تتفاوت مواقف الحركات الاسلامية حول مشاركتها في السلطة السياسية في البلاد العربية كون هذه الأخيرة في نظر الكثيرين من منظّري هذه التيارات سلطة تحكم "بغير ما أنزل الله " أو انها "سلطة غاصبة " لا تنعقد في غيبة الامام. وان كانت هناك اختلافات جوهرية و واضحة بين حركة وأخرى، فإن المشترك بينها جميعًا إقرارها واتفاقها على غياب الدولة بشكلها "الاسلامي" الشرعي الصحيح الكامل في العصر الحالي.
ولسنا بمعرض مناقشة هذا الموضوع الذي تجاوزه الزمن تحت وطأة المتغيرات الفكرية المعاصرة التي أرخت بظلالها على كوكب الأرض كله بما فيه من أحزاب وتيارات دينية وغير الدينية، الأمر الذي نزع الكثير من الأقنعة عن مشاريع سياسية مصلحيّة بالأساس تلبست بلبوسات شتى على مر العصور، إلا أن مشاركة التيارات الدينية الشيعية في الانتخابات والدخوال للبرلمانات العربية يطرح العديد من التساؤلات حول الاشكاليات والعلاقة القائمة بين مرتكزات الفكر العقائدي والممارسات العملية.
بين ولاية الفقيه و البدائل العملية:
وتشكل تجربة "حزب الله " في لبنان نموذجًا متقدمًا يعكس بشكل صارخ وواضح ابتعاد أعمال اللاهوت عن عمل السياسية التي هي من صنع العباد، وعلى الرغم من الغطاء الديني للحزب فإن ممارسات الحزب السياسية والتعاطي مع الأحزاب اللبنانية والقوى الأخرى تعكس التناقض بين الحزب كفكر والحزب كممارسة بغض النظر عن تقيم ذلك كون هذه المسألة تُحسب له أم عليه !
وعلى ايقاع التحولات المتسارعة في الداخل اللبناني، لا يزال مفكري "حزب الله " يبذلون الجهد لمحاولة تأويل الفكر "الأصولي" الذي يستقي تعاليمه من مبادئ "الثورة الايرانية " وجعله اكثر انساجمًا مع الحالة اللبنانية؛ ومع تسجيل بعض النجاحات والاخفاقات يبقى المنهج اللاهوتي هو الذي يؤجج الجماهير الشيعية والخطاب "الكربلائي" هو المحرك الشعبوي الداعم للحزب في انتخاباته النيابية.
ويقوم مُنَظِّري الحزب بممارسة دور السياسي ودور المفكّر الذي يطرح الأسئلة القوية وهو يدرك الحاجة إلى مقاربة بدائل حقيقية "لبنانية" ومعاصرة لفكر الثورة الثمانينيّ بما فيه مبادئ الخميني نفسه، بدلا من الخطاب التأويلي والتَّمجِيديّ الذي يعتمده وعّاظ الحوزات الراديكاليون والسيّاد من أصحاب العمائم السوداء، ويحاولون من خلاله عدم المسّ بتاريخ الثورة المليء بالأخطاء والكثير من الإخفاقات في وقت بدا من الضروري إعادة تقيم الفكر الثوري ضمن الأطر الفكرية للشيعة الإثنا عشرية.
وفي هذا السياق نسجل بعض نقاط الحرج العقائدي والديني التي يواجهها فقهاء الحزب مع بعض قواعدهم الحزبية، وان كانت معظم هذه السجالات تدور في اطر الحزب وكوادره "النخبوية ".
أولا: حزب الله وبحسب العقيدة الامامية التي ترتكز على المفهوم "الكربلائي" وتعتبره محورًا عقائديا حاسمًا في بناء الهوية الشيعية، فإن كلّ سلطة لغير الامام هي سلطة "جائرة وغاصبة " ويجب اعلان "الجهاد" ضدها من اجل محاربتها، والطريق يكون عبر "الاستشهاد" من أجل إعادة السلطة الى "الأئمة اصحاب الحق "، كما وان الرضى الشعبي والجماهيري عن اي سلطة كانت لغير الامام لا تُعد شرعية بحالٍ من الأحوال، وان التفاف الناس مهما كان عددهم وحجمهم حول سلطة ما لا يمنحها الشرعية، وهم يستحضرون المشهد الحسيني الكربلائي ورموزه ليؤكدوا على هذا المفهوم الذي يدخل في صلب الواجبات الشرعية الشيعية.
و"حزب الله" يصرّح ان النظام السياسي اللبناني الحالي هو السلطة السياسية الشرعية، ويحاول ان يجد لنفسه مخرجًا من أزمة "الشرعية" تلك في حصرها ضمن خصوصيات الحزب لا عموميات الخط السياسي للطائفة الشيعية.
ثانيًا: اعتبار الوليّ الفقيه له ولاية "مُطلقة " تتبلور من خلالها عقيدة "الغيبة" لهذا الإمام المنتظر الذي لابد من "انتظاره"؛ و حزب الله يتعاطى ببراغماتية بالغة حيال عقيدة الغيبة فقد طوّر الفقه الشرعي السياسي الشيعي وأخرجه من فخ "غيبة الامام " و"انتظاره " ووجد حلا عبر مفهوم "الولاية الخاصة " التي تسمح لمن ينوب عن الامام بالتصرف مكانه أثناء غيابه وهم نواب الامام الذين يتحلون بشروط خاصة وهم فقهاء يملكون شروط المرجعية.
لا شك في أنه من الفريد والمثير في آن مَعًا ذلك التجاوز الغير معهود بين السياسة "الشرعية " من جهة و العقيدة الذي ينتهجها "حزب الله" من جهة أخرى في عملية مشاركته في الحكم ويُعَدُّ عمله هذا انتهاكًا صارخًا لمبادئ عقيدته الامامية الشيعية، وسواء كان يتعاطى مع الوضع على انه ظرف آنيّ واستثنائيّ وخلاف الأصل، أم كان يتعاطى معه على انّه القاعدة الاساس.
إذن فإن "حزب الله" يشارك في الانتخابات البرلمانية اللبنانية لسلطة لا يقر بجوازها أصلا ومعتقدًا غير انّه يتعامل معها ويقرّ بمشروعيتها واقعًا، ولقد استطاع ان ينهي المسألة العقائدية بشأن "مشروعية السلطة" مع القاعدة الجماهيرية التي لا تَخوض في السجال الفقهي بطبيعة الحال، عبر الربط المحكم بين الكوادر و"السيد" الذي ان قال "أطاعوه " كما سلموه مفاتيح عقولهم وقلوبهم ووثقوا بخيارته بشكل تام.
وقد سعى "حزب الله" الى استلحاق الشيعة في لبنان ما فاتهم من قطار التنمية والتعليم والنهوض وتحويلهم من طائفة "محرومة" الى طائفة "فاعلة " عبر عدّة محاور اعتمدها وبدأ العمل لها منذ الثمانينيات وهي التعليم والاعلام والمجتمع والدين والصحة، فأسَّسَ قواعد خدماتية استقطب من خلالها جماهيره، في وقت كانت الدولة اللبنانية غير قادرة على القيام بمهماتها تجاه رعيّتها، مكرّسًا بذلك موقعه السياسي الداخلي في الخريطة السياسية كأمر واقع في بلد يحمل الكثير من العجائب المتناقضة، وبرز واحدا من ابرز اللاعبين في لعبة التقسيم الطائفي، فيما يبذل الآن الجهد المكثف لاحلال تحالفات مع قوى سياسية وعلمانية ويسارية عبر اتقان رموزه للغة "وطنية" في محاولة منه لاقناع الجميع بأنه حزب وطني لبناني سياسي لا طائفي شيعي .
ربما يكون تصالحًا مفيدًا او غير مفيد ومفارقة تجمع بين أحزاب تدّعي القدسية والنسب "اللاهوتي " وأحزاب أخرى على الاقل تحيّد عمل الرب عن السياسة ان لم نقل ان بعضها يعتبر جزء من تكوينه الفكري قائم على "الالحاد".
فهل سينجح في تخطي جمهوره الشيعي لجمهور لبناني اكبر؟... ربما اذا تخلى بداية عن مسماه الالهي ونزع عن نفسه هالة القداسة وخلع ثوب العفة العقائدية !
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2009/2/409950.htm
التعليقات (0)