الحرب على غزّة > شباط/فبراير > 2009
ملفّ الحرب على غزّة
أليستر كروك
عندما كانت إسرائيل وإيران تتحالفا سرّاً
الحرب في غزة تزعزع الشرق الأوسط
"إنّها حربٌ ضد إيران": هكذا وصف بعض المسؤولين الإسرائيليين العدوان على غزة والمعارك التي استمرّت 22 يوماً. وقد شكّلت فكرة وجود محوٍر يضمّ سوريا، وإيران، وحزب الله، وحماس - قائمٌ على سياسة إسلامية راديكالية - عقيدةً لإستراتيجية إدارة بوش في المنطقة. لكن يبدو أنّ الرئيس باراك أوباما يدافع عن رؤيةٍ أخرى. فقد أعلن في خطاب تنصيبه أنّ الولايات المتحدة "ستبدأ في ترك العراق لشعبه بطريقةٍ مسؤولة، وفي تحقيقٍ سلامٍ رُبحت بصعوبة في أفغانستان". وهو يريد من ناحية أخرى أن يبحث عن "مقاربة جديدة تؤسّس على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل" مع العالم الإسلامي. فهل ستترجَم هذه الكلمات على أرض الواقع، وبدايةً في فلسطين حيث الاحتلال مستمرٌّ منذ أكثر من أربعين عاماً؟ ومع طهران، يبدو أن أوباما يبحث أيضاً عن رؤيةٍ جديدة، تدير ظهرها لتلك التي اتّبعها سلفه. إذ في مطلق الأحوال، كانت إيران بين 1950 و1979 حليفاً مهمّاً للولايات المتحدة وإسرائيل؛ وللغرابة فإنّ هذا التحالف قد استمرّ خلال بضعة سنوات بعد الثورة الإسلامية.
"كانت علاقاتنا مع ايران وثيقةً للغاية ومتجذّرة في النسيج الاجتماعي للشعبين"، هذا ما لاحظه أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين للشؤون الخارجية بعد عودة آية الله الخميني إلى بلاده عام 1979. في ذلك الوقت، كانت طهران تظهر كمحاورٍ طبيعيّ، سواء في تل أبيب أو واشنطن. وبعد ثلاثين عاماً، يعتبر أصحاب قرار السياسات الغربية، وعلى رأسهم الإسرائيليين، أن إيران تمثّل تهديداً متزايداً. فماذا لو كان موقفهم يقوم على قراءةٍ غير صحيحة للثورة الإسلامية؟
بالنسبة لديفيد بن غوريون، مؤسّس الدولة العبرية، فإن إسرائيل هي جزءٌ من أوروبا وليس من الشرق الأوسط؛ حيث أن وجودها هنا ليس سوى "حادثٍ جغرافي". فقد قال مؤكّداً "ليس لدينا أيّ علاقة مع العرب. فنظامنا السياسي، وثقافتنا وعلاقاتنا ليسوا من ثمار هذه المنطقة. لا يوجد بيننا تقاربٌ سياسي، ولا تضامنٌ دولي [1]".
من جهةٍ أخرى، أراد بن غوريون إقناع واشنطن أن بلاده ورقة استراتيجيّة لها في الشرق الأوسط. لكنّ الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور (1953-1961) قد فضّل أن يتجاهل هذه الادعاءات، مقتنعاً بأن الولايات المتحدة هي أكثر قدرةً على الدفاع عن مصالحها دون مساعدة اسرائيل.
وردّاً على هذا الرفض، بلور الرئيس الإسرائيلي مفهوم "تحالفات الأطراف"، التي تهدف إلى تكوين توازنٍ مقابل ثقل الدول العربية، متقرّباً من إيران وتركيا وإثيوبيا. وكان يرغب بذلك تعزيز قدرة الردع لبلاده، والحدّ من عزلتها، وجعلها أكثر جاذبيةً لكونها "رصيداً" للولايات المتحدة.
وبموازاة هذه العقيدة، طوّر بن غوريون فكرةً أخرى: وهي "تحالف الأقليّات". وقد طال تفكيره ليس فقط الأتراك والفرس، ولكن أيضاً اليهود والأكراد والدروز والمسيحيين الموارنة في لبنان، إلخ. وادّعى أن الغالبية العظمى من السكّان في منطقة الشرق الأوسط هم ليسوا عرباً. ولذلك كان من الضروريّ تشجيع الرغبات في الاستقلالات القوميّة، وخلق جزرٍ من الحلفاء في مواجهة بحر القومية العربية.
في هذا الإطار قام التحالف "الطبيعي" مع إيران. هكذا يبحث الجامعي تريتا بارسي في كتابه "التحالف الخائن [2]"، الجوانب الحسيّة لتعاون إسرائيل مع الشاه؛ وخاصّةً المساعدات العسكرية للمتمرّدين الأكراد في العراق بين عامي 1970 و 1975 من أجل إضعاف هذا البلد. كان لإسرائيل وإيران شعورٌ مشترك "بالفوقيّة الثقافية" تجاه البلاد العربية، حتّى وإن كان هذا التواطؤ محدوداً: فالشاه، كان حاكم دولة مسلمة، وقد أصرّ على إبقاء هذه العلاقات في جوٍّ من التكتّم، مثيراً بذلك غيظ تل أبيب.
ومهما بدا ذلك مدهشاً، بقي هذا التقارب بعد الثورة الإيرانية، مما دفع حتّى اليمين الاسرائيلي - بما في ذلك رئيس الوزراء مناحيم بيغن - إلى مدّ اليد للقيادة الجديدة في طهران. وقد برّرت واقعية آية الله الخميني في السياسة الخارجية هذا الموقف: فبعد العدوان العربيّ عليهم - إذ بدأت الحرب على العراق في أيلول/سبتمبر 1980 - فهم الإيرانيون جيّداً ضرورة إقامة علاقات ودية مع إسرائيل والمزايا التكنولوجية التي يمكن أن يتوقعوها منها، لا سيّما في مجال التسلّح.
فبالنسبة للرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي يوسي ألفير، إن منطق الأطراف كان "راسخاً" بعمق في العقليّة الإسرائيلية حتّى أنه أضحى "غريزياً" [3]. وقد استقوت اسرائيل بهذا اليقين كي تقنع الولايات المتحدة بتوريد أسلحة إلى طهران في منتصف عام 1980 ، ما مثّل تمهيداً لفضيحة "إيران غيت" [4].
ثمّ كرّس فوز مناحيم بيغن واليمين في الانتخابات عام 1977، نظرةً أكثر تطرفاً بكثير من حزب العمل، تعود الى الزعيم الصهيوني "التحريفي" فلاديمير زيف جابوتينسكي. فقد أكّد هذا الأخير في مقالٍ شهيرٍ له نشر عام 1923 حول "الجدار الحديدي" [5]، أن التوصّل إلى اتفاقٍ مع العرب أمرٌ مستحيل: "فقط عندما لن يكون هناك أيّ أملٍ في التخلّص منّا (...)، وفقط عند تلك اللحظة (...)، سيتخلّى العرب عن قادتهم المتطرّفين. (وسيظهر القادة المعتدلون الذين) سيقبلون بتنازلات متبادلة". ومثل جابوتنسكي، فإنّ بيغن كان يعتقد أن إسرائيل ليس لديها خياراً آخر لكي تفرض نفسها، سوى هيمنتها العسكرية، مع الدعم الأمريكي طبعاً.
في الوقت نفسه، حاول اليمين تنفيذ استراتيجية "تحالف الأقليّات" في المنطقة. ففي عام 1982، انطلق أرييل شارون في اجتياح لبنان، من أجل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية منه وتنصيب سلطةٍ مارونيّة في بيروت، ما يلحق هزيمةً ساحقة بسوريا. كانت الاستراتيجية خطرة والحسابات خاطئة، لأنّها أسرعت في انحطاط الموارنة وأعطت دفعةً قويّة للتعبئة الشيعية في الجنوب وسهل البقاع، حيث ظهر حزب الله. هكذا سيتحوّل إيقاظ الأقليات ضد إسرائيل...
أيّ مفهومٍ للحداثة؟
وفي موازاة الخسارة في المغامرة البنانية، أخذت علاقة اسرائيل مع الأطراف - على الأقلّ مع إيران- بالتداعي. وقد نجم هذا التحوّل عن قراءةٍ خاطئة تشاطرتها إسرائيل مع الولايات المتحدة: فقد نظر الغرب إلى الثورة الاسلامية على أنّها قطيعة في الرواية الغربية حول التطوّر التاريخي من التخلّف باتجاه حداثة علمانية؛ فاعتُبرَت انحرافاً سيُصححه الزمن. وقد قام التفكير على أنّ الأساس الإيديولوجي للثورة الإسلامية "أجوف"، وأن "البراغماتين" سوف يضعونها على الطريق الصحيح للتقدّم الماديّ - وهو الخيار الوحيد المتاح في نظر الغرب. وبحثت تل أبيب وواشنطن بشكلٍ محمومٍ عن "معتدلين" وعن مؤشّرات براغماتية في طهران... وقد عزّزت الإشارات التي بعثها الإيرانيون فيما يتعلّق بالسياسة الخارجية، النظرة التي تعتبر أن هذه "البراغماتيّة" ستترجم بعد حين تحالفاً مع اسرائيل.
في الواقع ، كان اشتراط "الحداثة" المادية على الطريقة الغربية هو أكثر ما يرفضه القادة الإيرانيون، الحريصون على انتصار مفهومٍ آخر للحداثة يحدّد من خلالها المسلمون بأنفسهم مستقبلهم السياسيّ والاجتماعي. لكنّه إذا كان من هم في السلطة في طهران يعارضون كليّاً منظور المجتمع الغربي وجهوده لنشر ثقافة علمانية، مادية واقتصادية ليبرالية في المنطقة - إذ يرى الكثير من الإيرانيين هذا المنظور بالياً وذي نفحة استعمارية -، فإنّ هذا لا يعني أنّهم يريدون سحق إسرائيل. حيث لم يكن للثورة طموحات إقليمية عدوانية؛ وهي لم تهدّد إسرائيل أو الولايات المتحدة على المستوى العسكري العادي.
في عام 1988، بعد حربٍ فوضوية وعدميّة دامت ثماني سنوات، وقّعت إيران على اتفاقٍ لوقف لاطلاق النار مع العراق. ثمّ جاء حدثان في الفترة من 1990-1992، تركا تأثيرهما على المنطقة بأسرها: انهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة صدّام حسين خلال حرب الخليج الاولى (1990-1991). هكذا اختفى في الوقت نفسه التهديد الروسي لإيران والتهديد العراقي لإسرائيل. فجأةً باتت إيران وإسرائيل بلدين متنافسين في المنطقة، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تفرِض نفسها على أنها القوّة العظمى اللأوحد دون منازع.
كانت تل أبيب تخشى قبل أيّ شيء أن تنظر إليها الولايات المتحدة كعائقٍ لها خلال حرب الخليج (1990-1991)، وقد ضغطت واشنطن على السيّد إسحاق شامير حتى لا تردّ عل اطلاق الصواريخ العراقية. وعلى الجانب الآخر، فإن احتمال هيمنةٍ إيرانيةٍ إقليمية لا يمكِن إلاّ أن يشكّل خطراً على التفوّق العسكري لإسرائيل، إذ أنّه يخلق إمكانية تقاربٍ خطيرةٍ بين طهران وواشنطن.
وفي عام 1992، اتخذت الحكومة العمالية برئاسة إسحق رابين والتي تمّ تشكيلها بعد انتخابات جديدة، قراراً بالتخلّي عن استراتيجية "تحالفات الأطراف" وإحلال السلام مع العرب؛ وقد شكّل ذلك انقلاباً جذريّاً.
ففي تصريحٍ لصحيفة "نيويورك تايمز"، قال يوسي ألفير، مستشار رابين في تلك الحقبة: "يجب تحديد أنّ إيران هي العدو رقم واحد". ومن حينها، لم تتوقّف إسرائيل وحلفاؤها في الولايات المتحدة عن اتّهام طهران بالسعي إلى تطويرأاسلحةٍ نووية. وقد حذّر السيد شمعون بيريز "المجتمع الدولي" من أنّ إيران قد تمتلك القنبلة الذرية في عام 1999.
بيد أن الكثير من أعضاء إدارة الرئيس بيل كلينتون وعدداً من شخصيّات النخبة الإسرائيلية الحاكمة قد شكّكوا في ذلك. فقد صرّح الضابط السابق في الاستخبارات الاسرائيلية، السيد شلومو بروم ساخراً إلى "بارسي": "تذكّروا أنّ الايرانيين هم دائماً على مسافة خمس أو سبع سنوات من القنبلة. يمرّ الزمن، لكنّهم يبقون على مسافة خمس أو سبع سنوات من القنبلة" [6]. وفي عام 2008، ما يزال الإيرانييون، وفقـا لأجهزة الاستخبارات الأميركيـة، "على مسافة خمس أو سبع سنوات من القنبلة...".
قرّرت إسرائيل إذاً التفاوض مع ياسر عرفات، الذي أضعفته حرب الخليج 1990-1991 كثيراً. وعمد رابين وبيريز إلى تشويه صورة إيران لتحويل طاقة اللوبي اليهودي الأميركي: إذ ركّز هذا الأخير جهوده على التحذير من الخطر المميت الذي تمثّله إيران، بدلاً من مهاجمة على القادة الاسرائيليين الذين "تناولوا العشاء مع العدو" وخانوا جابوتنسكي.
طوّرت الولايات المتحدة استراتيجيةً موازية: تهدف إلى إعادة اصطفاف بعض الدول العربية مع الغرب، معبّأة ضدّ الأعداء المتواجدين في "الأطراف" - هؤلاء البرابرة الذين يهاجمون قيم ومؤسسات وحريات الحضارة الغربية، وفي مقدمتهم ايران. وقد تسارعت هذه الاستراتيجية مع فوز جورج والكر بوش في تشرين الثاني/نوفمبر 2000.
"اتفاق شامل" بين طهران وواشنطن
وستكون القوّة الأمريكية هي الأداة التي من شأنها أن "تدقّ ناقوس الزوال للثورة الإسلامية في ايران"، وفقاً للصيغة التي استخدمها وليام كريستول المعلّق المحافظ البارز، في أيار/مايو 2003. فمن شأن هزيمة ايران أن تصيب هدفين بحجرٍ واحد: إضعاف معنويات العرب والمسلمين ومعهما في نفس الوقت المقاومة الإسلامية. فينصاع العرب، وينقلِب الشرق الأوسط بأكمله، مثل أحجار الدومينو.
بالتالي ليس من المستغرب أنّه بالرغم من تعاون طهران مع واشنطن خلال الحرب في أفغانستان (2002) والعراق (2003)، فإنّ المحاولات الإيرانية للتوصل إلى "اتفاقٍ شامل" مع الولايات المتحدة قد رُفِضَت، أو تمّ الانقلاب عليها من قبل أعضاءٍ بارزين في إدارة الرئيس جورج بوش. فالاقتراح الإيراني في عام 2003 لفتح مفاوضاتٍ بين البلدين حول كافة القضايا - البرنامج النووي، ودعم حماس وحزب الله، والاعتراف بإسرائيل، والتدخّل الأميركي، وهكذا دواليك - كان بمثابة إعادة صياغةٍ لاقتراحٍ سابقٍ كان يهدف إلى إنشاء شراكة وفتح حوارٍ حول جميع المسائل التي هي موضع خلاف.
لكنّ تفسير مرحلة عام 2003 كعلامةٍ على أن "الضغوط لها أثرها" على إيران، وأن احتلال أفغانستان والعراق قد دفع طهران لتخفيف علاقاتها مع المقاومة وقبول إسرائيل، يقوم على تفسيرٍ مغلوط لواشنطن التي أوصدت نفسها داخل رؤية مانويّة: "المعتدلين" في المنطقة ضد "التطرّف" الإسلامي. فقد أدّت هذه الرؤيا إلى استقطاب كتلتين. ففي محاولتها لكسر المقاومة في العالم الإسلامي أمام رؤيتها الليبرالية للمستقبل، أثارت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون رفضاً شعبيّاً لمشاريعها وتجذيراً للعداء ضد الغرب. هكذا يمكن أن تصبح الكراهية المختلقة حقيقةً واقعة.
المستشار الخاص السابق للسيد خافيير سولانا (1999-2003)، وعضوٌ سابق في لجنة ميتشيل التي شكّلها الرئيس الاميركي الأسبق بيل كلينتون للتحقيق في أسباب اندلاع الانتفاضة الثانية (2000-2001).
[1] Avi Shlaim en Israël, « The Great Powers and the Middle East Crisis of 1958 », Journal of Imperial and Commonwealth History, Londres, mai 1999.
[2] Trita Parsi, Treacherous Alliance. The secret dealings of Israel, Iran, and the U.S., Yale University Press, New Haven, 2007.
[3] Trita Parsi, op. cit., page 91.
[4] ستزعزع هذه الفضيحة إدارة ريغان في منتصف الثمانينات؛ فقد كشفت عمليّات بيع الأسلحة الأميركية لإيران وتمويل "الكونتراس" في نيكاراغوا، رغم تحظير الكونغرس الأميركي لهاتين العمليتين.
[5] Sionismes. Textes fondamentaux, réunis et présentés par Denis Charbit, Albin Michel, Paris, 1998.
التعليقات (0)