بقلم: د. محمد مصطفى سيف
عرفت مصر الزراعة منذ فجر التاريخ لما وطأت أقدام البشر أراضيها، واستوطنت على ضفاف نهرها، ثم راح أهلها يعلِّمون البشرية جمعاء ماهية زراعة الأرض، وكيفية استنبات خيراتها، بل أضحت تطعم العالم من هذه الخيرات حتى صارت مصر سلة القمح لروما القديمة إبان الاحتلال الروماني لها، ناهيك عن اكتفائها الذاتي من احتياجاتها الغذائية.
لقد حكى لنا التاريخ كثيرًا عن دور مصر في إنقاذ المنطقة المحيطة بها من مجاعات عديدة, حدث هذا في زمن يوسف عليه السلام، وهو عزيز مصر، وقد حلَّ الجفاف بالمنطقة وضربت المجاعة أهلها، ثم حدث ثانيةً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب فيما عُرف بعام المجاعة، حين أرسل إلى عمرو بن العاص يطلب منه قافلةً من الطعام؛ أولها في المدينة وآخرها في مصر.
هذه الأمة أصبحت الآن عالةً على غيرها من الأمم في توفير احتياجاتها الغذائية؛ فهي الدولة الأكثر استيرادًا للقمح في العالم، وهي الدولة التي تستورد من 40 إلى 60% من احتياجاتها الغذائية، وهي الأمة التي على وشك المجاعة حال نفاد النقد الأجنبي أو حال وضعها تحت الحصار الاقتصادي، فكيف لهذه الأمة أن تنهض من كبوتها الزراعية؟!
لقد استطاع محمد علي حين أراد أن ينشئ ما يسمَّى بمصر الحديثة إحداث نهضة زراعية شاملة، تمثَّلت في شق الترع والمصارف واستصلاح الأراضي، حتى وصلت مساحة الأرض المزروعة في عهده إلى ثلاثة ملايين فدان، وكان تعداد السكان ساعتها ثلاثة ملايين نسمة، ولم يقف عند هذا الحد، بل إنه وحَّد بين دولتي حوض النيل: مصر والسودان، لكن سياسة التجريف والإفساد في العهد البائد وقفت بالمساحة المنزرعة عند عشرة ملايين فدان، تقوم على سد الاحتياجات الغذائية لثمانين مليون نسمة، وأفقدتنا الشطر العزيز علينا: السودان؛ وذلك وفق مخطَّط أجنبي مرسوم بدقة وعناية وما على العملاء إلا تنفيذ هذا المخطط.
لقد حطمت الثورة عنا قيود العبودية، وأطلقت شرارة الرغبة والإرادة "أن نكون أمة سائدة لا مسودة وقائدة لا منقادة"، وآن لهذه الأمة أن تنتج غذاءها حتى يصبح قرارها من رأسها دون هيمنة إرادة سياسية علينا أو دون إملاءات خارجية تضر بمصالحنا.
إن أي نهضة زراعية تعتمد بالأساس على النهوض بعناصر العملية الزراعية، والتي تعتمد على توفر المياه وقابلية الأرض للزراعة وجودة البذور والتقاوي ومهارة الأيدي العاملة، ويسبق ذلك كله تحديد الاحتياج من وراء عملية الزراعة، وكيفية سد الفجوة بين الاحتياج وواقع الإنتاج الزراعي على الأرض.
إن السر في حياة النبات والقدرة على استصلاح الأرض يتمثل في توفر المياه، ولذلك وجب علينا تنمية مواردنا من المياه، وتعظيم الاستفادة من الموجود منها حاليًّا، وذلك اعتمادًا على استخراج المياه الجوفية وتنظيم الاستفادة من مياه السيول في مناطق السيول وتحلية مياه البحر اعتمادًا على الطاقة الشمسية والاقتصاد في كمية المياه المستخدمة في الزراعة باعتماد وسائل الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط وتغطية الترع والمصارف؛ لتقليل الفاقد من المياه عن طريق البخر.
آن لنا أن نتوسع في استصلاح واستزراع أراضٍ جديدة، تختلف طبيعتها من مكان لمكان ومن بيئة لبيئة، وحسب هذه المعطيات يكون المنتج الزراعي المراد زراعته، كما ينبغي تعهد هذه الأراضي بالرعاية والعناية وتوفير احتياجاتها من الأسمدة والمحسنات التي لا تجلب الضرر على النبات أو مستهلك النبات.
آن لنا أن نهتمَّ بالبحث العلمي التطبيقي، في إنتاج بذور نباتية عالية الإنتاج ومقاومة للأمراض، فنعظِّم بذلك إنتاجية الفدان، وأن نصل إلى مرحلة مقاومة للآفات لا تعود بالضرر على مستهلكي النبات.
كما ينبغي أن نطوِّر من أداء الفلاح المصري بتدريبه وتعليمه الجديد في عالم الزراعة، ونهتمُّ به وندعمه؛ حتى يكون إنتاجه إنتاجًا أمثل من حيث الكمّ والكيف، فيصبح وفيرًا وخاليًا من الملوثات الكيمائية والبيولوجية.
آن لنا أن نكسر الهيمنة الأجنبية علينا في زراعة "كمّ من الأرض" و"كمّ من المحاصيل"، وأن نعود إلى سياسة الدورة الزراعية لتنظيم أعمال الزراعة ونوع وكمّ المحاصيل المنتجة حسب الاحتياج الداخلي، وما هو المناسب للتصدير لجلب العملة الأجنبية.
آن للشطر العزيز السودان أن يلتئم مع شطره الآخر مصر؛ حتى تعود لحمة وادي النيل، ويحدث التكامل الزراعي بين أبناء شعب وادي النيل.
آن لنا أن نسطِّر نهضةً زراعيةً لمصر والسودان من جديد.
التعليقات (0)