كنت أتجوّل في بغداد التي بدت أنيقة ترتدي أجمل حلّة، خالية من المباني الآيلة للسقوط، تعج بناطحات السحاب، والزحامات قد هجرت الشوارع بعد أن شدت نقاط التفتيش رحالها صوب الانتفاء وعدم الحاجة لها، وأخذ المترو يجري في العاصمة.. عفواً إنهما اثنان كدجلة والفرات اللذين ارتفع منسوبهما كالسابق نتيجة الجهود الدبلوماسية المضنية التي بذلها السلك العراقي للوصول الى اتفاقات دولية مع الجيران لاسيما أنقرة، فضلا عن انشاء السدود واصلاح سد الموصل الذي كان ينذر بكارثة اذ ما انهد.
مازلت أتجوّل حتى شاءت الصدف ان التقيت أحد الأصدقاء الذي قضى سنوات طوال في بلد الغربة... سألته:
ــ متى عدت ؟
ــ قبل أيام .. بعد أن تحسّنت الأوضاع الأمنية وأصبح الأمن مستتباً 100%.. لقد تركت بغداد ورجالات العسكر منتشرة في شوارع بغداد واشلاء الأحبة والأصدقاء مبعثرة على الطرقات بفعل الإرهاب التفخيخي الأعمى، وشتان ما بين الأمس واليوم لقد كانت الحكومة تعالج الخروقات الأمنية بكثافة الانتشار لرجال الأمن والجيش والشرطة والسيطرات، أما اليوم فهي تعتمد بالدرجة الأساس على المعلومات الاستخبارية، ما يؤهلها لإجراء عمليات استباقية للحيلولة دون حدوث الأعمال الإجرامية و وئدها في مهدها.. لقد تحسّنت صورة العراق في العالم الخارجي حتى بدأت الشعوب من مختلف الدول تتلهّف لزيارته.. كيف لا.. والأماكن السياحية والترفيهية لا تكاد تحصى ولا تعد.. ويكفي ان كهرمانة لم تزل تدلو بدلوها.
قلت: الحمد لله لقد بدأ أبناء موطني يفقهون معنى الديمقراطية الحقة، ويعرفون واجباتهم وحقوقهم وهذا ليس بعيب أو مثلبة فقد عاشوا عقوداً من الظلم والجور والتهميش والانقطاع عن العالم وهم اليوم يتنفّسون الصعداء.. لقد ذاب جليد الطائفية وهوى صرح القومية وهدت قلاع المذهبية، وها هم ساستنا متحابون أخوة.. يتسابقون فيما بينهم من أجل خدمة البلد وأبنائه.. لا يفكرون بأنفسهم ومصالحهم... فجل اهتمامهم إدخال الفرح والسرور على قلوب أبناء الشعب، وتوفير الخدمات البسيطة وغير البسيطة لهم، لقد انتهى زمن (كلمن له) وحل محله (من أين لك هذا؟)، حتى كردستان التي كانت تفكر بالانفصال وتأسيس دولة كردية مستقلة شبيهة بدولة مهابادا، أدركت أنها من دون العراق الموحد لا تساوي شيئاً، وسوف تتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب... وأيقنت أن نفطها هو ملك لجميع الشعب وليس لوحدها، فمازالت خيرات البصرة في فمها.
بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث راح يسألني عن الأحزاب، وفجأة انقطع الوصل بيننا، لقد رن هاتفي المرمي قرب وسادتي ليسدل الستار بكل وقاحة ودون استئذان على واحد من أجمل الفصول في مسرح الحياة التي يطمح إليها الفقراء. تساءلت والنعاس قد كساني.. هل هذه حقيقة؟ كلا انه حلم .. لا بل هذيان لكثرة تناولي لهذه الموضوعات في عملي اليومي.
إنه صديق, لا يتصل بي إلا ما ندر، أو بالأحرى عندما تكون له حاجة عندي.. فقلت له: ما الأمر قال: أدعوك لزيارتي في مكتبي الجديد فقد أصبح لي منصب مرموق في واحد من الأحزاب الجديدة، وخطر ببالي أن أضمك معنا لأننا سنؤسس, سننطلق, وسوف, وسوف, فضحكت وقلت له: تعساً لك ولحزبك لقد أفسدت حلمي الذي طالما تمنيت أن يزورني في منامي, وان يصبح ذات يوم حقيقة أراها على أرض الواقع المرير..
إن أحزابنا تجاوزت المعقول ولا أحد يفكر سوى بنفسه, إلا القليل منهم ممن يفكر بالآخرين، وإن فكّر فسيكون ذلك عند اشتداد وطيس الحرب الانتخابية، والافضل لك أن تتجول في بغداد لترى تزاحم البوسترات واللافتات الحزبية في سبيل الحصول على مواقع مميزة في الشوارع والبنايات، إنه التسخين قبل خوض المباراة المرتقبة..
مقالات للكاتب محمد جمعة
التعليقات (0)