جراء تعرض مسار العملية السياسية الجارية في العراق الفدرالي لمختلف المعوقات الميدانية، يحق لأي مهتم بالشأن السياسي أن يتساءل: لماذا ولمصلحة مَنْ يتم افتعال كل هذه الاختلافات والإحترابات المتبادلة بين مختلف الفرقاء في العراق الجديد السائر نحو مزيد من الدمقرَطة على أنقاض الأنظمة الاستبدادية التي حكمت بلاد الرافدين بشكل شمولي وبلغة الحديد والنار التي أكلت الأخضر واليابس على مدى عهود؟!، أهو امتداد لثارات دفينة ومتوارثة ويتم إيقاظها بفعل فاعل طغموي متربِّص بهذه الحقبة الانتقالية لتفعل مفاعيلها السلبية لصالح مفتعليها الذين يبدو أنهم يجدونها فرصة ذهبية للاصطياد في المياه العكرة والانتقام من الآخر وسط الفراغ الأمني المؤقت الذي خلفته سنوات ما بعد سقوط نظام البعث البائد؟، أم أنها ظاهرة خطرة بأسبابها ودواعيها وخلفياتها الغامضة ونتائجها التي قد تكون وخيمة على الجميع؟، أم أن قدَرَ معشر الرافدين هو أن يبقوا يغوصوا في هكذا حالة نزاع بيني دائم؟، وإلى متى يدوم مسلسل هذه المآسي المحزنة والمؤذية في آن واحد؟.
بهكذا غيض منْ فيض منَ التساؤلات أردت أن أخوض في وصف حيثيات هكذا موضوع شائك ومحيّر، فالخلافات الداخلية (العراقية – العراقية) التي أردنا لها مراراً وتكراراً أن تندثر دون رجعة، باتت شبه دائمة، خاصةً وأن بعض الجهات ما زالت متعنتة في سلوكها ومصرة على إثبات (أحقيتها ومشروعيتها) في الاستفراد بالسلطة دون الآخرين، مما يخلق المزيد من حالات الفتنة والتحدي والمتنازعات المرفوضة جملة وتفصيلاً.
حقاً إنه لمن دواعي الأسف الشديد، أن يتم في هذه المرحلة بالذات إثارة الخلافات بين مكونات هذا البلد الأطيافي المتعدد القوميات والطوائف والمذاهب، والتي أدت فيما أدت إلى ازدياد حدة التوتر والمشاحنات السلبية داخل البيت العراقي المنقسم أصلاً على نفسه والذي هو بحاجة ماسة إلى إصلاح ذات البين وإلى إعادة ترتيبه وتهويته وتعقيمه من جديد ووفق أسس توافقية تنصف جميع الأطياف المتجاورة عبر التاريخ.
إنّ الأمر المؤسف الذي يحدث على أرض الواقع هو أن الخلافات تتعمّق وتأخذ مداها الأفقي والشاقولي إلى درجة التشكيك بالآخر والإفتاء بهدر دمه، مما يبعث على ارتياب وعدم ارتياح كل العراقيين الغيورين على حاضر ومستقبل الإنسان العراقي بغض النظر عن انتمائه القومي أو الديني أو الطائفي، ليس هذا فحسب بل إن استمرار مثل هذه النزاعات التي باتت كالجرح النازف هو أمر مريب وينذر بالمخاطر الجمة في ظل استمرار تحرّش بعض الدوائر الإقليمية بالملف العراقي المغموس بدماء أبنائه الكورد والشيعة والسنة وغيرهم.
إنّ الأصل في مشكلة العراقيين المبتلين بمختلف البلاوي هو أن هنالك ثمة نزعتين أو اتجاهين يتسابقان على كيفية المقدرة على الاستفراد بزمام الأمور والمبادرة في عراق اليوم:
أولاهما: اتجاه شمولي فئوي يفكر بشكل مركزي ويدّعي امتلاك كامل الحقيقة والأحقية لنفسه وينزع لجهة إعادة عقارب الساعة السياسية العراقية إلى الوراء والإبقاء على الأوضاع على ما كانت عليه في العهود الاستبدادية التي كانت سائدة فيما مضى، عبر التمسك بمبدأ التحزب الأعمى وتصدير الأزمات والتخندقات الطائفية والإصطفافات المجاكراتية مع هذا الطرف القريب ضد ذاك الآخر البعيد للتقرب منه والإستقواء به والاستفادة من نفوذه وظلاله.
أما ثانيهما: فهو عراقي أصيل يعتز بعراقيته ويفكر بشكل لا مركزي ويعمل باتجاه السعي ـ ولو بأداء بطيء بحكم تعرضه للعراقيل – صوب عرقنة العراق عبر التلاقي والتوحيد والعمل المؤسساتي الجماعي، وذلك من خلال تفعيل وتطوير النظام الفدرالي على طريق البحث عن الحلول الممكنة لإنقاذ البلاد والعباد من حالة التشتت والانقسام والسير معاً نحو عراق إتحادي دستوري تسوده العدالة والحق والقانون.
وبما أنه أضحى من الطبيعي جدا أن تنشأ الاختلافات والتباينات في الآراء والمواقف بين هذا الاتجاه أو ذاك في أي بلد كان، فلا مانع إذاً والحال هكذا من دخول سائر المكونات العراقية في معادلة التنافس الإيجابي الحرّ، وأن تسعى كل الاتجاهات إلى البدء بالحوارات البناءة لتشكل معاً عبر الالتقاء الدائم حراكاً نوعياً من شأنه تحويل البيت العراقي من خيمة شعوبوية منشقة على نفسها إلى بناء مدني متين البنيان ومعقم الزوايا والرفوف، وليتشكل بجهود الجميع مناخ توافقي أشبه ما يكون بالكل المختلف في إطار دولة الدستور والحق والقانون، أي الكل الذي يتسع للجميع ويستوعب الجميع ويستنهض بنهوض الجميع، وهنا لا بد من التمييز ما بين مفهوم الكل المختلف أي التعددية السياسية والتنوع الديمقراطي بأشكاله الكثيرة، وبين التشظي والتشرذمية المفرطة التي ساقت وقد تسوق بقافلة أهل الفرات ودجلة إلى غياهب العنف والعنف المضاد والفوضى والتنازع والأزمات المستعصية.
لكنَّ الأداء الحضاري الذي بمقدوره عصرَنة العراق، لا يمكن أن يتم بالأقوال والوعود والتسويفات والمواعظ، وإنما بالأفعال وبتوفير الحد الأدنى من المصداقية المطلوبة لإنجاح مثل هكذا حالات تفاعلية جامعة ينبغي أن تجري بين اتجاهات مختلفة تعمل معا وتحتك فيما بينها في ساحة واحدة، إلى جانب ضرورة تحلي الجميع بالإيمان المشترك بالحراك الجماعي صوب المؤسساتية في الفكر والممارسة وفي الطرح والأداء، وضرورة العمل على تحديث عقل ومزاج الإنسان العراقي وخاصة المهتم بالشأن السياسي والذي ينبغي الارتقاء به إلى صيغ توافقية أكثر لحمة ووعيا وتمسكا بالدستور الذي لا يجوز لأحد تجاوزه أو التعدي عليه مهما كانت الدواعي والأسباب، على طريق الوصول إلى عراق فدرالي خال من الاختلافات حقناً لنزف دماء الآدميين الأبرياء.
التعليقات (0)