مواضيع اليوم

هاربات إلي الجحيم - الجزء الثاني

متمردة دوماً

2009-10-29 18:06:07

0


دخلت وفاء مسرعة إلى سريرها و أطفأت الأنوار حتى تختبئ من نظرات زوجها القلقة و خوفه المتزايد عليها .

اطمئن محمد على أبناءه ، و دخل ليجد أن الحيلة التي رسمتها بادعائها للنوم لن تفيد معه ، لا يريد سوى أن تكون بخير ، و تعود وفاء كعادتها فراشة تحلق في دنياه .

اندس بجانبها داخل السرير ، اقترب منها و جذبها إلي صدره بخفة ، و لفّ جسده النحيل بقوة و قال هامساً بعد أن وضع خده على خدها : ملاكي نائم و لكني متأكد بأن قلبه يسمعني ، لا أريد سوى وفاء .. و لأني أخاف أن يمر يوم و لا أجدها فأنا أتقدم بعرضي هذا لكِ يا ملاكي .

اتركي العمل في هذه المستشفى الحكومية و سأقوم بتدبير وظيفة أخرى في مستشفى خاص أو حتى لو شئتِ سوف أجهز لك عيادة خاصة .

قبّلها على خدها ، و جذبها إليه أكثر حتى كاد يشعر بفقرات ظهرها على صدره .

غمرها بحنانه و نام ، و بقيت هي لساعة متأخرة بأفكار مشتعلة ، و تلك الهواجس تطرد عنها النوم و الراحة .

كانت الأيام مملة ، فقدت فيه الكثير من تركيزها و نشاطها ، و فقدت أيضاً قدرتها على التعامل مع ردود أفعالها بذكائها المعهود .

خرجت من عيادتها بعد أن تركت استقالتها في ظرف مغلق و سلمتها للممرضة بعد أن أمرتها أن توصل الخطاب للإدارة المختصة .

انتظرت قدوم السائق و هي تحاول أن تطرد كل الأفكار السلبية من خيالها ، و تحاول أن تكون أكثر تحكما في أعصابها و مشاعرها .

حمودي و أبنائي بحاجة لي ، و سوف أجد وظيفة أخرى في أي مستشفى خاصة . لن أتحمل أن أرى منى أخرى .

ابتلعت أنفاسها بصعوبة عند تذكر منى و المرة الأولى التي رأتها فيها ، أحست بأنها يجب أن تبقى هنا ، ربما تعود منى هنا من جديد ، لم تشفى من الانهيار العصبي و حالة اليأس التي أصابتها .

كان السائق قد أتى ، فوقفت عند مدخل المستشفى لترمق المرضى و الاستقبال و حتى المصعد بنظرة وداع .

خرجت بخطى مسرعة ، تحاول الهروب من نفسها قبل أي شيء آخر . خافت إن بقيت لثانية أخرى أن تتراجع و تعدل عن قرارها .

ركبت السيارة و طلبت زوجها لتجد أن هاتفه مغلق فعرفت بأنه في المحكمة ، قامت بإغلاق هاتفها حتى لا تتلقى أي اتصال من المستشفى .

أمرت السائق بأن يتوجه لمدرسة غرام ، كانت ترى الطريق في هذا الوقت من النهار لأول مرة منذ سنتين .

تذكرت أنها لم تمنح نفسها إجازة من العمل على مدى سنتين متتاليين ، فأومأت برأسها و كأنها وجدت سبب هذا الإرهاق . سنتان مضتا من عمل و سهر . مريض يشكو و مريض آخر منهار و آخر في حالة إغماء . لم تكن هذه المشاهد سهلة مهما كان حجم الاعتياد عليها . و لأنها تملك روح شفافة و إدراك واسع ، كان لهذه المشاهد تأثير جمٌّ عليها .

ليست منى هي المريض الوحيد الذي أوصل وفاء إلى هذه الحالة من الألم . و لكنها التراكمات التي تنامت يوماً بعد يوم إلى عقل و وجدان وفاء ، فسببّت حالة من الألم تدعو إلى الشك في وجود الألم من الأساس . و لكنها في الحقيقة تعيش هذه الأحداث في كل نوبة عمل . و ربما كان لسنتين من العمل المستمر أثر كبير على ذلك .

عادت وفاء تجول بناظرها في كل شيء تمر عليه ، حتى بدت كغريب يزور مدينة للمرة الأولى ، تمعن النظر في المباني و الشوارع ، و حتى حرارة شمس جدة و رطوبتها العالية ، كانت غير مزعجة لها اليوم ، فقد كانت تريد اكتشاف وفاء التي غابت عنها لمدة أسبوعين عصيبين عليها و على عائلتها .

توقف السائق عند باب المدرسة ، و دخلت متوجهة لمكتب المديرة ، و أخذت إذن منها بانصراف غرام قبل انتهاء الدوام ، لم تمانع خصوصا و أن موعد الانصراف لم يتبقى عليه سوى عشرون دقيقة .

دخلت الفصل بهدوء لتجد غرام واقفة في مقدمة الفصل ، و تغني النشيد الذي تعلمته اليوم .

"أمي أمي ما أحلها
هي في قلبي لا أنساها
أدعو ربي طول اليوم
ربي ربي أحفظ أمي"

ما أن فرغت غرام من نشيدها الذي كانت تلقيهِ أمام باقي الطلاب، حتى تقدمت وفاء واحتضنتها، ولم تك فرحة غرام برؤية أمها أقل من فرحة وفاء بسعادة ابنتها بها.

طوال المدة و هما عائدتين إلى المنزل و غرام تتحدث مع أمها عن المدرسة و صديقاتها . كانت تنظر لها بحنان و شوق كبيرين ، تتنتقل بنظرها على تقاسيم وجه صغيرتها ، فأحست بأنها منذ مدة طويلة لم ترها من هذا القرب .

وصلتا إلى المنزل. فقررت وفاء أن تجهز وجبة الغداء بنفسها ، و أن تجعل من غرام مساعدتها في تحضير طاولة الطعام ، كانت تتحرك بشوق أم ، و لهفة و حنان طمسها التفكير في منى.

زاد من فرحتها الجو الحميمي الذي كان يحيط الأسرة كلها وقت تناول الطعام ، كانت تنظر لهم بفرح و فخر ، لم ينغص عليها إلا تذكر منى و كيفية وصفها لبعض المأكولات التي تناولتها بشراهة مع رجل غريب خرجت معه لتمنحه جسدها و يمنحها وجبة تسد جوعها .


فجأة شردت بتفكيرها ثم نظرت لغرام و قالت في نفسها : أرجوكِ يا صغيرتي لا تجعلي العهر خياركِ الوحيد مهما قست عليكِ الظروف .

 

 

 

 

 

كانت وفاء تجاهد لكي تشغل نفسها طوال الوقت عن التفكير في منى ، أعادت الحياة من جديد لعلاقاتها المتقطعة مع صديقات الدراسة ، واظبت على الذهاب للنادي الصحي ، و عادت لتمارس الرياضة التي أحبتها و تركتها مرغمة بسبب ظروف عملها .

غيرت تسريحة شعرها و لونه ، قامت بواجباتها الاجتماعية نحو أسرتها و أسرة زوجها ، و كانت تشعر بالخجل لتأخرها بالقيام بهذه الواجبات في الفترة الأخيرة ، كانت تبرر للجميع أن طبيعة عملها صعبة و مرهقة و هي السبب في تأجيل بعض الزيارات الأسرية .

جهزت لسهرة ودية مع صديقات الدراسة ، كان الوقت مناسب في آخر الأسبوع لثرثرة نسائية تستحضر الماضي بذكرياته البسيطة و الساذجة ، بأفراحه و أتراحه التي أدركن أنها كانت بريئة بما يعترض حياتهن الآن من مشاق و متاعب .

اجتمع الصديقات الخمس ، و بدا الليل قصيراً ، لم يخلو من ضحكات صادقة ، و زفرات قاتلة ، و دمعات حارقة .

كانت حجرة الاستقبال كبيرة و أنيقة ، و كانت لمسات وفاء في كل زاوية تخبرهن بمدى ذوقها الرفيع في تأثيث المنزل .

كانت الألوان هي ذاتها التي تحدثت عنها وفاء أيام الدراسة ، و كيف أنها تجد راحتها النفسية بين اللون الأبيض و الأصفر و الأخضر .

كان السجاد الإيراني المسجى على أرض الحجرة تحفة فنية ، اللوحات المعلقة على الحائط كفيلة بأن تبهرهن ذوقها الرفيع . حتى الطاولة الزجاجية المركونة في آخر الحجرة و طريقة وضع صور وفاء و عائلتها عليها تنم عن حس فني جميل و مبهر .

لم يخفين إعجابهن بذائقتها في تأثيث البيت ، و امتد الحوار للتحدث عن الأوضاع المادية لكل منهن ، و كيف أن الله منحهن أسر رائعة ، و أزواج مميزين .

و أخذهن الحديث إلى سمر ، الصديقة السادسة لهن ، و علت خيبة الأمل على أوجههن حيال تذكرها ، و كيف أن زوجها قد فتك به المرض الخبيث ليجعل من سمر المرحة زوجة مرهقة من هذا المرض الذي لم يمهلها سوى ثمان سنوات لتصبح أرملة تأن من وطأة الحياة المادية في ظل تربية أبنائها الثلاث . و بما أن سمر لم تكمل دراستها الثانوية لتصبح زوجة تقدس أسرتها ، اضطرتها الظروف القاسية للعمل كساعية في مكتب نسائي مقابل أجر 1500 ريال فقط . و باقي متطلباتها هي و أبنائها تبقى قيد الانتظار إلى أن يرسل لهم الله من يسد عوزهم ، و يفك ضائقتهم .

توقف الجميع عن الكلام و ساد الصمت فجأة في المكان عندما تساقطت دموع وفاء بغزارة دون سابق إنذار .
لم تفد كل الأسئلة في الحصول على إجابة واضحة منها تبين سبب هذه الدموع ، و خرجن و قلوبهن معلقة على أهدابها ، و التساؤلات تخنق الوقت الذي قضينه معها .
خرجن و كل واحدة منهن تتساءل هل قلت ما يكدر صفوها ؟! هل تسببت في إيذاء مشاعرها دون قصد ؟!

رحلن لتبقى وفاء داخل تلك الحجرة تذرف دموعها بحرارة ، و تنتحب بشدة و تتألم من كل شي و لأي شيء يذكرها بالفقر .

ذاك الخبيث الذي يجعل الإنسان يتغير بدون إرادة ، ليكتب له طريقاً أخرى غير التي رسمها لنفسه . ليفرض عليه أبعاداً لم يكن يتخيلها لحياة جديدة ، ما كانت في يوم ضمن دائرة تصوره لمستقبله .
سمر المدللة و الباحثة عن الأسرة السعيدة تعيش هذا الوجع بسبب الفقر ، كانت تراها و هي تتحدث عن رغبتها في الإنجاب أم سعيدة ، و كن يضحكن بملء قلوبهن البريئة عندما كانت ترفض أن تكمل دراستها . و كانت تتحدث بجدية عن رغبتها في أن تصبح زوجة و أم .
لو كانت تعلم المسكينة ما تخبئ لها الأيام من مر الأقدار ، هل كانت ستختار طريقاً أخرى غير الذي سلكته ؟! و لن يكون طموحها الوحيد أن تصبح أرملة ..

تساءلت و هي تحاول أن تنهض و تجفف دموعها ، لتسقط مرة أخرى في نوبة بكاء أشد من سابقتها . نوبة جعلتها لا تقوى على الوقوف على قدميها .

فكرة خبيثة جذبت وفاء لمنطقة سوداء ، ابتلعت كل ملامح البياض داخل نفسها ..
يا الله .. !!
هل يمكن أن يجبرها الفقر على أن تصبح عاهر ؟!
و زادت نوبة البكاء حدة حتى مزقت إحساسها بكل ما حولها ، فرحلت في نوبة إغماء مكللة بالوجع و الفجيعة ، لتستيقظ و هي في قسم الطوارئ ، محاطة بزوجها و أهلها و الأطباء .

لم تتمكن من النظر إلى عيونهم و التحدث معهم ، فاكتفت بأن تخبرهم بإيماءتها أنها في حال أفضل .

جنّد محمد نفسه للعناية بها . طيلة أسبوع لم يبرح البيت فيه ، حول كل القضايا التي يعمل عليها لشريكه في المكتب و أخذ إجازة مفتوحة ليعيد وفاء إلى ما كانت عليه .

هكذا قرر دون أن يهتم لرغبة وفاء بالصمت أو السكوت عن ما يضايقها حتى لا تحمله هم لا ذنب له به .

 

 

يتبع




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات