مواضيع اليوم

نيرون.. من فنان إلى طاغية

محمد بلغازي

2011-03-14 22:12:24

0

 قادت الأقدار نيرون إلى الجلوس على عرش روما، مثلما تأتي الأقدار بعدد من حكامنا إلى مقاعدهم، دون أن يحلموا في طفولتهم أو شبابهم بدخول قصور الحكم، لكن الظروف تقود إلى ما لا يتوقعه الإنسان. اعتلى نيرون عرش روما عام 54 ميلادية في السادسة عشرة من عمره، وكان وصوله إلى العرش بخطة محكمة من والدته أغربينا حفيدة الإمبراطور أغسطس التي نفيت من البلاد في عهد عم نيرون الإمبراطور كاليغولا بسبب سياسته في البطش بمعارضيه، وعادت عندما تولى العرش الإمبراطور كلاوديوس، وكان نيرون في الثالثة من عمره، واتخذ الإمبراطور قراره بإعدام زوجته ميسالينا بسبب خيانتها الزوجية، وكانت أغربينا تتقرب من الإمبراطور قبل هذا الحادث، واستطاعت أن تفوز بقلبه وتتزوجه، ثم أقنعته بأن يتبنى نيرون، وامتدت حبال خططها إلى ابنة الإمبراطور أوكتافيا، ليتزوجها ابنها عام 53م، وتمكنت أغربينا من إظهار ابنها في الاحتفالات الرسمية باعتباره الأخ الأكبر لبريتانيكوس الابن الشرعي للإمبراطور، وأصاب المرض الإمبراطور بعد زواج ابنته، وحدث فتور في العلاقة بينه وبين أغربينا، وعزم على إعلان تراجعه عن تبني نيرون، إلا أن يد أغربينا كانت أسبق إليه بالسم الذي لا يظهر أثره بعد الموت، لتتحقق خطتها بتولي ابنها عرش روما، وكان هدفها أن تكون هي الحاكم الفعلي.

سار نيرون في بداية عهده سيرة حسنة في قومه، مثل بدايات حكامنا الذي يسعون إلى كسب رضا الشعب لتستقر لهم الأوضاع، وتشير "الموسوعة العربية" في موقعها على الإنترنت إلى أن هذا الإمبراطور الشاب وعد "مجلس الشيوخ في خطاب العرش بإشراكه في الحكم وإزالة المظالم والمحاكمات العرفية، وهلّل الناس للامبراطور الشاب وتنبأ الشعراء بميلاد عصر ذهبي، وصدقت التوقعات حقاً في سنوات حكمه الأولى". وكان الإمبراطور يحب الموسيقى والشعر وسباق الخيول والعربات منذ صغره، وله شغف بالغناء والتلحين ممسكا بقيثارته، لكنه كان كعادة الطغاة، يحاولون أن ينسبوا إلى أنفسهم العبقرية في العديد من المجالات، فيحاولون أن يكونوا كتابا أو أدباء أو يدعون تذوق الموسيقى، وكل هذا بريء من كثير منهم. مارس نيرون التمثيل، وشارك في العديد من المسرحيات، وكان الممثلون لا يجرأون على التقليل من موهبته، وفي مجال سباق العربات كان يقوم بمنافسة الآخرين، خاصة عندما يذهب إلى روما، وكانوا يقدمون له الجوائز التي يعود محملا بها إلى روما باعتباره الفائز الذي لا يغلبه أحد، وهل يجرؤ أي شخص –مهما كان تفوقه- أن يتغلب على الحاكم؟!

أراد نيرون تثبيت عرشه وإبعاده عن مصادر التهديد، ولأجل تنفيذ هدفه تحول إلى سفاك لدماء من يظن أنه سيكون عقبة أمام تحقيق استقرار حكمه، بدأ بدس السم لمنافسه المحتمل على العرش لبريتانيكوس الابن الشرعي للإمبراطور السابق، فدس له السم ليفارق الحياة.

لم يرض نيرون لنفسه أن يكون حاكما في صورة "ديكور"، ورفض أن تكون أمه هي الحاكم الفعلي، وظلت المنافسة محتدمة بينهما في الخفاء، إلى أن قرر التخلص منها، وحاول عدة مرات، إلى أن استطاع قتلها على يد مجموعة من الجنود بقيادة صديقه انيكيتوس. وأثارت الحادثة هياجا لدى الشعب، إلا أن الأمور هدأت بعد أن استطاع نيرون كسب عطف ومساندة أعضاء مجلس الشيوخ وقادة الجيش، ونزلت العطايا على قلوبهم بردا وسلاما، فكانوا أكثر توحدا بحاكمهم الذي لا يرون أفضل منه. وكانت الخطوة التالية التخلص من زوجته أوكتافيا، طلقها، ثم طلب من صديقه انيكيتوس أن يشهد بأنها دبرت محاولة انقلاب على عرش نيرون، وأن مكافأته أن يسلم نفسه إليها، ثم صدر الحكم بإعدام أوكتافيا. وظل نيرون يتخلص من كل شخص يذكره بالماضي، مثلما يفعل كثير من عظمائنا، فدبر حصارا لأستاذه ومعلمه سينيكا، ما دفعه إلى الانتحار.

أما أشد التهم التي توجه إلى نيرون فهي إشعاله حريقا مروعا في روما على من فيها، استمر عشرة أيام، من أجل بنائها من جديد، وأنه اعتلى برجا وظل يردد أشعار هوميروس في وصف حريق طروادة، واتهم نيرون المسيحيين بإشعال الحريق، ومارس اضطهادا كبيرا ضدهم، إلى أن استاء الجميع من تصرفاته، وتخلى عنه حرسه، فلجأ إلى أحد القصور، وقضى على حياته بنفسه، ربما لأنه لم يجد طائرة يهرب بها.

كم طاغية مثل نيرون في عالمنا؟ ومن الذي يصنعهم ويجعلهم يستعبدون شعوبهم؟ الشعوب طيبة القلب تخدعها الوعود البراقة من الحكام في بداياته فيستبشرون بعهود من العدل والاستقرار والرخاء، ولكنهم يدركون بعد سنوات أن الدفة قد تحولت إلى امتصاص دمائهم وسرقة أرزاقهم تحت دعوى الإصلاح الاقتصادي الذي سيأتي بعد سنوات، لكن الرخاء لا يأتي، ويستمر استنزاف الشعوب التي لا تعمل سوى خادمة عند حكامها. وما أصدق شاعرنا العربي خليل مطران عندما قال عن نيرون:

 كلُّ قومٍ خالقُو نيرونِهم           قيصر قيلَ لهُ أمْ قيلَ كسرى

نحن الذين أتحنا الفرصة لنيرونات كل عصر أن يفعلوا فينا ما يشاءون، لم نحاول أن نعدل اتجاه الدفة عندما انحرفت عن المسار، وتركناهم يذهبون بها حيثما شاءوا، ولم ندرك الأمور إلا بعد تفاقمها، لكن إرادة الشعوب أقوى من القلة التي تحكمهم.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !