لا يمكننا بكلمات قليلة اختصار حياة رجل مناضل مثل نيلسون مانديلا الذي خاض صراعا طويلا ضد الاستبداد والتمييز، ودفع ثمنا باهظا تمثل في سجنه ثلاثة عقود تقريبا هي أغلى سني حياته، ولكننا سنقف عند أبرز المحطات.
ولد نيلسون مانديلا في 18/7/1918 في مفيزو بمقاطعة ترانسكاي بحنوب أفريقيا. توفي والده عندما كان في التاسعة من عمره. بدأ دراسته الجامعية في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي في جامعة "فورت هير" التي فصل منها بعد سنة بسبب نشاطه السياسي. حصل على البكالوريوس في الآداب بالمراسلة من جامعة جنوب أفريقيا، ثم التحق بجامعة "ويتوارساند" لدراسة القانون، إلا أنه لم يحصل على شهادة القانون إلا في السجن عندما التحق ببرنامج الانتساب في جامعة لندن.
انخرط مانديلا في النضال السياسي وهو في سن الخامسة والعشرين، حيث انضم لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وأسس مع آخرين في العام 1944 رابطة شبيبة المؤتمر، وانتخب أمينا عاما للرابطة عام 1948.
بدأ حياته متأثرا بفلسفة المهاتما غاندي في المقاومة السلمية ونبذ العنف. وعندما أطلق حزب المؤتمر في العام 1952 حملة " التحدي" الجماهيرية للعصيان المدني ضد قوانين التمييز الجائرة، تم انتخابه لمنصب كبير المتطوعين الوطنيين للحملة.
في 6 أبريل من العام 1956 أقدم نظام الفصل العنصري على اعتقال 8500 شخص من حزب المؤتمر في أعقاب مظاهرة ضخمة في شوارع جوهانسبرج، وحكم على مانديلا بالسجن تسعة أشهر مع وقف التنفيذ. ثم في 5 ديسمبر من العام نفسه اعتقل مانديلا ضمن 156 شخصا من الحزب بتهمة الخيانة، وتم الإفراج عنهم بعد محاكمة استمرت 4 سنوات.
التحول الدراماتيكي حدث في 21 مارس 1960 حين أطلقت الشرطة النار على مظاهرة شارك فيها 5000 من السود في حي شاربفيل الفقير، فأدى ذلك إلى مجزرة من 69 قتيلا. دفع هذا نيلسون مانديلا إلى التخلي عن نبذ العنف وانتهاج الكفاح المسلح عبر إنشاء الجناح العسكري لحزب المؤتمر، والذي سمي " أومكونتو وي سيزوي" أي "رمح الأمة"، وأصبح قائدا عاما له.
بعد 17 شهرا من العمل السري اعتقل مانديلا بتهمة السفر غير القانوني والتحريض على الإضراب، وحكم عليه بالسجن 5 سنوات. كان ذلك في أغسطس 1962. وبينما هو يقضي فترة سجنه، تم اعتقال قادة آخرين من حزب المؤتمر واتهم مانديلا معهم، فحكم عليه بالسجن المؤبد حيث تم إرساله إلى جزيرة روبن، أو ما عرفت بعد ذلك بجامعة مانديلا، نظرا لدوره الكبير في توعية السجناء خلال ثمانية عشر عاما قضاها في هذا السجن الذي كان نزلاؤه يصنفون إلى أربع فئات تكريسا للتمييز العنصري، وكان مانديلا في أدنى الفئات بالطبع حيث أسوأ الخدمات والتسهيلات. كان يسمح له في كل ستة أشهر بزائر واحد ورسالة واحدة تمر عبر الرقابة الصارمة. بعد ذلك نقل إلى سجن بولسمور ثم إلى سجن فيكتور فيرستر.
ونظرا للاحتجاجات الواسعة في الثمانينات فقد اضطر نظام الفصل العنصري للجلوس إلى مائدة المفاوضات مع حزب المؤتمر عام 1985، وفي فبراير من هذا العام وبعد أن أمضى 23 سنة في السجن، عُرض على مانديلا الإفراج عنه مقابل تخليه عن العنف كسلاح سياسي، إلا أنه رفض ذلك، وفضل البقاء في السجن.
نتيجة للصمود الأسطوري لمانديلا في السجن، وتصاعد الاحتجاجات خارج السجن بالإضافة للعمليات العسكرية، كل ذلك أجبر المجتمع الدولي على ضرورة التحرك لإنقاذ الموقف، فتكثفت الضغوط لإطلاق سراح مانديلا. في العام 1989 أصيب رئيس النظام العنصري (بي دبليو بوتا) بنوبة قلبية أدت إلى إحلاله بسلفه فريدريك ويليام دي كليرك.
في 11 فبراير عام 1990 أطلق سراح مانديلا بعد 27 سنة قضاها في السجن، وفي 6 أغسطس من العام نفسه أعلن حزب المؤتمر تخليه عن الكفاح المسلح بناء على اتفاق مع الحزب الوطني الحاكم. وبدأت حقبة جديدة على طريق إنهاء الفصل العنصري وتحقيق المصالحة الوطنية، والتي توجت بانتخاب مانديلا رئيسا لجمهورية جنوب أفريقيا ليبادر فورا بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة لتضميد جراح الماضي والانطلاق نحو مستقبل جديد.
إنه مشوار بدأ بالتصميم والرؤية الواضحة، وانتهى بالخلاص من التمييز وتحقيق العدالة.
في بيان صحفي بعنوان " النضال هو حياتي" نشره يوم 26/6/1961، يقول:
لا يجوز أن يُتوقع ممن لا صوت لهم أن يواصلوا دفع الضرائب إلى حكومة ليست مسؤولة أمامهم. ولا يجوز أن يتوقع من الناس الذين يعيشون في فقر وجوع أن يدفعوا إيجارات باهظة للحكومة والسلطات المحلية. فنحن نوفر سواعد الزراعة والصناعة. ونكد في مناجم الذهب والماس والفحم، والمزارع والمصانع، مقابل أجور زهيدة. فلماذا سنواصل إغناء من ينهب ثمار عرقنا ودمائنا؟ أولئك الذين يستغلوننا ويحرمونا من حق التنظيم في نقابات عمالية؟...
لقد بلغني أنه قد تم إصدار أمر باعتقالي، وأن الشرطة تبحث عني.... إن أي سياسي جدي يدرك أنه في ظل الظروف الحالية في هذا البلد، لن يكون السعي إلى الاستشهاد الرخيص بتسليم نفسي للشرطة إلا عملاً ساذجاً وإجرامياً. إن لدينا برنامجاً مُهما ينتظرنا، ومن المهم إنجازه جدياً ودون أي تأخير.
وقد اخترت هذا المسار الأخير، وهو مسار أصعب محفوف بمخاطر ومشاق يهون السجن أمامها. إذ يتعين علي أن أفارق زوجتي العزيزة وأطفالي الأعزاء، وأمي وأخواتي، لأعيش مارقاً في بلدي. وبات لزاماً علي أن أوقف عملي، وأتخلى عن مهنتي، وأعيش في فقر وبؤس، على غرار الكثير من بني جلدتي .... إني سأكافح ضد الحكومة بجانبكم، شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى النصر. فما تراكم فاعلون؟ هل ستنضمون إلينا، أم أنكم ستتعاونون مع الحكومة في سعيها إلى قمع مطالب وتطلعات أهاليكم؟ أم أنكم ستلتزمون الصمت والحياد في مسألة هي بالنسبة لأهلي وأهلكم مسألة حياة أو موت؟ أما أنا فقد قر عزمي.
ولن أغادر جنوب أفريقيا، ولن أستسلم. فما نيل الحرية إلا بتحمل المشاق والتضحية والعمل النضالي. والنضال هو حياتي. وسأواصل الكفاح من أجل الحرية حتى الرمق الأخير.
2932012
التعليقات (0)