أيام كانت مصر دولة، كان التخطيط يتولاه أهل الخبرة، وكان التوسع العمراني يتم وفق خطة طويلة الأجل مدروسة ومحسوبة، وبعد يوليو 1952 أصبحت إدارة البلاد تتسم بالعشوائية، وتجلت صور العشوائية في كل شيء وبرزت في التوسع العمراني، بسبب تولى أهل الثقة من الضباط مقاليد الدولة، وإقصاء أهل الخبرة، فأحاطت العشوائيات بالمدن الكبيرة، وتفاقمت الأزمة حتى أصبحت أمرا واقعا لا يمكن مداواته مهما بذلت الدولة من جهد ومال.
وابرز الأمثلة على أول توسع عمراني مدروس لمدينة القاهرة أوائل القرن الماضي ذكره الأستاذ جمال بدوي فى كتابه "نظرات فى تاريخ مصر" قائلا: وكانت ضاحية مصر الجديدة أول امتداد صحي مدروس للتوسع العمراني الذي شهدته مدينة القاهرة في مطلع القرن العشرين، فجاء تأسيسها على نمط الضواحي التي أقيمت حول العواصم الأوروبية، لامتصاص الزيادة الطبيعية في عدد سكانها، وتلافى حدوث انفجارات داخلية فى بنية المدن القديمة.. ويقوم مفهوم الضاحية فى عرف علماء العمران على أساس تكفل الضاحية لسكانها المسكن الصحي النظيف، وتوفر لهم كل احتياجات المعيشة الطبيعية من علاج وتعليم وترفيه، بحيث لا يهبطون قلب المدينة إلا مرة واحدة في اليوم، عن طريق ترام سريع "مترو" يحمل سكان الضاحية في الصباح إلى أعمالهم ويعود بهم بعد انتهاء العمل.. ومعنى ذلك أن التفكير فى إنشاء ضاحية مصر الجديدة جاء مصاحبا لظهور الترام فى شوارع القاهرة عام 1896، وما أثاره هذا الترام من طفرة اجتماعية وعمرانية هائلة.
وفي عام 1905 أسست شركة بلجيكية لإنشاء حي جديد في المنطقة الصحراوية التي تقع شمالي القاهرة.. والأمر الجدير بالتسجيل والتقدير أن هذه الشركة الأجنبية ومعها الحكومة المصرية آنذاك اتجهت إلى تعمير الصحراء، ولم يخطر ببالها أن تعتدي على المناطق الزراعية المتاخمة للقاهرة، والتي كانت مصدر الغذاء الرئيسي لسكانها.. والمؤسف أن ما حرصت عليه الشركة الأجنبية هي والحكومة المصرية الوطنية كان مجال تفريط من جانب الحكومات المصرية بعد ثورة يوليو 1952 حيث تركت الحبل على الغارب لظهور الأورام السرطانية فوق الأرض الزراعية في مدينة الأوقاف والهرم وعلى امتداد النيل من بنها الى حلوان.
واختارت الشركة البلجيكية منطقة صحراوية كان لها وجود تاريخي في العصر البطلمي وهى منطقة " هليوبوليس " التي قامت على أرضها جامعة فلسفية تخرج فيها أساطين الفكر اليوناني: ابقراط وافلاطون وارسطو وجالينوس، فضلا عن نوابغ العلماء في الطب والسياسة والبلاغة والحكمة.. وكان إطلاق اسم هليوبوليس "اى مدينة الشمس" على الضاحية الجديدة بهدف إضفاء الصبغة التاريخية عليها، وكان الأهالي استثقلوا الاسم فأطلقوا عليها من تلقاء أنفسهم اسم "مصر الجديدة".
وبدأت الشركة البلجيكية مشروعها العمراني على مساحة 25 كيلو متر مربع، اى ما يوازي حوالي 6000 فدان، اشترتها الشركة من الحكومة المصرية بسعر جنيه واحد للفدان، ثم قامت بتقسيمها وطرحها للبيع لمن يريد بسعر أربعين قرشا للمتر الواحد، على أن تتكفل الشركة بأعمال بناء العمارات والفيلات، ويسدد الملاك الجدد ثمن الأرض والبناء على أقساط مهاودة بفائدة 3% للأرض و5% للبناء.. ولقيت الشرطة إقبالا منقطع النظير، لدرجة أنها حين طرحت اسمها للاكتتاب العام تهافت المصريون والأجانب على شرائها، حتى تمت تغطية الأسهم 83 مرة، منها 45 مرة في الإسكندرية وأربع مرات في انجلترا وبلجيكا، والباقيات في القاهرة، وبلغت قيمة الأموال التي جمعتها الشركة أكثر من مليونين ونصف مليون جنيه، وشرعت الشركة في تشييد المساكن وتأجيرها، وإغراء أهالي القاهرة على سكن الضاحية الجديدة عن طريق الإعلانات في الصحف.. وهذه صيغة إعلان نشرته الصحف شهر سبتمبر 1909: "واحة عين شمس – هليوبوليس" للإيجار بجانب الجامع الجديد، والترامواي الذي ستنشأ قريبا، بيوت على الطراز التركي، مؤلفة من ثلاث غرف، أو أربع وفسحه وفرن، الأجرة من 60 الى 140 قرش شهريا.
ويبرز لنا الباحث المعروف محمد سيد كيلاني في كتابه "ترام القاهرة" من مراحل نشوء هذه الضاحية الجميلة.. فقد بدأ تسيير الترام السريع "المترو" سنة 1910 ليربطها بقلب العاصمة، بالإضافة إلى خط الترام "الأبيض" الذي كان ينتهي عند العباسية، وخط أخر إلى الزيتون.
ولم تغفل الشركة عناصر الترفيه والترويح عن سكانها فأقامت لهم مدينة للملاهي أطلقت عليها اسم "لونابارك" وجمعت فيها كل ما هو عجيب ومثير حتى تقاطر عليها أهل القاهرة، فكانت وسيلة ذكية لجذبهم واطلاعهم على معالم المدينة الجديدة وإقناعهم بسكناها بدلا من التكدس في الأحياء القديمة.
التعليقات (0)