لليقين نور يشرق على القلب فتتقلص منه أفياء الشكوك وظلال الريب، فإذا أشرق هذا النور على القلب قبل أن تلابسه أدران الحظوظ والأهواء، وظلمات الأطماع والآمال بقرناء السوء، والغفلة بأعمال الضلال ومصاحبة الضُّلاَّل، اتسع تجويف القلب وقبل النور، فاستبان له معالم الحق وسبل الهدى والرشاد، وتكشف له الدنيا عن حقيقتها فعلم نفسه ودنياه ومآلها، فأقبل بالجد لتزكية نفسه وخلاصها من شوائب الرذائل، وطبائع السوء الحاجبة له عن كمالاته النفسانية، ومقاماته العلية، مستسهلا كل جهاد فى نوال هذا الحظ، معظما قدر أنفاسه التى ينفقها، متحققا أنها البراق الموصل، أو هى المراحل التى يقطعها فى خير الأعمال، لينال خير الجزاء، أو هى السجل الذى يطوى بأعماله ثم ينشر ليجازى بما تضمنه من خير أو شر.
فيكدح بانشراح صدر فى نيل الفوز، موجها وجهه للذى فطر السموات والأرض حنيفا، لا يلتفت وراءه ولا يمنه ولا يساره، خوفاً من ضياع نفس وطرفة وحركة بغير ربح وقرب وتقرب وعمل صالح نافع للجميع، فلا يلبث إلاَّ وقد زكت نفسه واتصلت بعالم الغيب، عالم الملكوت الأعلى ، وظهرت له الآيات فى الأرض وفى السموات، ثم يشرق له نور بين يديه ويمينه، فيرى أكمل الآيات وأجلى التجليات فى نفسه، ويشهد أنه الآية الكبرى والمثل الأعلى، ويقوى اليقين بالتمكين بعد التلوين، فيحضر بعد الغيبة، ويقرب بعد البعد، ويسكن بعد الحركة(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) سورة الرعد آية 15 لديها فالدنيا آخرة، لأنه ليس فى الدنيا ولا من أهلها وإن كان فيها بالجسم فقلبه معلق بالملأ الأعلى.
فإذا بلغ هذا المقام نال الفلاح، وتوالت عليه البشرى من الله تعالى فى الدنيا والآخرة، وكان مع الله، والله سبحانه معه وعنده، إلاَّ أنه بشر لا ينفك عن قيود البشرية؛ من القبض والبسط والجمال والجلال، إلاَّ أن مشاهداته تتفاوت، فقد يحزن لما لا يحزن الناس، ويفرح بما لا يفرح به الناس، لأن مشاهداته عن حقيقة التوحيد، فيشهد أسرار التوحيد فى شئون التجديد بلا لبس فى حقيقة التوحيد، بل لتحققه بالضعف والانكسار، والفاقة والاضطرار، فيخاف مما يشغله أو يلفت قلبه أو يمكن الشيطان منه عند تغير شأن، أو إبطاء لازم له، أو معارضة الجهلاء، أو حلول مرض، أو ظهور بدعة، أو ظهور أهل الضلال. كل تلك الشئون تحزنه خوفا من تلك المعانى، مع طمأنينة قلبه بنور التوحيد، فيبتهل للولى القريب، ويستغيث بالقادر المجيب، وقد يفرح بصغير الأشياء لأنه شهد المعطى فيها فيفرح به سبحانه. وتلك المقامات بها تظهر العبودية بحقيقتها النسبية على قدر العبد لا على قدر سيده، فإن العبد الأكمل والمراد الأعظم فرد الذات صلى الله عليه وسلم قال: (سُبْحَانَكَ لا نُحْصٍي ثَنَاءَّ عليكَ أَنتَ كمَا أثنيتَ على نفسِكَ).
اللهم إنا نسألك حسن اتباعه، والمحافظة على سنته صلى الله عليه وسلم، ونوال شفاعته وجواره فى الدنيا والآخرة يا رب العالمين آمين.
التعليقات (0)