سيظل يوم 23 أكتوبر علامة فارقة في تاريخ تونس الحديث. و ذلك لأنه شهد أول موعد انتخابي في البلد يقطع مع ممارسات سابقة كانت الإنتخابات فيها مجرد ديكور للتسويق الخارجي. تونس -التي بدأت منها شرارة الربيع الثوري الذي مازال يانعا في عدد من دول الشرق الأوسط و شمال إفريقيا- تستحق أن تكون مثالا يقتدى لكل دول المنطقة في سبيل الإنتقال إلى تجربة ديموقراطية حقيقية.
انتخاب مجلس وطني تأسيسي يمثل قطيعة مع عهد الإملاءات الجاهزة التي تعودت عليها شعوب المنطقة. فقد ثار التونسيون ضد نظام اختار أن يكمم الأفواه و يلغي صوت الشعب. لذلك كانت نسبة المشاركة في أول انتخابات تعرفها البلاد بعد الثورة كبيرة بشكل لافت. و هو ما يدل على وعي جماهيري منقطع النظير بحساسية المرحلة الحالية و دورها في بناء تونس الغد. و لعل القيمة الأساسية التي تؤهل تونس لاحتلال مكانة متميزة و قطع أشواط مهمة في البناء الديموقراطي هي طبيعة المجتمع التونسي الذي استفاد من نظام تعليمي جيد بالمقارنة مع المحيط العربي. ذلك أن الوعي المجتمعي يجعل كل المواطنين منخرطين في بناء أسس المرحلة الجديدة. و هذا هو ما يمنح للثورة دلالتها و معانيها بشكل تتحقق معه الأهداف التي من أجلها انتفض الشعب ضد نظام القمع و الديكتاتورية.
الإنتخابات التي يشهد كل المراقبين الدوليين و كذا الفرقاء السياسيين في البلد بأنها كانت نزيهة و شفافة تضع تونس على السكة الصحيحة، و تضع بالتالي حدا لممارسات " البنعلية " كما يصطلح عليها في أوساط الإعلام التونسي. و هكذا يبدأ هذا البلد مرحلة أخرى في تاريخه، لكن الشهور المقبلة ستكون مفصلية في تحديد ملامح تونس الجديدة. و من تم فإن المرحلة الإنتقالية تبتدئ منذ اللحظة التي تم الإعلان فيها عن نتائج هذه الإنتخابات. أي أن كل ما تم إنجازه منذ هروب بن علي حتى الآن كان عبارة عن مخاض عسير، لكنه انتهى بسلام بالمقارنة مع ما يجري في مصر مثلا. و هؤلاء الذين وضع الناخبون ثقتهم فيهم يتحملون مسؤولية جسيمة في إعداد دستور وطني ديموقراطي، دستور يتناغم مع المبادئ التي من أجلها تحولت شرارة البوعزيزي إلى ثورة شعبية عارمة.و هذا يعني أن اللبنة الأساسية في مستقبل تونس سيبنيها هذا المجلس التأسيسي المنتحب الذي ستكون أهم أولوياته كتابة دستور جديد و تعيين حكومة انتقالية تدبر شؤون البلد خلال هذه المرحلة.
لا يمكن بأي حال من الأحوال الحكم على نتائج الإنتخابات التونسية. نعم لقد أصبح حزب النهضة الإسلامي يحتل واجهة المشهد السياسي بعد حصوله على أكثر مقاعد المجلس، لكن تلك كانت إرادة التونسيين. و لا يحق لنا محاسبتهم على هذا الإختيار مادامت العملية قد تمت في إطار ديموقراطي. ثم إن نجاح هذا الحزب كان منتظرا و لم يكن مفاجئا. لكن ثقة التونسيين في " النهضة" لا يعني أنهم يريدون دولة دينية. إنهم يريدون تجربة أفكار أخرى كانت دائما عرضة للنفي و المصادرة في سياسات النظام السابق. التونسيون يتعلقون بكل أمل من شأنه أن ينقلهم إلى الغد الجميل الذي يحلمون به تماما مثلما تفعل كل شعوب المنطقة. و بارقة الأمل التي تلوح في أفقهم هي أخلاق الإسلام و سلوك الإسلام. لكنهم أبدا لا يريدون دولة إسلامية بالمفاهيم الطالبانية. لذلك فإن المكانة التي احتلها حزب النهضة في قلوب التونسيين يجب أن يحترمها قادة هذا الحزب لا أن يمتطوها لأغراض تحيد عن أهداف الثورة. ثم إن أغلب سياسيي " النهضة " عاشوا في دول غربية. و هم يدركون جيدا قيمة الديموقراطية و المدنية في إحقاق الحقوق و السمو بالإنسان. لذلك فإن الدستور الذي من شأنه أن ينتقل بالتونسيين إلى مصاف الديموقراطيات الحقيقية يجب أن يحافظ على الحريات بكل أشكالها دون أن يكون لأي طرف الحق في مصادرتها تحت أي بند من البنود. و مهمة حزب النهضة و باقي الفرقاء السياسيين في المجلس هي إعداد البلد لتحديات المستقبل.
المهم إذن هو نهضة تونس البلد و ليس الحزب. ففي الديموقراطية متسع للجميع، لكن الإنسان ينبغي أن يكون هو مركز الإهتمام في كل مشروع سياسي نهضوي. نهضة تونس تقتضي دستورا لدولة مدنية تقطع الطريق على كل أشكال الوصاية و الحجر. نهضة تونس أصبحت على المحك، والمطلوب الآن هو التطلع إلى المستقبل لا الإنحدار إلى الماضوية. محمد مغوتي.26/10/2011.
التعليقات (0)