ولأن وسائل إعلامنا مخصصة لأخبار الرئيس، والانجازات الداخلية الكبرى على صعيد الثورة والتنمية وتسليح المشاهد (والمستمع والقارئ) بالمنطلقات الفكرية لحزبنا العظيم فإنها لم تعد تجد أخبارا تبثها كـ استقبل وودع وتلقى.. وكان من الممكن لنشرة أخبار التلفزيون الرئيسية أن يكون خبرها الرئيس هو إرسال شعبة الحزب في( الميادين) في نهاية اجتماعها الدوري برقية للامين العام تعاهده فيها على المضي قدماً خلف قيادته الحكيمة.. وهكذا كان على نشرة الأخبار أن تغطي نصف ساعة من الأخبار التي كان يمكن أن نحفظها عن ظهر قلب مع بعض الانحرافات الطفيفة فقد كان الخبر الثاني (بعد برقية شعبة الميادين أو فرقة الشبيبة في سلوك التي دائما يلفظها المذيع خطأً: سَلْوَكْ ).." ردت المقاومة اللبنانية الباسلة على العدوان الإسرائيلي المستمر على الأراضي اللبنانية ففي..." والخبر الثالث عادة يكون " في تحدٍ جديد لقرارات الشرعية الدولية قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بهدم... أو بناء..." أما الخبر الرابع فيكون عادة "... وفي غينيا بيساو انتقد الكاتب الغيني البيساوي!! الكبير(...) سياسة الولايات المتحدة في انحيازها الدائم للكيان الصهيوني (وكان هذا المصطلح أساسياً ) وقد طالب الكاتب..." وبكل تأكيد يتبدل اسم الكاتب الكبير وجنسيته في نشرات أخرى، وكان لا بد للنشرة أن تنتهي دائماً بـ " نيكاراغوا ومنها الخبر الأخير : صرح زعيم الجبهة الساندينية دانييل أورتيغا..."
وكان يحدث أن يلقي الرئيس خطاباً في أحد أعياد الثورة أو الحزب أو الحركة التصحيحية فتعتاش عليه وسائل إعلامنا حوالي أسبوع من نقله الى إعادته الى ردود الفعل عليه الى تحليله الى وسائل الإعلام التي نقلته والتي كانت (دير شبيغل ) دائماً أهمها، ولم أكن أعي يومها لمَ تهتم وسائل إعلامنا حصراً بدير شبيغل؟ إلا أني فيما بعد عرفت أنها أهم المجلات الألمانية ومن أكثرها توزيعاً وصناعة للرأي العام الألماني فأن تنقل تلك المجلة "فقرات مطولة من خطابه " فهذا يوحي لمن يعرف دير شبيغل بأهمية الخطاب وكذلك ربما سوغت لنا الهواجس حينها بأننا نعيد صياغة ليس الرأي العام الألماني فقط بل كل من يقرأ بالألمانية حول " قضيته المركزية فلسطين " والهاء هنا عائدة للشعب العربي المناضل الذي نتحدث باسمه وليس الشعب الألماني
ويبدو غريباً استذكار هذا مطولاً وتفصيلياً فقد تغير العالم والإعلام بين منتصف الثمانينات (من القرن الفارط : بتعبير المغاربة ) الى منتصف العقد الأول من القرن الحالي أي أن الفارق هو بين قرن وقرن وليس كم سنة
إلا أن من يتابع وسائل إعلامنا يجد أنه ما أشبه اليوم بالبارحة، فبعد جريمة اغتيال الحريري وبعد جولات ميليس المكوكية (حفظه الله ورعاه من كل مكروه ) في لبنان وسوريا وبعد نفض الإدارة الأمريكية يدها من الحوار مع النظام السوري حول قضية الحدود مع العراق وتسلل الإرهابيين وحول أي قضية أخرى بانتظار ما سيسفر عنه تقرير ميليس, فإن نشرتنا الإخبارية (على الفضائية هذه المرة) عادت لنفس اسطوانتها المشروخة، وبغياب برقيات التأييد من الجماهير الفلاحية بقرية تل الضمان(وليس تل عفر) من النشرة الحالية (تقدم جوهري ومهم ولا يمكن تجاهله من أي منصف ) عادت فلسطين(قضيته المركزية ) الى الواجهة ".. وقد جدد (مدري من ) التهديدات الإسرائيلية ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي بحجة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي..." وهذا تطور فكري في إعلامنا عن فترة الثمانينات الذي كان يبتعد مسافة ألف ميل عن ذكر مفردة إسلامي بسبب الأحداث التي حدثت في بداية الثمانينات في سوريا وكان أطرافها السلطة و " عصابة الأخوان المسلمين العميلة " كلازمة متكررة لهذا الإعلام لفترة طويلة. وقد مد الوضع العراقي نشرتنا الموقرة بخبر دائم أيضاً "... من جهته اعترف ناطق باسم جيش الاحتلال الأمريكي في العراق باحتراق مركبة و..." إلا أن الخبر الأخير أصبح من إيران وليس نيكاراغوا إذ أصبح الخبر الأخير " وقد صرح الرئيس الإيراني.. بأن إيران لن توقف مشروع تخصيب اليورانيوم لاستخدامه في الأغراض السلمية..." ويبدو هذا فألاً حسناً لتغيير الوضع الإيراني على غرار نيكاراغوا. إذ أن نظام الجبهة الساندينية سقط ليس بسبب الضغط الأمريكي كما قد يرى كبار المحللين بل بسبب تكراره كخبر أخير في نشرتنا مَلَّلَ العالم الذين يتابعون هذه النشرة وأصابهم بالنزق الشديد فتداعوا لإسقاطه كي يتغير الخبر في نشرتنا الإخبارية
ولا يفوتنا أن نذكر إن إعلامنا ظل مخلصاً لحصافته وكي لا نترك للعالم الذي يتابع نشرتنا بشغف أي ممسك إعلامي أو قانوني وحتى لا نتهم بالترويج للإرهاب فإن المقاومة اللبنانية كانت دائماً ترد على الاعتداءات الإسرائيلية وكذلك فإنه (أي إعلامنا ) يجعل سبب أي عملية في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو الاحتلال وليس شيء آخر وامتد هذا أيضاً الى العراق...ولايذكر مشروع اليورانيوم الإيراني إلا بذكر أنه يخص الأغراض السلمية. لم أكن متابعاً للإعلام العراقي في آخر أيامه لكن هناك مؤشرات خارجية اذكرها عن النظام العراقي وأصبحت تتكرر و تثير القلق لدي على مصير النظام في سوريا لأنها تتشابه مع تلك المؤشرات.
ففي آخر أيام النظام العراقي كانت قناة الجزيرة تعمل بكامل استنفارها لـ (لماذا فقط العراق يا أخي؟؟!! ) وهي تكرر هذا الآن مع سوريا. وكذلك زار بغداد جورج غالوي لإبداء التضامن مع النظام العراقي قبل سقوطه بفترة وجيزة، وقد زار دمشق منذ فترة ليست بعيدة وألقى محاضرة هناك وحظي باستقبال حافل صحيح إن الدعوة جاءت من عضو مجلس الشعب " الإسلامي " محمد حبش إلا إن هذا لم يمنع من الاحتفاء به رسميا وجماهيراً وإعلاميا بوصفه مُبيض صورتنا أمام أمة لا اله إلا الله، واعتاشت عليه نشرتنا الفقيرة وبرامج تلفزيونا بشكل عام عدة أيام. ويمكن أن نلاحظ أيضاً استنفار مفكرين قوميين بحدةِ وشدةِ استنفارهم في الأيام الأخيرة للنظام العراقي وهما معن بشور زعيم القومية العربية في المشرق والمغرب أيضاً، و(المفكر الكبير) عزمي بشارة عضو الكنيست الإسرائيلي المدافع الدائم (من تحت قبة الكنيست )عن نظام صدام وعن النظام السوري بوصفهما الحصن الأخير لـ(هرطقات ) القومية العربية والذي تعامله الأنظمة العربية معاملة الرؤساء!!!
واستنفار هؤلاء للدفاع عن (سوريا ) ونظامها القومي غير المهادن يجعلنا ننظر الى الأمر كتعويذة عكسية لمصير النظام في سوريا كما هي تعويذة نيكاراغوا ومنها الخبر الأخير التي أدت الى إسقاط الجبهة الساندينية وزعيمها أورتيغا وقريباً النظام الإيراني...
إلا أن المؤشر الحقيقي والجاد لعزلتنا وإفلاس نظامنا الإعلامي المستند الى ما هو سياسي ليس كل ما سبق وليس عزلة وفدنا إلى الأمم المتحدة هو والوفد الرئاسي اللبناني الشقيق وليس عدم سفر رئيسنا الى الأمم المتحدة لان هناك من نصحه بهذا نتيجة اطلاعه على ما سيفرض عليه من عزلة بل هو نشر جريدة حكومية مثل تشرين على صدر صفحتها الأولى كأحد الأخبار الرئيسة رسالة من مواطن مصري زار سوريا في الصيف وهو يشيد بسوريا الصمود والتصدي وقيادتها الحكيمة.هنا نقول أن برقيات الميادين وسلوك (التي يخطأ المذيع في لفظها دائماً ) ومنبج وتل أبيض كانت أرحم.
Khalaf88@hotmail.com
خلف علي الخلف ايلاف
التعليقات (0)