نوبة شجاعة
قصة قصيرة كتبها: خليل الفزيع
هوت على صدغه صفعة قوية، تلاها سيل من الشتائم المقذعة انصبت عليه من عمه متعب المعروف بمزاجه الحاد، وغضبه الشديد لأتفه الأسباب، هو ليس عمه بالنسب، لكن كونه مديرا للمصنع، أهله لأن يناديه كل العاملين في المصنع بهذا اللقب.. لم يكن صابر قد ارتكب ذنبا ليتلقى هذه الصفعة التي أحدثت دويا هائلا في أذنيه، وأخلت بتوازنه حتى كاد يقع على الأرض، وكل ما في الأمر أنه تأخر قليلا في جلب كأس الشاي للعم متعب.. وليس أمام صابر سوى ابتلاع الإهانة بل الإهانات التي تعود عليها.. إذ لا يمر يوم إلا ويكون قد تلقى فيه صفعة أو رفسة أو شتيمة.. من العم متعب.
لم يستطع أن يتفوه بكلمة واحدة.. وبخطوات مثقلة بالمهانة انسحب من مواجهة يعرف أنه غير مؤهل لخوضها.. عاد إلى المطبخ ليشغل نفسه بتنظيف أدوات الشاي والقهوة، استعدادا لأي طلب جديد من أحد الموظفين العاملين في إدارة مصنع السجاد الذي تملكه أسرة متعب، وقد تركت أمر الإدارة له باعتباره أكبر إخوته.
صابر.. واحد من عمال المصنع الذين أوكلت لهم مهمات متنوعة، منهم من يراقب ماكينات النسيج، ومنهم من يتولى إصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل، ومنهم من يحرص على مراقبة الجودة، ومنهم من يتولى تخزين ما يتم صنعه، بينما تتولى الآلات الجزء الأكبر من حجم العمل، وأوكلت مهمة تنظيف المصنع في نهاية كل يوم عمل.. إلى صابر، إلى جانب عمله لإعداد الشاي والقهوة للموظفين والمراجعين، وهم أكثر مما قد يتبادر إلى الذهن، وجميعهم من مندوبي المشتريات لمحلات بيع السجاد، وقد اتخذ موظفو الإدارة مكانا قصيا من المصنع خلف عازل زجاجي، لكنهم كانوا تحت نظر وسمع متعب.. الذي لم يكن محبوبا من أحد، لسرعة انفعاله، وشدة غضبه، وأكثر من يتحمل الأثر السيئ لهذا الانفعال والغضب هو صابر.. مما جلب تعاطف جميع الموظفين والعمال معه.. وقد لاموه كثيرا على جبنه وضعفه أمام المدير، وزاد ذلك من نقمتهم على متعب الذي لم يكن يعامل أحدهم بما يستحق من الاحترام، ليرسخ في أذهانهم الخوف منه.. وهو خوف مغلف بالكراهية.
ما دفع صابر للقبول بهذا العمل الشاق، وتحمل إهانات المدير، هي حاجته الماسة إلى ما يقبضه من راتب في نهاية كل شهر، يعيل به أسرته.. ومن رحمة الله عليه أنه ورث بيتا متهالك البنيان، في حي شعبي.. يضمه وأسرته، ويحميه من غائلة الدهر، وهو الذي لم يحظ بالتعليم، كما لم يكتسب خبرة في أي مهنة مجدية رغم تجاوزه الخمسين من عمره، ولأنه قد تزوج متأخرا.. فلا زال أولاده على مقاعد الدراسة، وهو مصر على أن يواصلوا تعليمهم مهمـا كلفه الأمـر.. في يقينه أنه أكـبر سنا من مدير المصنع، وعليه أن يرأف به، ويحترم شيخوخته، لكن رعونة متعب كانت هاجسه المزعج، فماذا لو استغنى عن خدماته؟! وماذا سيكون مآله لو طرأ ما يحرمه من العمل.. ليس للطمأنينة من مكان في وجدانه.. وليس من وسيلة لطرد القلق بعيدا عن نفسه.
كان يحمل صينية الشاي إلى مكتب متعب.. توقف عند مدخل المكتب عندما رأي مندوب أحد محلات بيع السجاد وهو ينزل جام غضبه على متعب، وقد احمر وجه المدير، وبان الغضب الشديد على محياه، لكن هذا المندوب العملاق.. يمكن أن يسحقه بضربة واحدة من يده الضخمة، ووجه الخلاف ـ كما فهمه صابر ـ أن المندوب يريد رد بعض السجاد إلى المصنع بعد أن اكتشف به بعض العيوب، ومتعب يصر على أن هذه العيوب ربما حدثت بسبب التخزين في المحل، ولا دخل للمصنع بها، لكن هذا الكلام لم يقنع المندوب.. ثارت ثائرته.. أزبد وأرعد وهدد.. توعد بالويل والثبور، وعظائم الأمور.. لمدير المصنع الذي بدا في نظـر صـابر وقد أوشـك على الانفجار، وأمام هذا التحدي تمادى المندوب في موقفه.. اشتد الموقف تأزما، إلى درجة التشابك بالأيدي.. كل ذلك كان سببا في تجمع عدد من الموظفين للتفرج على ما يحدث، وقلوبهم مفعمة بالأمل في أن يلقي متعب على يد المندوب (علقة ساخنة) تكسر شوكته، وتخفف من عنجهيته في التعامل معهم.. وتهز هيبته أمامهم.. بعد أن يشهدوا هزيمته.
سارع صابر إلى وضع صينية الشاي على أقرب طاولة.. تصدي للكمة كانت ستهوي على رأس متعب.. تلقاها صابر بشجاعة.. أسقطته أرضا.. تمالك نفسه.. سارع للوقوف في وجه ذلك المندوب العملاق.. شبك أصابع يديه معا ليشكل قبضة قوية، وجهها بعنف إلى أنف المندوب، الذي بدأ يتألم بشـدة، والـدم ينزف مـن أنفـه.. وسط دهشة الجميع.
التعليقات (0)