الزوبعة التي أثارتها خواطر " حمزة كشغري" على " تويتر" تثبت أن الطريق إلى بناء ثقافة الإختلاف وحرية الرأي في العالم الإسلامي مازال طويلا جدا. فقد أصبح هذا الكاتب السعودي " المبتدئ" ( بحكم حداثة سنه) المطلوب الأول لعدالة السيف في بلاد الحرمين. وكانت تغريداته كافية لإيقاظ وكلاء الدين ومن يتبعهم من " الغاوين" الذين بادروا إلى المطالبة بتنفيذ حكم الشريعة في حق حمزة. وهكذا صدر الأمر المطاع بإلقاء القبض على هذا الذي أجرم في حق الله ورسوله وكل المسلمين فقط لأنه اختار في لحظة حماسة أن يعبر عن رأي يخصه وحده، وربما لم يكن يحسب لتداعياته أي حساب.
كلمات حمزة شكلت موضوعا فرض نفسه بقوة في الساحة الإعلامية، بل إنه أصبح قضية رأي عام في السعودية، خصوصا بعد تدخل أعلى سلطة سياسية في البلاد في هذا الملف. وفي بلد مثل السعودية يعتبر هذا السلوك الذي صدر عن " كشغري" صك اتهام حقيقي ضده. وكان من الطبيعي جدا أن تتعالى كثير من الأصوات للمطالبة بقطع رقبته جزاء له على ما يراه شيوخ الدين تطاولا على الذات الإلاهية وإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية: " كشغري كافر ومرتد ويجب محاكمته". هو إذن في نظر أهل الحل والعقد من الأوصياء على الإسلام في حكم المارقين عن الدين. فماذا ستعني محاكمته؟. طبعا الحكم معروف والسياف جاهز لجز رقبته. وقد لا تشفع له توبته التي أعلنها بعد الضجة التي أثارتها تغريداته للحيلولة دون تنفيذ هذا الحكم.
كتب " كشغري" في إحدى خواطره: " نيتشه قال مرة أن قدرة الإلاه على البقاء ستكون محدودة لولا وجود الحمقى... ماذا سيقول لو رأى الهيئة؟.". أحسب شخصيا أن هذه الجملة تحديدا هي التي قصمت ظهر حمزة وقذفت به في غياهب محاكم التفتيش الإسلامية، رغم أنها تقبل التأويل ولا يمكن الحكم على معتقد كاتب القولة من خلالها، وذلك على الأقل من باب " ناقل الكفر ليس بكافر". غير أن حضور اسم الهيئة في المقالة له دلالة خاصة. إذ تتبوأ " هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في السعودية دورا بارزا في تشديد الرقابة على المواطنين والمقيمين هناك خصوصا في الأماكن العامة. وتمارس بذلك وصاية فعلية على سلوكات الأفراد وتصرفاتهم بشكل يجعل كل حركة تصدر عنهم محسوبة ومرصودة بدقة. الهيئة من خلال وظيفة الرقيب الديني تمارس إرهابا يوميا على المجتمع السعودي الذي لا يستطيع المجاهرة بمعاناته نتيجة هذه الحراسة المشددة . وفي كثير من الحالات يتم تقديم أشخاص للمحاكمة لأسباب واهية خصوصا في ما يرتبط بقواعد الحشمة وتجنب الإختلاط وغيرها من التفاصيل الصغيرة. وكل ذلك يتم باسم الدين وبدعوى حماية الإسلام والمسلمين وتطبيق شرع الله. والطريقة التي أقحم بها " كشغري" الهيئة في شذرة نيتشه فيها سخرية لاذعة من الواقع السعودي الذي يجسده الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وكأن الناس لا يتذكرون الله إلا عندما تكون حركاتهم وسلوكاتهم تحت أعين وآذان أعضاء الهيئة الذين ينتشرون في كل مكان.
نيتشه ينطلق من وجهة نظر إلحادية ويؤسس عليها موقفا فكريا لا ينفصل عن فلسفته التي اختارت تفكيك مقومات العقل الغربي الذي ظل لفترات طويلة حبيسا للغيبيات الميتافيزيقية وصكوك غفران الكنيسة. لكن المجاهرة بهذا الموقف في تربة متشددة وموغلة في الماضوية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى ردود فعل من قبيل ما شهدناه في موضوع حمزة. إذ مازال العقل الجمعي في العالم الإسلامي ( وليس في السعودية وحدها) بعيدا عن تقبل الدلالات العميقة لحرية الرأي والإعتقاد. مازالت قيمة " لا إكراه في الدين" مجرد آية تتردد على ألسنة قراء القرآن الكريم، لكنها موقوفة التنفيذ على مستوى الفعل والممارسة. ومادام وكلاء الدين وشيوخ الإفتاء جزءا أساسيا في المعادلة السياسية في العالم الإسلامي، فإن محنة " كشغري" لن تكون الأخيرة. ولا يمكن لنيتشه أن يعيش بيننا. محمد مغوتي.14/02/2012.
التعليقات (0)