تحذير
في البدء ننوه للسادة المثاليين بأن البعض يحمل ماسي تترنح من ثقلها الجبال...
وأن المجتمع الملائكي لن يكون إلا في خيالاتهم الضيقة، ونظراتهم المحدودة للعمق الإنساني لمعنى المجتمع الطبيعي....
وعليه سيكون سخطكم فوق احتمال هذه القصة ، ولعناتكم أثقل بكثير من قلبي الصغير المتعب بصدق من تخلى عن ستاره ووقف عارياً من الأقنعة ليعترف بأن هناك خلل في مجتمعنا لا بد من إصلاحه ، أو في أضعف الأحوال الاعتراف به والسعي لتضيق نطاق الكارثة الاجتماعية المقبلة على وطننا.
أن كنا نرحم هذا الوطن من أوزار ورثنا الاجتماعي
اهداء
باقة ورد لروح كل عاهرة سعودية طاهرة
دخل محمد إلى المنزل بهدوء ظنا منه أن وفاء لم تعد من عملها ، وأن أبناءه غارقين في النوم .
عندما أغلق الباب لمح نور خافت يتسلل من زاوية وفاء المفضلة في البيت.
كانت تلك الزاوية عبارة عن غرفة صغيرة 4 أمتار X 4 أمتار حولتها برقتها إلي جنة بديعة ، وقد غرست بيديها الناعمتين أنواع مختلفة من شتلات الظل وبعض الورود وأسرفت في اقتناء الغاردينا ، كانت تلك الزهرة تشبهها ، حساسة تموت بسرعة أن تغيبت عنها وفاء ، وتزهر بطريقة مترفة الجمال أن منحتها وقت أضافي من الرعاية في يومٍ ما.
كان هناك مقعد خشبي لشخصين ، تجلس عليه عندما تشعر بالتعب أو الضيق.
كان يشك بأنها تتحدث مع تلك الأوراق الخضراء التي يراها تتدلى بحنان حولها ، وكأنها تحاول احتضانها ومنحها السكينة التي تنشد وقت معاناتها من ضغط العمل.
ركز نفسه بهدوء عند باب الجنة كما يطلق عليها دائما، ونظر لها بفستانها القطني الأبيض ، وهي محاطة بتلك الشتلات الحميمة .
كانت تجلس على الكرسي الخشبي وهي تضم قدميها لصدرها، وتحتضن كوبها بين يديها ، ونظراتها شاردة تبحث عن شيء ما .
تبسم باستحسان لهذا المنظر المتناغم بين زوجته الحبيبة وبين هذه الغرفة الجنة التي تنطق بتجانس فائق بين كل ما تحويه.
شعر بالسعادة وغبط نفسه على هذه الزوجة وهذا البيت وهذه الأسرة التي نجح في تكوينها مع شريكته وصديقته وحبيبته وفاء.
تبسم وردد في نفسه هل يوجد من هو أسعد منك يا محمد هذا المساء؟!
اقترب بخطوات هادئة نحوها ، ووضع شفتيه بالقرب من خدها ، وقبلها بعد أن قال لها بصوت حنون : ملاك أنتِ أم بشر؟!
التفتت وفاء وقد اصطنعت تكشيرة وقالت بصوت يفتعل الغضب: كم مره منعتك من الدخول متسلل يا حمودي ؟!
ضحك بصوت مرتفع بعد أن أحتضنها : بما أن فيها حمودي إذن فأنت لست غاضبة.
قالت بدلل : وكيف لك أن تعرف أني لست غاضبة ؟!
أبعدها بطريقة مسرحية عن حضنه وسحب نظارته إلى طرف أنفه ثم قال : عندما تكوني غاضبة يصبح اسمي محمد ، وعندما يكون غضبك شديد لا تناديني باسمي بل تفضلين استخدام ضمير المخاطب وتشيرين إلي بـ أنت .
ثم اعتدل في جلسته وطوقها بحنانه قبل يديه وهمس لها : وفي لحظات الرضا أصبح حمودي ، أسعد رجل في العالم .
أغمضت عينيها ودفنت رأسها في صدره علها تجد الهدوء الكافي ليريحها من الإجهاد النفسي الذي تشعر به
قبل جبينها وقال : ملاكي .. ماذا بكِ؟!
رفعت عينيها لترمي بنظرة تحمل كل التعب الذي يسكنها في مقلتيه ، ثم أعادت رأسها إلى صدره وقد علمت بأنه شعر بها ولا تريد أن يتألم معها .
تعلم حجم المتاعب التي يعانيها في عمله ، فأشفقت عليه من هم إضافي .
أراد أن يخرجها تدريجياً من هذا الوضع الموحش فقال بطريقة مازحة : أكيد الشيخ فيصل اعترض كعادته على النوم مبكر وصب غضبه على المدرسة .
قالت بعد أن تذكرت حوارها مع فيصل قبل نومه : إبنك يشبهك في كل شيء، يريد أن يغير النظام الدراسي من صباحي لدوام مسائي حتى لا يجبره أحد على النوم المبكر.
عنيد كأبيه تماما .
رمقها بنظرة حب وقال: قسمة عادلة جداً ، فيصل عنيد مثلي وغرام رقيقة وديعة مثلك.
أشكر الله على نعمه الكثيرة ، أسرتي يحلم بها كل رجل على وجه هذه المعمورة.
خرجا متجهين لغرفة نومهما وهو يلف خصرها بيده ليتوقف أمام الممر الذي به حجرتي فيصل وغرام فوضع يديه على كتفها وقبل جبينها وقال بنبرة آمره أمامك عشر دقائق لترتدي ملابسك سوف نخرج
حاولت أن تعترض ولكنه كان يقبلها على شفتيها ليمنعها من نطق أي كلمة رفض
ثم لفها لتواجه باب غرفتهما ودفعها بحنان وقال لها عشر دقائق أيتها الطبيبة الفاتنة
دخلت وفاء بعد أن فشلت كالعادة في رفض رغبته ،وتوجه هو ليدخل غرفة فيصل ليطمئن عليه ويرتب بعض الألعاب المترامية في كل أنحاء الغرفة ، وخرج ليفتح غرفة غرام ويشد الغطاء على جسدها النحيل ، ويقبلها على جبينها بعد أن أمعن النظر لملامحها التي تشبه لحد كبير ملامح والدتها.
كان يشعر برضا تام واعتداد بالنفس على قيامه بدوره كأب على أتم وجه.
خرج ليقف عند باب الحجرة ويطرقها بهدوء وينادي بصوت حنون : ملاكي جاهزة أم أني سأنتظر حتى تدمى قدمي؟!
فتحت وفاء الباب لتغمره بنظرة حب وضجر تدل على عدم رغبتها بالخروج
فقال لها قبل أن تتكلم لا تحاولي تثنيني عن الخروج هذه الليلة خصوصاً بعد أن أغريتني بجمالك الخلاب
أمري إلي الله ، قالتها بتنهد ثم أكملت لا تلمني إن لم يكن مزاجي اليوم كما تشتهي.
وفاء ماذا بكِ ؟! قالها ولم يتمكن هذه المرة من أخفاء حالة القلق التي تلبسته عليها.
رمت بنفسها في حضنه وقالت متعبه جداً ، متعبه وناقمة على هذا المجتمع ....
كانت شوارع جدة مزدحمة كالعادة ، و لم يتمالك نفسه من التضجر من هذه الزحمة الخانقة ، و توجيه اللوم بشكل مباشر لإمارة المنطقة الغربية و محافظة جدة على التهاون مع شركة المقاولات التي تتقاعس من وجهة نظره في الانتهاء من بناء الجسور و توسعة الشوارع حسب الخطة التي رفعتها المحافظة لتخفيف الاختناق المروري الدائم في الشوارع الرئيسية بجدة .
حاولت وفاء أن تستجمع كل تركيزها و تبقى هنا بجانبه قلباً و قالباً ، إلا أن منى كانت تقفز لتسرقها من زوجها و لو للحظات .
لامت نفسها عندما وضع محمد يده على يدها و ضغط عليها بحنان و قال : ملاكي شارد الذهن .. حزين النظرات .. شديد الفتنة .
كان اللوم واضح في صوته حتى و إن غلّفه بالحنان ، فهي خارج نطاق الشعور بمن حولها ، هاربة بتفكيرها لمكان ليس به جمال اللحظة التي يعيشها معها بكل حب .
اغتصبت الابتسامة المسروقة من حزنها ، و عاتبت نفسها لأنها لا تجيد التحدث في مثل هذه الأوقات ، برغم أنها متحدثة لبقة إلا أن الكلمات تصبح عصية عليها في لحظات الألم .
أسعفها من البحث عن أي شيء تقوله وصولهما للمطعم المفضل لها ، كان "الملتقى" هو مطعمها المفضل ، تحب الأناقة التي يغرق بها كل شبر في هذا المطعم ، و تتلذذ بالمأكولات البحرية التي يقدمها بمذاق شهي .
دخلا المطعم و اختارت نفس الطاولة التي يجلسان بها كل مرة ، تلك التي في ركن المطعم و تجعلها تشاهد الملتقى بكل تفاصيله الأنيقة .
برغم امتلاء جميع الطاولات إلا أن الهدوء و صوت الموسيقى الناعمة يجعلا الجو العام ينبئ بنوعية رواد هذا المطعم ، كما أن ارتفاع أسعاره توضح أن الطبقة المتوسطة إلى الغنية هم من يتمكنون من التواجد فيه .
و كان محمد كأحد أفضل محامي مدينة جدة ، يعتبر في منطقة متوسطة بين الطبقة الغنية و بين الطبقة المتوسطة .
استطاع أن يكون ثروة لا بأس بها بالإضافة لنجاح لم يتمكن من مجاراته فيه زملاؤه المحامين من نفس دفعة تخرجه .
كان الطعام لا يقل جودة و لذة عن كل مرة يحضران فيها للملتقى ، و كان البوفيه ممتلئ بأشهر المأكولات البحرية و أطيبها ، إلا أنا وفاء كانت تشعر بأن أصعب ما تقوم به في هذه اللحظة هي ابتلاع الطعام المفضل لديها .
كانت هناك غصة تجعل حلقها يتصلب أمام انسياب الماء من خلاله ، فما بالها بالطعام !!
كانت تنظر للمتواجدين و تبحث عن مهرب لها بينهم ، حاولت أن تجد شيء مميز فيهم فيلفت نظرها و تفكيرها عن منى ، هالها أنها رأت فتاة في طاولة تتوسط المطعم تحمل ملامح منى فحسبتها هي ، كادت أن تذهب للتأكد إن كانت هي منى أم لا ، و لكن سرعان ما استوعبت أن ما تقوم به جنون ، و أن منى تم ترحيلها إلى السجن و لن تتمكن من العيش في رخاء مثل رواد هذا المطعم .
قطبت حاجبيها في تفكير عميق حول الحالة الاجتماعية للفرد و مدى تأثير ذلك على القيم و المبادئ التي يحملها . البيئة التي تفتقر لمقومات الحياة الأساسية من مأكل و مشرب و مسكن لا يمكن أن تمنح الفرد تعويضاً يليق باحتياجاته الأساسية بوعي يجعله قادر على الاعتماد على المبادئ و القيم لإكمال حياته بشكل سوي .
فقيرة في بيت أهلها ، مفتقرة للحنان في بيت زوجها ،هكذا رددت بينها و بين نفسها عندما لاحظت أن محمد توقف عن الأكل لينظر إليها بعمق محاولا أن يكتشف سر هذا الألم الذي أصابها .
نظرت إليه و مطت شفتيها محاولة أن تسرق الجمل من فمها لتخرجها كلمات مفهومة يستطيع أن يستوعبها .
قالت بصوت مخنوق : هل تصدق أن في السعودية عاهرات ؟!
أجابها دون أن يغير نظرته : نعم يا حبيبتي و ما الغريب في ذلك ؟!
أقصد عاهرات سعوديات، قالتها و هي تحاول أن تبتلع المرارة التي تصاحب هذه الكلمات ..
قال بحزم : وفاء أنت طبيبة نفسية ، و لا أظنك تستنكرين وجود عاهرات سعوديات في مجتمعنا ، إلا لو كنتِ تتوقعين أن المجتمع ملائكي كما يفعل الجهلاء .
سكتت و كأنها تستعين بشيء آخر يدفعها على طرح سؤالها بطريقة أكثر واقعية .
أَحسَّ بما تشعر به فأكمل حديثه ليمنحها مزيد من الوقت لترتيب فكرتها ..
يا ملاكي ؛ المجتمع الطبيعي هو من يحوي الطيب و الفاسد ، الصالح والطالح ، الطاهر والداعر ، و إلا لكان هناك خلل يتوجب علينا الالتفات له .
نظرت إليه بحزن و قالت : منى خرجت اليوم من المستشفى و أعادوها للسجن .
ثم أخذت نفساً عميق لتكمل بمرارة أقسى من سابقتها و هي تغرس نظرتها في الشمعة المشتعلة أمامها منى مظلومة حتى و إن مارست الدعارة تبقى مظلومة و لا يجب معاقبتها .
ربما كلمة إعادة تأهيلها هي ما يجب القيام به ، أما سجنها و جلدها فهذا ظلم لا يرضاه الله و لا الإنسانية .
توقف الحديث لهذا الحد بعد أن رأى الدموع في عينيها و خاف أن تشعر بالإحراج إذا ما بكت أمام الناس .
أكمل طعامه و حاول أن يتناول مواضيع عدة ليخرجها من دوامة منى .
قال بنبرة ساخرة ملاكي مضربة أيضا عن تناول السوفلي ؟!
قالت له و هي تضحك بدلال : إلا السوفلي يا حمودي
ردد بصوت خافت يا بخت السوفلي الذي جعلك تنثرين دلالك على حمودي
أ آتي لك بالسوفلي من فرنسا يا عيون حمودي ؟! كم وفاء عندي ..
قالت بدلال : ابتسامتك الحنونة أشهى لقلبي من الدنيا و ما فيها .
قال ممازحاً : أين الهيئة عنك يا حبيبتي الفاتنة ، غزل في مكان عام ؟!
كيف لي أن أتمالك نفسي أمامك أيتها الشهية ؟!
قالت بغنج طاغي : حمودي لا أملك وصف يليق بحبك .. فأعذرني
قال بصوت حاد : لااااااااا .. الأمور سوف تتطور ، يجب أن نغادر .
و دّعا المطعم و لم تتمالك وفاء نفسها من النظر لتلك الفتاة التي تشبه منى و قالت لنفسها : يبدو أني سوف أراها في كل مكان ، لو أن هذه الفتاة عاشت نفس ظروف منى ، هل ستكون عاهرة ؟! هل بداخل كل أنثى منا عاهرة تظهر في ظروف معينة ؟!
توقف أمام السيارة و فتح لها الباب و انحنى بطريقة رومانسية لا تخلو من الفكاهة تفضلي مولاتي ..
نظرت له و قالت : مخصوم من راتبك أسبوع ثم تبسمت و قالت عندما يسمح لنا بالقيادة سأكون حريصة بمتابعة تنظيف سيارتي و غسلها يومياً .
اعتدل في وقفته و نظر للسماء يا رب متى يسمح للمرأة بقيادة السيارة و يرفع عنا ظلم نسائنا ، نعمل سائقين لهن و لا يرحمننا من النقد في أبسط الأمور .
عادا للمنزل و الأحاديث المتنوعة تصاحبهما طول الطريق . توقف أمام الباب و قال لها : قبل أن نصعد سوف نتفق على أمر معين ، و في كل الأحوال لا تملكين حق الرفض .
قالت ممازحة : حاضر يا سيد السيد ..
نفخ صدره و هو يفتح الباب و يقول لها عندك مانع يا حرمنا المصون .. !!
نظرت له و سألته لو أن زوج منى كان يعاملها مثل معاملتك لي هل سوف تكون عاهرة ؟!
لم يتمالك نفسه عندما شعر بعمق حزنها من احتضانها بقوة ليقول بصوت شفاف كروحها هذه أقدار و منى لها دور باختيار قدرها يا حبيبتي .
هوني عليك ربما يكون غداً أكثر إشراقا في حياة منى من يومها .
نظرت إليه و قالت بعينين دامعة :
لم تختر قدرها ، بل فرضوه عليها بجهلهم فضاقت الخيارات أمامها و لم يكن هناك طريق مفتوح لتسلكه سوى أن تصبح عاهرة .
هم السبب بهذا الانحراف الذي أصبحت عليه طفلة الأمس
يتبع
التعليقات (0)