مواضيع اليوم

نوع من الحب (قصة قصيرة)

أيمن عرفان

2011-03-21 04:50:41

0

أقدام تسير وحدها ، كان هذا هو الوصف الدقيق لحالتي و أنا في طريقي إليه ، أما العقل فقد قدم نفسه أسيرا لسلطان القلب ، وأما القلب فقد سلبته رغما عني بسحرها الأخاذ ، لا أدري كيف استطاعت أن تجعل مني عاشقا وأنا الذي كنت أري في الحب ضعفا ، وأرى أن الرجل الذي يقدم قلبه لامرأة فقد أصبح سجين عاطفته لا يملك من أمر نفسه شيئا ، بل هو أحوج الناس إلى الشفقة إذ أنه قد أصبح عبدا مملوكا بعد أن كان سيدا مطاعا ، إنني أهواها بكل ما أملك من وجدان ، وأرفضها بكل ما أملك من بقايا رجولتي ، فلست أنا من يسعى لسرقة زوجة من زوجها ، وإن كرهته ، وإن أحبتني ، فلما غلبتني الحيرة ساقتني قدماي إلى ذلك الصياد العجوز .

لطالما أمدني بخبراته في الحياة التي سلبت من عمره قرابة السبعين عاما تعركه ويعركها فتارة يهزمها وتارة تطرحه في أرض الهموم فيقوم وقد زادته المعركة بأسا وشدة ، دنوت من عشته التي بناها من بعض الأخشاب في مكان ما على أحد جانبي فرع رشيد ، كان يجلس جلسة القرفصاء التي اعتدت أن أراه عليها وقد أشعل أمامه نارا تضيء جانبا من سواد تلك الليلة من ليالي الصيف غير المقمرة وهو يتطلع إلى النار ينتظر حتى تخبو قليلا فيعد عليها كوبا من الشاي هو رفيق لياليه الطويلة .

رفع نظره إلي وقد ملأت وجهه تلك الابتسامة التي هي إحدى لوازمه ، سألني وكأنه يستحثني على الكلام كي أبوح بما تكن نفسي فقال : " كيف ترى الدنيا الآن ؟ " ، للمرة الأولى منذ زمن تخرج مني الكلمات دون تزيين أو تزييف فهكذا اعتدت أن أتحدث معه ، وكأن بركانا من الكلمات الممزوجة بالشجون قد تفجر ، قلت له : " لا أرى من الأراضي إلا أرضا قد تشققت فلا تجود برطب ولا يابس ، ولا أرى من السماوات إلا سماء قد اسودت فلا هي أمطرت ولا هي تركت ضوء القمر يمر ، ولا أرى من البهائم إلا ذئبا يأكل حمل ، ولا أرى من البحار إلا هياجا فلا صيد ولا سفر ، ولا أرى من الأيام إلا يوما أسعد فيه بلقاء الموت فيريحني مما أعاني " .

أجابني دون أن تفارقه ابتسامته : " عجبا ، ألم تر في الأرض عوداً أخضر قد شق موات الأرض ليعلن بهجة الحياة؟ ألم تر في السماء من رفعها بلا عمد ولو شاء لأسقط السماء على الأرض وأنت بينهما؟ ألم تر في البهائم تلك التي سخرت فتأخذ منها اللبن ثم تذبحها لتأكل لحمها؟ ألم تر في البحار ما خرج منها من لحم طري و لؤلؤ نقي؟ ألم تر من الأيام يوم أن ولدت فالتقمت ثدي أمك دون أن يعلمك أحد؟ ألم تر عنكبوتا أتقن صنع بيته دون أن يدرس فنون البناء؟ ألم تر فرخا ينقر بيضة فيخرج إلى نور الدنيا في موعده المحدد؟ " .

- " ماذا تقصد من كل ذلك؟ "

- " أقصد أننا يجب أن نتعلم كيف نرى ، فكل قبيح إذا التمست له حسنا أتتك معاني الحسن فيه تسارع ، ولو كانت مجريات الأمور في الدنيا من أهلها لحق لك أن تغضب ، أما إذا كان المدبر هو الحكيم فلا تحزن لأن كل شيء خلق بقدر وكل أمر جرى بقضاء " .

- " إذا فقد عرفتها بقدر و أحببتها بقضاء " .

ارتفع صوته بضحكات عالية حطمت صمت الليل من حولنا ، نظرت إليه في تعجب ، وبعد أن هدأت ثورة ضحكه سألته : " لماذا تضحك ؟ " .

- " لأنك لو كنت تحبها لما جئتني " .

- " لا أفهم " .

- " لو كان حبها قد ملك كيانك لما ترك في قلبك مكانا للتردد ، فالمحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه " .

- يبدو أنك عاشق قديم ! " .

- " ولا زلت ولكن شتان بين ما أراه أنا من الحب وما تراه أنت منه " .

- " فأخبرني كيف تراه أنت لأعرف الفرق " .

- " كان جدي يقول على البعير إذا برك في الأرض أنه أحب ، فهكذا أرى الحب ، أراه اعتكاف للقلب في محراب ذكر حبيبه فلا يفارقه أبدا ، أن تهب كلك لمن أحببت فلا يتبقى لك منك شيء ، أن تمحو صفاتك لتثبت صفاته ، وتخرج عن مرادك لتدخل طوعا في مراده ، فإذا تكلمت فعنه ، وإذا تحركت فبأمره ، وإذا سكنت فمعه ، فإذا حجبت بينكما الحجب تشتعل نيران الشوق في قلبك فلا يطفئها إلا علمك بقرب اللقاء" .

أذهلتني كلماته ، لم أتوقع من مثل ذلك الصياد العجوز تلك الكلمات الرقيقة ولا تلك المشاعر الفياضة . قلت له : " إنك تتكلم عن نوع من الحب لم أعهد له مثيل " .

- " يا بني ، إنني أتكلم عن النوع الوحيد من الحب الذي يدوم ، فكل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة ، فإن كنت تحب فيها جمالها فماذا ستفعل إذا ابيض شعرها وتساقطت أسنانها وتجعد جلدها واحمرت عيناها ، فاسأل نفسك ذلك السؤال : لماذا تحبها ؟ فإن وجدت لسؤالك جوابا فاعلم أن حبك لن يدوم " .

- " لقد حيرتني إن وجدت لسؤالي جوابا فهذا دليل على أن حبي لن يدوم ؟ " .

- " نعم ، لأنه طالما كان هناك سبب فإن هناك غرض ، أما الحب الوحيد الدائم يكون بلا سبب ، فقط لأن المحبوب يستحق الحب لذاته " .

- " وهل هناك وجود في دنيانا لذلك الحب ، هل هناك من يستحق الحب لذاته " .

- " الله ، ألم تر كيف خلقك من العدم ، ورعاك في بطن أمك نطفة وجنينا و أنت لا حول لك ولا قوة ، ثم من عليك بمن رباك ، فأطعمك وسقاك ، وكساك وآواك ، ثم إلى سبيله هداك ، فأرسل الرسل و أنزل الكتب ليصلح لك دنياك وأخراك ، سخر لك الشمس والقمر ، وبالنجوم في ظلمات البر والبحر هداك ، سطح لك الأرض ودحاها وجعل الجبال أوتادا فأرساها ، وبسائر نعمه ظاهرة وباطنة حباك ، تراه حين فعل ذلك كان ينتظر منك شيء ؟ هل بإيمانك تزيد في ملكه شيء ؟ هل بكفرك تنقص من ملكه شيء ؟ هو الذي لا يجب عليه شيء ومع ذلك إن واليته والاك ، وإن عصيته أمهلك ، فإن عدت إليه استقبلك وقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الخطايا . فغفر لك ،وتاب عليك ، وسترك ، ألا يستحق ذلك الإله الحب لذاته ؟ " .

- " فهل من الخلائق من يستحق ذلك الحب أيضا " .

- " ذلك الحب هو الأصل ، ومنه تتفرع أنواع من الحب هي بتبعيتها أيضا تدوم ، فذلك الرجل الذي وهب حياته كلها ليعرفك أنت بربك – رسول الله – ألا يستحق هو أيضا الحب ، هؤلاء الرجال – أصحاب رسول الله - الذين حملوا سيوفهم وقاتلو وقتلوا حتى تصلك أنت دعوة رسول الله ألا يستحقون هم أيضا الحب ، ثم هناك تلك المشاعر النبيلة التي حث عليها المولى عز وجل مثل الرحمة على الصغير والمودة التي تربط بين الرجل وزوجته الصالحة التي راعى في اختياره لها من البداية صلاح دينها ، فحب الله هو الأساس ومن أجله عليك بحب ما يقربك إلى رضاء حبيبك " .

- " قيس ليلى ، وجميل بثينة ، وعنترة عبلة ، أليسوا رموزا في عالم العشق ؟ " .

- " بل قل رموزا في عالم الضياع . فالقلب لا يسع إلا واحد . فمن ملأ قلبه بامرأة فأين الله في قلبه ؟ كيف يجتمع عشق الباقي و الفاني ؟ كيف يجتمع النور والطين ؟ من أحب الله كان في شغل به عن من سواه . ومن ادعى غير ذلك فقد كذب " .

- " ولكنهم خالدون في عالم العشق " .

- " هنا يخلد العشاق على منابر من نور ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر " .

- "وهي ، ماذا أقول لها؟".

- قل لها : لا تكوني "ليلى"، بل كوني "رابعة"

تسللت بعض أشعة نور لتشق ظلام ذلك الليل إيذانا بميلاد فجر جديد .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !