهم لكوبا. المفاجأة الأخيرة هي خلو المطار وجميع شوارع هافانا كما شاهدنا لاحقا من صور الزعيم فيدل كاسترو رئيس الدولة وبدلا منها كانت صور وتماثيل البطل القومي الكوبي خوسيه مارتي والثائر الأممي تشي جيفارا هي التي تملأ الشوارع والميادين العامة.
الشخصية الكوبية المستقلة
في صباح اليوم التالي الذي بدأ برطوبة خفيفة كنا في جولة استكشافية لمعالم هافانا بشطريها, القديم والحديث الذي بدأ العمل به منذ نجاح الثورة عام 1959 - ومن منطقة ميرامار في هافانا الجديدة انطلقنا, وكان لافتا منذ البداية هدوء تلك المنطقة التي تحيط بمنازلها الخفيضة الأشجار الخضراء المورقة, وهو ما جعلها بطبيعة الحال المكان المفضل لغالبية البعثات الدبلوماسية في هافانا, وفي طريقنا نحو مارينا همنجواي طلت علينا بشموخ عجيب بعض المباني والقصور المهجورة من مخلفات أنظمة ما قبل الثورة وقد ملئت ساحاتها الفسيحة بأكوام من حشائش النسيان.
تركنا هافانا الجديدة واتجهنا نحو الشطر القديم منها وشيئا فشيئا بدأ الناس وزحمة المرور بالتكثف حول مواقف الباصات المسماة في كوبا (الجمل), وتعاني كوبا التي يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة من أزمة مواصلات نتيجة قلة السيارات وغلاء أسعار المحروقات الأمر الذي دفع الكثير من الناس إلى استخدام الدراجات الهوائية والنارية المنخفضة التكاليف, ووفرت السلطات سيارات تاكسي صغيرة الحجم تتسع لشخصين فقط بأسعار زهيدة لحل هذه الأزمة أو التخفيف من مظاهرها.
في منطقة ماليكون الساحلية تنتصب أمامنا عشرات العمارات الملونة التي يصطدم بها الهواء المنعش المندفع بقوة من الخليج المكسيكي, وفنادق عبث عصابات المافيا الأمريكية في الزمن الغابر, وقبل أن نصل بقليل إلى النقطة التي سنبدأ منها اكتشاف هافانا القديمة, شاهدنا سوقا صغيرة لبيع اللوحات الزيتية المعبرة عن الحياة الكوبية ومئات القطع من التذكارات والهدايا الخفيفة, في هذه السوق الضيقة يمكن رصد جميع الأجناس التي انصهرت بيضا وزنوجا وملونين لتنتج لنا الشخصية الكوبية المستقلة, ففي كوبا الكل يميل إلى الشرح والإسهاب - كالعرب تماما - والكل يفيض بالعاطفة الحارة مثل شعوب أمريكا اللاتينية, والكل يتحلى بالتسامح مثل دول جنوب شرق آسيا, وساهمت بعض الأحداث الدولية في تركيبة الشعب الكوبي, الذي تكون في البداية من الإسبان والعبيد الذين تم جلبهم من إفريقيا, والثورة التي نشبت في جزيرة هاييتي نهاية القرن الثامن عشر دفعت بأعداد كبيرة من الفرنسيين للاستقرار في مدينة سانتياجو, وعندما بدأت الأزمة الاقتصادية في إسبانيا 1921 قامت موجة هجرة كبيرة منها نحو كوبا, وهناك الهجرة العربية التي سنتعرض لها لاحقا.
السيجار الكوبي.. أنت في بلد المنشأ
الحديث عن كوبا في أي محفل دون ذكر سيجارها الفاخر بنوعيه الكوهيبا وروميو وجولييت حديث غير مكتمل الأركان, فالاثنان مرتبطان بزواج كاثوليكي أبدي , وقد يصاب عشاق السيجار حول العالم بأزمة أو أزمات قلبية عند زيارتهم لكوبا فسماء هافانا تمطر سيجارا من كل حدب وصوب, لطالما تكبدوا مشقة البحث عنه وبأسعار باهظة, وخلف مبنى الكابيتوليو الضخم نهاية شارع مارتي يقع مصنع بارتاجاس للسيجار الذي شيد في منتصف القرن التاسع عشر, وجدد في السنوات الأخيرة ليصبح أكثر تألقا وإشراقا. داخل المصنع يمكن مشاهدة خط إنتاج السيجار من لحظة إحضار أوراق التبغ حتى استلقاء السيجار في حضن علبته, ويجلس عشرات العمال المهرة في صفوف يلفون ويقطعون ويضغطون أوراق التبغ في سرعة خيالية, وتتم حماية أوراق التبغ في الحقول من أشعة الشمس الاستوائية الحارقة بلفها بقطع من القماش لضمان سلامتها. يقول أحد عمال مصنع بارتاجاس عن أفضل أنواع السيجار التي يصنعها (إنها تلك التي تلف من ورقة واحدة مع ضغط متوسط, لأن الضغط الزائد يجعل تدخين السيجار صعبا والضغط الخفيف يحرق السيجار بسرعة). وعندما سألناه عن حكاية السيجار الذي يلف على سيقان العذارى ضحك قليلا وقال (إنها مجرد أسطورة فعملية اللف تتم على اللوحة المعدنية التي أمامي وما يوضع على الساق من أوراق هو تجميع قبل اللف وهي عملية يقوم بها الجميع وليست مقصورة على العذارى), وينتج عمال مصنع بارتاجاس ما يزيد على خمسة ملايين سيجار سنويا.
وفي كوبا سوقان للسيجار إحداهما رسمية والثانية سوق سوداء, وفي السوق الأولى التي يباع فيها السيجار في محلات أنيقة يصل سعر أغلى علبة سيجار تضم 25 حبة إلى 350 دولارا أمريكيا غير قابلة للتفاوض, وهذا السعر بمقياس زوار كوبا أكثر من معقول مقارنة بأسعاره خارج كوبا, وتسمح محلات السيجار الحكومية لزبائنها بتجريب النوع الراغبين في شرائه وكل علبة تخرج من المحل مختومة بختم الجودة وفاتورة تثبت شرعية الحصول عليها. في السوق السوداء الوضع مختلف تماما فالسيجار يباع بالمفرق وبعلب لمن أراد بأسعار زهيدة ولكن مشكلة هذه الأنواع أنها غير مضمونة الجودة فبعضها لف بطريقة غير متقنة وبعضها الآخر مليء بالنشارة, وتأتي مصادر السوق السوداء من السيجار من المنازل والورش وبعض الكميات التي تم الحصول عليها بطريقة ما من مصانع الدولة.
وتصادر السلطات الكوبية في المطارات والموانئ جميع علب السيجار المشتراة من السوق السوداء ولا تسمح بالمرور إلا لمن يمتلك فاتورة الشراء وختم الجودة, وكنوع من حسن الضيافة لا تمانع السلطات للسياح بأخذ علبتين من السوق السوداء وما يزيد يصادر.
ترميم هافانا العجوز
إن مدينة هافانا القديمة - التي أعلنتها منظمة اليونسكو عام 1982 موقعا تراثيا عالميا - مدينة مفتوحة الأفق لا يشعر من يتلمس شوارعها بالاختناق الأسمنتي, فالشمس تسطع في دواخلها طوال اليوم, ومركزها مثل أطرافها يمكن مشاهدة البحر من خلاله. ومن صممها جعل الضياع فيها من المستحيلات, هي أشبه بمستودع لا نهائي مليء بالتحف والمقتنيات الثمينة, فما إن تحمل واحدة حتى تظهر خلفها أو أسفلها واحدة أجمل وأغلى منها وهكذا دواليك, فساحة البلازا دي أرماس مثلا الشهيرة بسوق الكتب القديمة والمستعملة لا تستطيع الوصول إليها دون أن تشاهد العشرات من المواقع الأثرية, أضخمها قلعة ديل مورو المبنية عند رأس خليج هافانا تقابلها على الضفة الأخرى قلعة سان سلفادور دي لا بوينتا, وكأن القلعتين بوابة الدخول إلى خليج هافانا, وما إن تقترب من البلازا حتى تمر بجانب قلعة لو فويرزا المحاطة بالمياه من جميع الاتجاهات, وإذا ما اعتقدت أنك انتهيت جاءك من يقول لك: هل زرت قصر الحاكم الإسباني أيام الاستعمار? وهو بالمناسبة يطل على سوق الكتب القديمة والمستعملة.
لقد رصدت الحكومة الكوبية ما قيمته 30 مليون دولار للمحافظة على الأجزاء القديمة من هافانا التي شيدها المستعمرون الإسبان في عام 1519م, وكلف مؤرخ المدينة أوزيبيو ليال بهذه المهمة منذ السبعينيات وقد بدا العمل الفعلي منذ عشر سنوات, عندما أعاد هو وفريقه المكون من ستة آلاف شخص قصرا جميلا إلى الحياة في شارع لامباريا تم بناؤه في القرن التاسع عشر, ويواجه مشروع ليال الكثير من المصاعب من بينها عامل الزمن وهو يقول (هناك وقت محدود لإنقاذ الأشياء والمباني التي ستزول للأبد), كما يواجه انتقادات مفادها أن عمليات الترميم تستهدف فقط الأماكن الأرستقراطية التي يفضلها السياح, في حين أن وسط هافانا المليء بالمباني والكنائس بقي على حاله, وليال نفسه يقول: (أمامنا الكثير من العمل ولا يزال نصف هافانا أطلالا). ويعد قطاع السياحة المتنامي في كوبا الشريان المحرك للاقتصاد الوطني بعد أن تجاوز قطاع السكر المتعثر. ويزور البلاد مئات الألوف من السائحين القادمين من أوربا وكندا وغيرهما يحرصون بصورة خاصة على زيارة المدينة القديمة ومعالمها التاريخية والجلوس في مقاهيها للاستماع لموسيقى السلسا وأغنية جوانتاناميرا الشهيرة.
أين أنتم يا شباب الخمسينيات?
منذ أن غادرنا مطار خوسيه مارتي وأنا أتابع فيلما حيا للسيارات الأمريكية القديمة التي لم أشاهدها إلا بالأفلام القديمة, كنت أعتقد أن المسألة سوف تتوقف عند بضع عشرات من السيارات ولكن الرقم ارتفع بصورة جنونية كلما تجولت أكثر في هافانا, وغالبيتها يتوقف عند تاريخ بداية الحظر التجاري الأمريكي على كوبا بداية الستينيات, إن الجلوس على سور الواجهة البحرية في مالكون, البحر إلى خلفك يعني أفضل فرصة لمشاهدة عشرات السيارات القديمة بألوانها الزاهية وهي تقطع الطريق أمامنا ذهابا وإيابا, فورد خضراء موديل 57 تتبعها بلايموث حمراء قانية موديل 56 بعدها بقليل بويك بلونين أصفر وأبيض موديل 56 ثم كاديلاك زرقاء موديل 50 وشفروليت بيضاء بغطاء أزرق موديل 1950 تتسابق بصورة هزلية, وهكذا يستمر عرض السيارات إلى ما لا نهاية. ولم نترك هذا المشهد الذي يحمل الكثير من الدلالات دون سؤال فالبعض زعم أن ملكية تلك السيارات تعود إلى أفراد عصابات المافيا والطبقات الغنية قبل ثورة 1959, وفريق آخر قال إن كوبا قبل الثورة كانت من أغنى الدول في أمريكا اللاتينية, وأصحاب بعض تلك السيارات الذين سمحوا لنا بتصويرها قالوا لنا نحن نعيش في جزيرة ومفروض علينا حصار تجاري منذ أربعين سنة, إذن من الطبيعي ألا تدخل علينا سيارات جديدة, وسياراتنا هذه ليس أمامها طريق سوى البحر, ويتم استعمال عشرات السيارات القديمة في السر في هافانا كتاكسيات وأصحابها يحرصون على الوجود في الأماكن المكتظة بالسائحين الذين يدفعون بالعملة الصعبة, أحدهم ويدعى أرنستو, ورث سيارته الشفروليت موديل 56 من جده, حذرنا ونحن نخوض تجربة ركوب سيارته التحفة من قول الحقيقة أمام شرطي المرور والاكتفاء بالقول نحن في نزهة مع (اميغو (صديقنا) أرنستو).
بيت همنجواي الأبيض
الخروج من هافانا ولو لبعض الوقت يعطي أبعادا جديدة للمدينة لا يمكن رؤيتها من داخلها, خاصة إذا كان خط الرحلة مطابقا للخط الذي سار فيه الروائي الأمريكي ارنست همنجواي (1899-1961) الذي ترك هافانا وفندقها أمبوس موندوس, الذي أصبح مشهورا بسببه وتوجه إلى منطقة فرانسيسكو دي باولا القريبة حيث قام بتأجير مزرعته التي اشتراها لاحقا وكتب فيها أحسن رواياته وعلى الأخص رواية (العجوز والبحر) التي حصل بسببها على جائزة نوبل للآداب في عام 1954.
وفي رحلة قصيرة بالسيارة لم تتجاوز الساعة داخل غابة استوائية, كانت هادئة عندما اختارها همنجواي سكنا له وأصبحت اليوم تعج بالحركة وأصوات الناس والآلات, وصلنا إلى بوابة المزرعة التي تبلغ مساحتها 4 هكتارات وبعد مسافة أقصر في طريق متعرج ظهر بيت همنجواي بجدرانه البيضاء محاطا بأشجار المانجو والبامبو من كل اتجاه, وتقوم الحكومة الكوبية برعاية مزرعة همنجواي منذ أن غادر كوبا عام 1960 من شدة المرض, وكان قد طلب أن تفتح أبوابها للزوار وأن تترك جميع مقتنياته على حالها, ويشعر من يدخل مكتب همنجواي أو صالة المنزل بأن صاحب المكان تركه منذ برهة من الزمان وليس منذ أربعة عقود وأكثر.
وخلف همنجواي وراءه آلاف الكتب المنتشرة في كل مكان وحتى آلته الكاتبة التي اعتاد في أواخر أيامه الوقوف للكتابة عليها لم يفكر في اصطحابها معه وتركها في مكانها, وتعكس مقتنيات همنجواي بأنواعها الهوايات التي كان يمارسها.
فرأس البافلو الضخم المعلق داخل مكتبه يشهد على مغامرات صيده بالبندقية في أدغال أفريقيا, أما يخته الثمين المثبت حاليا في ساحة ملعب التنس فيروي عنه صاحبه عشرات القصص واللحظات المثيرة التي قضاها على سطحه, ويعتقد أن جريجوريو فيونتس الصياد الذي كان يعمل على يخت همنجواي هو الذي ألهمه بشخصية الرجل العجوز في روايته الشهيرة (العجوز والبحر) وتحكي قصة الصراع المرير بين صياد كوبي وسمكة مارلين عملاقة استمر لثلاثة أيام متواصلة انتهت بخسارته لها, وقد صورت هذه الرواية في فيلم زاد من شهرتها ومن شهرة فيونتس الذي تحول إلى معلم ثقافي طوال حياته المديدة, وقد أهداه همنجواي يخته قبل رحلته الأخيرة إلى أمريكا تقديرا للدور الذي لعبه في حياته على ما يبدو, وبدوره تبرع فيونتس للحكومة الكوبية باليخت المسمى بيلار ليوضع في مزرعة همنجواي, وفي يناير من عام 2002 غيب الموت فيونتس عن 104 أعوام بعدما ظل يعرب في عقودها الأربعة الأخيرة عن حزنه لفقدانه صديقه أرنست همنجواي.
كوبا.. تاريخ من المستعمرين
في أول رحلة لكرستوفر كولمبس لاكتشاف العالم الجديد مر في طريقه على جزيرة كوبا في 21/10/1492 وقد سماها (جوانا). وتقول بعض الروايات إن بعض البحارة العرب المرافقين لكولمبس عندما شاهدوا كوبا من بعيد صاحوا قبة.. قبة.. لأنهم شاهدوا شيئا ما على تلك الجزيرة يشبه القبة, ومن هذه الكلمة تم اشتقاق اسم كوبا باللغة اللاتينية, وفي عام 1511 تم استعمار كوبا فعليا من قبل الإسبان الذين حولوا جزيرة كوبا إلى قاعدة انطلاق أساطيلهم البحرية نحو أمريكا الجنوبية, وظلت عملية بناء القلاع والتحصينات المنيعة هي الشغل الشاغل للإسبان الذين انزعجوا من الهجمات المتكررة للقراصنة على غنائمهم, وعلى التوالي قام القائد دييجو بيلاثكيت ببناء العديد من المدن أبرزها سانتياجو 1514 وهافانا 1515 لتحقيق هذا الغرض, وواجهت الجزيرة خلال القرن السابع عشر الكثير من هجمات القراصنة الفرنسيين والهولنديين الذين نهبوا قرية سانكيتي اسبريتوس في عام 1665.
ولم تكتف جزيرة كوبا بهذا القدر من الغزاة, إذ قام ثلاثون ألف جندي إنجليزي تحملهم 27 سفينة حربية باحتلال قصير الأمد لهافانا عام 1762 استعادتها إسبانيا مجددا في العام التالي دون سلاح إثر اتفاقية باريس التي تنازلت إسبانيا فيها لبريطانيا عن فلوريدا, وقد ناضل الشعب الكوبي عقودا طويلة من أجل استقلاله عن إسبانيا, وفي العاشر من أكتوبر 1868 أعلن قائدا حرب السنوات العشر كارلوس مانويل ثيسبيدس وماكسيمو جومث استقلال كوبا إلا أن هذه المحاولة فشلت, وكانت المحاولة الثانية بقيادة خوسيه مارتي الذي قرر عام 1895 قيادة حملة تحرير كوبا انطلاقا من الأراضي الأمريكية ولم يفلح وسقط قتيلا, كما توقع هو لنفسه قبل بداية الحملة.
المحاولة الثالثة والأخيرة لتحرير كوبا من الاحتلال الإسباني جاءت مع نهاية مرحلة انهيار إسبانيا وعجزها عن حماية مستعمراتها البعيدة في البحر الكاريبي, وفي المقابل كانت هذه المرحلة هي مرحلة صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عسكرية دولية كانت تطمح إلى تفكيك ممتلكات الإمبراطورية الإسبانية والسيطرة عليها, وبعد أن تم تفجير باخرة أمريكية في خليج هافانا عام 1898 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على إسبانيا التي هزمت في نهاية المطاف لتخرج من كوبا إلى الأبد ولتوقع معاهدة سلمية مع واشنطن اعترفت فيها باستقلال كوبا مع تنازلها عن بورتوريكو وجزر الفليبين, ولم يخرج الجيش الأمريكي من كوبا إلا عقب إبرامه لمعاهدة حق تأجير قاعدة جوانتانامو عام 1903 وحق التدخل لحماية مصالحها.
الاتحاد العربي في كوبا
في الرابع من أبريل 1979 نجح الكوبيون من أصل عربي في تأسيس اتحاد واحد صهر الأسرة العربية في كوبا من خلال توحيد الجمعية اللبنانية في هافانا والجمعية العربية المركزية والجمعية العربية الفلسطينية في كوبا بعد أن وصلت الجمعيات العربية في كوبا في يوم من الأيام إلى 30 جمعية ترفيهية أو خيرية, وفي أضخم شوارع هافانا وأشهرها على الإطلاق وهو شارع باسيو دي مارتي الذي يبدأ بقلعة سان سلفادور دي بوينتا, المطلة على خليج هافانا وينتهي بمبنى الكابيتوليو الضخم, تطل علينا في منتصف ذلك الشارع لوحة مكتوب عليها بأحرف عربية (الاتحاد العربي في كوبا) وهو اتحاد يمثل جميع المتحدرين من أصول عربية في كوبا بأسرها, كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ظهرا صعدنا السلم الطويل الضيق المؤدي لمقر الاتحاد ومن بعيد أطل علينا رجل حسن المظهر كأنه كان بانتظارنا عند نهاية السلم وما إن أدركناه حتى استقبلنا بابتسامة عريضة وقال بعربية مكسرة: (أهلا وسهلا أنا أعرف عربي شويه) وأخذنا أنا وزميلي المصور إلى غرفة صغيرة عربية الطراز بها صور عديدة بالأبيض والأسود. مضيفنا كان السيد اريو جبور في السبعين من عمره أمه لبنانية وأبوه كوبي ويقول جبور عن علاقته بالوطن العربي (لقد ذهبت للعمل في ليبيا قبل عشرين عاما وقمت بزيارة دمشق لفترة قصيرة ومن هناك تعلمت القليل من اللغة العربية) وبدا واضحا شغف جبور بأخبار الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط, وبعد حوار طويل أسعفتنا فيه إسبانيتنا الوليدة تنهد جبور قليلا ثم أكمل (أنا أريد العرب رزمة واحدة لأن الرزمة لا تكسر بسهولة). سألنا جبور عن الصور القديمة المحيطة بنا وهذا المكان الذي نجلس فيه ولا يبدو أنه مقر اتحاد فأجاب (هذه الصور تمثل بعض موجات الهجرة العربية إلى كوبا.. ونحن الآن نجلس في المطعم العربي الذي تمول إيراداته مصاريف الاتحاد, وأما المقر فهو على بعد خطوات من هنا ويوم السبت من كل أسبوع هو موعد اللقاء الدوري لأعضاء الاتحاد العربي كما أن أنشطته الثقافية والفنية تقام أيضا في ذلك اليوم).
في الزيارة الثانية لمقر الاتحاد العربي في كوبا كانت الأوضاع مختلفة تماما عن سابقتها, حيث لاحظنا فيه حركة أنشطة وروادا أكثر, في القاعة الكبرى كانت هناك محاضرة على وشك البدء موضوعها عن الحضارة العربية بين الأمس واليوم يلقيها أستاذ متخصص من جامعة هافانا, وفي غرفة أصغر تم تجهيزها بمشقة لتكون فصلا دراسيا جلس مدرس عربي أمام تلاميذه الكوبيين الأربعة يعلمهم مبادئ اللغة العربية في درس أسبوعي لمدة تسعة أشهر, وبينما كنا منهمكين في تدوين ذلك المشهد التقينا مستشار الرئيس الكوبي للشئون العربية أهوادو فلار اميل, الذي بين لنا أنه كان عائدا للتو من مؤتمر للجاليات العربية في أمريكا الجنوبية عقد في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس.
رئيس الاتحاد العربي في كوبا الفريدو درويش وهو ينتمي إلى نفس عائلة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش, قال عن الوجود العربي في كوبا إنه قديم جدا, مشيرا إلى أنه لن يتحدث عن الذين جاءوا مع كولمبس - أوقبله - بل عن آخر موجة من المهاجرين العرب إلى كوبا والذين نحن أحفادهم, ولدينا وثيقة من شخص عربي تم تعميده في إحدى الكنائس عام 1784, وأضاف درويش (تاريخنا في كوبا غني فقد شارك العرب في حروب الاستقلال عامي 1865 و1895 وخاضوا تلك النضالات ككوبيين, وفي 1905 بدأ العرب بإنشاء جمعيات في مختلف أرجاء البلاد نتيجة للهجرات العربية المتزايدة لكوبا, تم تشكيلها تبعا للبلد الذي جاء المهاجر منه دون أن يمنع ذلك إقامة علاقات مشتركة بين تلك الجمعيات, وقد بقيت تلك الأوضاع إلى أن نجحنا في تكوين الاتحاد العربي في كوبا, ويضم جميع تلك الجمعيات تحت مظلته وقد اخترنا موعد الإشهار الذي تزامن مع انعقاد قمة دول عدم الانحياز السادسة في هافانا 1979, لنعطي الرؤساء العرب المشاركين فيها مثالا على إمكان نجاح العرب في إقامة اتحاد واحد يجمعهم).
ويؤكد درويش أن (ثورة 1959 باشتراكيتها ساهمت بهجرة العرب أصحاب المال والأعمال من كوبا, خاصة أن قطاعا كبيرا منهم هاجر من موطنه الأصلي لأسباب اقتصادية, ومنذ ذلك التاريخ توقفت الهجرة إلى كوبا فيما عدا طلاب عرب قلائل درسوا في إحدى جامعات كوبا وقرروا البقاء فيها بعد تخرجهم, وقبل الثورة كان ولا يزال الكوبيون من أصل عربي يشاركون في جميع مؤسسات الدولة الاجتماعية والثقافية والسياسية, وحاليا لدينا أعضاء في المكتب السياسي للحزب الحاكم ووزراء ونواب وزراء وأعضاء في البرلمان ودبلوماسيون وأشخاص بارزون في كل المجالات).
ويقول درويش عن شعور أعضاء الاتحاد بوطنهم الأم (نحن ككوبيين نشعر بأننا عرب مخلصون للدم العربي الذي يجري في عروقنا وعاداتنا وتقاليدنا إلى اليوم نستمدها من جذورنا العربية, إن أنشطتنا بمختلف فعالياتها تدور حول العرب وقضاياهم المصيرية التي نشعر بأننا جزء منها, وهنا نحن نمثل ظاهرة ثقافية داخل المجتمع الكوبي, ولقد ساعدتنا مبادئ ثورة 1959 على التوحد وإنشاء الاتحاد العربي في كوبا).
وبين درويش, استنادا إلى وثائق الاتحاد, أن (تعداد الكوبيين من أصل عربي يقدر بـ 45 ألفا منهم 10 آلاف عضو في الاتحاد العربي غالبيتهم العظمى من اللبنانيين, والباقون سوريون وفلسطينيون, هم إلى جانب الأنشطة الاجتماعية والمطعم يمولون ميزانية الاتحاد الذي لا يتلقى الدعم من أي جهة كانت سواء داخلية أو خارجية, وبالرغم من الصعوبات المالية التي نواجهها فإن عملنا المتواضع يوازي عمل المنظمات العربية المماثلة في دول قارة أمريكا اللاتينية التي تضم الكثير من الأثرياء العرب).
وختم درويش مبتسما (نحن بكل تواضع ظاهرة غير عادية ووحيدة في عالم المهاجرين العرب وبخاصة في أمريكا اللاتينية).
لقاؤنا الثاني تم في قاعة عرض اللوحات الفائزة في مسابقة (عبدالله), التي ينظمها الاتحاد العربي في كوبا,كان حوارا قصيرا لكنه من النوع المؤثر الذي لا ينسى بسهولة من فرط تداخل أحداثه المختصرة الدامغة التي تجعلك تتخيل تفاصيلها المرتبطة بالتاريخ, هو جزائري الأصل فلسطيني الهوية سوري المنشأ مهندس معماري ويدرس الماجستير حاليا في جامعة هافانا, والد جده (الجزائري) جاء مع البطل العربي الشهيد الأمير عبد القادر الجزائري لمقاومة الاحتلال الفرنسي في سوريا, وانتقل ذلك المقاتل إلى فلسطين وأنجب فيها جد محدثنا الذي يقول إن (جدي عاش ومات في فلسطين) وبعد فترة من الزمن هاجرت عائلته للإقامة في سوريا, وهم كما يقول (يحاولون الآن العودة إلى وطنهم الأم في الجزائر التي لم تنقطع صلاتهم العائلية بها), هو علي الشريف الذي رأيناه يدرس تلاميذه اللغة العربية.
وقبل أن نغادر مقر الاتحاد دس جبور في يدي ورقة صغيرة وقال لي (اذهب إلى هذا المكان سوف تجد فيه كنزا من المعلومات عن تاريخ العرب في كوبا), عندما ركبت التاكسي فتحت ورقة جبور وقرأتها (كازا دي لوس ارابيس) يا ترى ما الذي ينتظرنا هناك?
بيت العرب والمسجد اليتيم
بالرغم من ترددنا أول يومين على ساحة البلازا دي أرماس في هافانا القديمة ومرورنا المتكرر بجوار فندق أمبوس مندوس, الذي سكن فيه أرنست همنجواي بصورة مؤقتة قبل أن يستقر في مزرعته, فإننا لم نلحظ وجود بعض البيوت الصغيرة المجاورة لذلك الفندق التي يعرض كل واحد منها مقتنيات حضارة من الحضارات المعروفة ومن بينها بيت العرب الذي دلنا عليه صديقنا اريو جبور. في المدخل توجد الملابس العربية المستخدمة في أغلب الدول العربية كما توجد قطع من السجاد وجلسة عربية بدوية, الركن الثاني هو عبارة عن حوش عربي مغربي الطراز به نافورة صغيرة وطاووس حقيقي مر بجانبنا وكأننا في قصص ألف ليلة وليلة, صعدنا السلم المؤدي إلى الطابق الأول على اليمين وجدنا مكتبة صغيرة وعلى اليسار وصلنا إلى غرفة الكنز أو الغرفة التي تحتوي أهم الوثائق المتعلقة بالوجود العربي والإسلامي في كوبا, من أهمها أسماء أوائل المهاجرين العرب المسجلين رسميا في وثائق الدولة وصور لبعض أولئك المهاجرين فردية وجماعية. في الطابق الثاني والأخير وصلنا إلى المسجد الوحيد ليس فقط في هافانا وإنما في كوبا بأسرها والذي تمت العناية به من قبل السلطات الكوبية التي وفرت له المغاسل ومئذنة يرفع فيها اسم الله
جذور الوجود العربي والإسلامي في كوبا
ظهرت أول الأدلة على الوجود العربي والإسلامي في كوبا على هيئة أوامر ملكية صادرة عن التاج الإسباني طيلة القرن السادس عشر تنبه السلطات الاستعمارية إلى الوجود غير القانوني في العالم الجديد, لأشخاص تحولوا (لمورسكيين) وهي التسمية التي كانت تطلق على المسلمين الإسبان, وقد شملت تلك الأوامر أيضا مجموعات عرقية إفريقية كالبربر والجولوفي وهم أيضا مسلمون, وفي عام 1593 تم تعميد رجل موريسكي بربري الأصل في خورية هافانا الكبرى وقد سمى نفسه (خوان ديلا كروس), وبعد هذه السنة بثلاثة أعوام وصل بضعة عشرات من العبيد المسلمين من بينهم مجموعة يعود أصلها إلى ممالك المغرب وتونس وطرميسين, ويبدو من الوثائق التي حصلنا عليها خلطها العفوي بين المسلمين والعرب ووضعهم في خانة واحدة فمن جاءوا مهاجرين بعد كولمبس قد يكونون مسلمين وليسوا بالضرورة عربا, والعكس صحيح ولكن ما تلا ذلك من هجرات موثقة كانت أكثر وضوحا في هذه المسألة.
إن الهجرات العربية الكبيرة إلى كوبا جاءت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية النصف الأول من القرن العشرين, وهي تشمل اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين, وأول ممثلي تلك الموجة كان يوسف جبور الذي وصل كوبا عام 1870, وتكشف لنا إحصاءات الهجرة أن ما بين 1906 و1913 كان 30 بالمائة من العرب الذين وصلوا إلى كوبا, قد جاءوا مما يسمى بتركيا الآسيوية ومن بلدان أوربية وأمريكية أخرى, ويشكل اللبنانيون المسيحيون الجزء الأكبر من المهاجرين العرب لكوبا, بعد أن ضاقوا من معاملة الإمبراطورية العثمانية من جهة, ولسوء الأوضاع الاقتصادية في بلدانهم من جهة أخرى.
وما بين عامي 1920 و1931 دخل كوبا من المهاجرين العرب ما مجموعه 9337 مهاجرا فضلت غالبيتهم الاستقرار في المناطق الحضرية والتجارية, وفي القرى المتطورة في صناعة السكر وتربية المواشي, وقد مارسوا أنشطة تجارية متنوعة منها تجارة الأقمشة بالمفرق والخردوات والمجوهرات والخياطة والمطاعم الشرقية, وتركزت مجموعة كبيرة من المهاجرين العرب في (حارة العرب في هافانا) التي امتدت من شارع مونتي كشارع رئيسي لها إلى غيرها من الشوارع مثل مار نيقولاس وكوراليس, وفي مدينة سانتياجو دي كوبا العاصمة السابقة لكوبا تجمع المهاجرون العرب في حارة تيفولي , وللعرب في كوبا صحافتهم المميزة مثل (الفيحاء) التي صدرت عام 1931 و(السيف) عام 1932 و(الاتحاد) عام 1918, ولم تبق منها واحدة إلى اليوم باستثناء مجلة (العربي) الصادرة عن الاتحاد العربي في عام 1980 باللغة الإسبانية.
كوبا.. تحت الحصار
عانت كوبا طوال فترة التسعينيات أزمات اقتصادية متلاحقة بعد الانهيار المدوي لدول المعسكر الاشتراكي, وضعت نظامها السياسي في تحديات صعبة لا تقل مرارة عما واجهته في السنوات المبكرة بعد نجاح ثورة 1959, وكان التحدي الأول الذي نجحت القيادة الكوبية في تجاوزه هو بقاء النظام صامدا إلى اليوم بعد أن توقع له الكثيرون السقوط التلقائي, كما حصل في دول أوربا الشرقية التي تهاوت أنظمتها الشيوعية الواحد تلو الآخر.
وبرزت على سطح الأزمة الاقتصادية الكوبية العديد من المشكلات, في مقدمتها توقف المعونات السوفييتية السخية لكوبا, مما جعلها لأول مرة تستشعر خطورة الحصار التجاري الأمريكي المفروض عليها منذ عام 1961, خاصة مع تفرد واشنطن بقيادة العالم, وتراجع أسعار السكر وهي السلعة الرئيسية التي تصدرها كوبا إلى العالم, مما أدى إلى إغلاق 71 مصنعا بصورة نهائية من أصل 155 وتحويل 7 مصانع إلى متاحف, وتدهور قطاع السياحة بعد أحداث 11 سبتمبر أجبر الدولة على إغلاق 112 ألف غرفة من أصل 136 ألف غرفة فندقية متوافرة في كوبا أواخر عام 2002, وتعثر قطاع الزراعة وبروز أزمة غذاء, وأخيرا إعصار ميتشل الذي كبد ميزانية الدولة ما يقارب الملياري دولار.
وقد تميزت هذه المرحلة الصعبة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية - خاصة أنها لم تأخذ بالنموذجين الروسي والصيني, واعتمدت على تنشيط قطاع السياحة وتقليص الإنفاق الحكومي على الآلة العسكرية وتخفيض الجيش من 300 ألف جندي إلى 50 ألفا فقط, وتشريع تداول الدولار الأمريكي, والسماح بقيام المشروعات المشتركة بين الدولة ومستثمرين من الخارج, واعتماد نظام توزيع الحصص لمواجهة أزمة الغذاء كما سمحت السلطات الكوبية بزراعة حدائق المدن بمحاصيل مثمرة وإنشاء تعاونيات زراعية يبيع الفلاحون إنتاجهم منها مباشرة دون وسيط, وفي خط مواز لهذه الإصلاحات كثفت الحكومة الكوبية اهتمامها بالخدمات الاجتماعية (التعليم والخدمات الصحية المجانية) لتصل إلى مستوى مدرس لكل 12 طالبا و5.3 طبيب لكل 1000 مواطن, كما جاهدت في تجميد البطالة عند حدودها الدنيا, والوقوف ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
حديث المستقبل
أسئلة كثيرة تدفع نفسها إلى الذهن حول كوبا وأنت تغادرها, أصعبها يتمحور حول مستقبل الجزيرة الصغيرة بعد رحيل كاسترو? ومصير نظامها الاشتراكي ? وبإمكان أي شخص في كوبا الإجابة عن هذين السؤالين بسهولة فموضوع الخلافة حسم منذ عام 1977 لصالح راءول الأخ الأصغر للرئيس كاسترو وهو القائد العام للقوات المسلحة, وأما السؤال عن مصير الاشتراكية ففي أواخر يونيو 2002 وافق البرلمان الكوبي بأعضائه الستمائة على تعديل دستوري يدرج الاشتراكية في الدستور الكوبي بصورة (لا رجعة عنها), ولضخ الدماء الجديدة في الحزب الشيوعي الكوبي الحاكم تمت في السنوات الأخيرة تغييرات بمباركة الرئيس مكنت القيادات والكوادر الحزبية الشابة من الوصول لمراكز اتخاذ القرار, ومناقشة المواضيع الحساسة المتعلقة بمستقبل الاشتراكية في كوبا وقدرتها على الصمود في عالم رأسمالي ليبرالي.
وبعيدا عن الإجابات السابقة التي يراها البعض لا تكفي لمواجهة تحديات المستقبل, تبرز ثلاثة عوامل مهمة يتوقع لها أن تساهم بصورة أو بأخرى في رسم ملامح كوبا في مرحلة ما بعد كاسترو وهي: جيل الشباب, والمهاجرون الكوبيون المقيمون في ميامي على بعد 90 ميلا فقط من كوبا, وأخيرا الولايات المتحدة الأمريكية. وأقرب تصور يمكن توقعه لهذه المرحلة المجهولة هو بقاء الاشتراكية في كوبا بالمسمى فقط والأخذ بالنموذج الصيني في التحول إلى اقتصاديات السوق الحرة دون المساس بالخدمات الاجتماعية, دون أن يوصد ذلك الباب أمام توقعات أخرى منها ما يرجح بقاء كاسترو في السلطة حتى بعد رحيله ومنها ما يرجح انهيار السلطة خلال فترة وجيزة.
توجهنا إلى جامعة هافانا وسألنا بعض طلبتها الذين يبدو أنهم اعتادوا النقاش في موضوع مستقبل كوبا - دون تصوير طبعا - فهم من ناحية يشيدون بنظام الخدمات الصحية والتعليمية المجاني الذي مكنهم من الوصول إلى الدراسة الجامعية, ومن ناحية أخرى هم يريدون المزيد من الانفتاح على العالم وإقامة علاقة طبيعية مع جارتهم أمريكا. ماريا طالبة تدرس الحقوق تقول (لا نريد التغيير الذي يخلو من العقل ويجعلنا نشحذ مثل روسيا ودول أوربا الشرقية, ولكننا نريد أن نرى ألوانا مختلفة في كل مجال نختار منها ما نريد), أما أوزفالدو فقد قال باختصار شديد (لا نريد كل الحرية بل جزءا صغيرا منها).
التعليقات (0)